الأزمة المالية العالميةمحمد سيد رصاص

نظرة مقارنة بين أزمتي 1929 و2008

محمد سيّد رصاص
تكتسب الأزمة البعد العالمي من خلال شمولها للمركز المالي ـ الإقتصادي للعالم، فيما لا نراها كذلك عندما تشمل بلداناً محددة ذات مكانة اقتصادية متوسطة \ = أزمة “النمور الآسيوية” عام 1997\، أو قطاعات اقتصادية معينة مثلما انفجرت فقاعة التكنولوجيا العالية (high-tech) في مؤشر (ناسداك) بين عامي 2001 و2002.
نشبت أزمة عالمية واحدة، في تاريخ النظام الرأسمالي، هي أزمة 1929، شملت المركزين، الصاعد /نيويورك عام 1929، ثم القديم/ لندن عام 1931، وقد كانت الأزمات الاقتصادية الكبرى ناتجة عن التصادم بين هذين المركزين، مثل أزمة 1837 الأميركية الناتجة عن رفع بنك انكلترا لنسبة الفائدة على الودائع بالبنوك الإنكليزية ما أدى إلى هجرة كثيفة للذهب الأميركي إلى البنوك الإنكليزية بالتزامن مع اصدار الرئيس الأميركي جاكسون مرسوماً يفرض شراء الأراضي المملوكة للحكومة الفيدرالية عبر مدفوعات ذهبية، أو أزمة 1893 الأميركية التي نتجت عن انخفاض معدل شراء الدولار في السوق البريطانية ما أدى إلى استنزاف الموجودات الذهبية الأميركية التي استخدمت للتبادل التجاري مع بريطانيا (بعد أن رُبط الدولار بمعادل ذهبي عام 1879).
في أزمة 1929 لا يمكن عزل عوامل الأزمة عن النتائج الاقتصادية للحرب العالمية، حيث استنزفت مصروفات الحرب معظم الموجودات الذهبية للدول الصناعية المتحاربة، ما عدا الولايات المتحدة وفرنسا، المالكتين بالعشرينيات لثلثي الموجودات الذهبية العالمية. هذا أدى إلى أن العاصمة الإقتصادية ـ السياسية ـ العسكرية للعالم ( لندن) قد وجدت نفسها في وضع مزعزع. بدأت مؤشرات أزمة 1929مع استعادة بنك انكلترا في نيسان 1925 لمستوى الغطاء الذهبي للجنيه وقدرة الأخير التحويلية للذهب كما كانتا عام 1913، مع قيمة جنيه عالية أمام الدولار، ما كان كارثة على الصناعة البريطانية وكافة السلع التصديرية، وبالتالي على قطاعي المناجم والزراعة، بعكس وضع المصارف ودوائر المال، وشركات التأمين، والملاحة. أنتج هذا حركة مالية قوية في السوق الأميركية، نتجت أولاً عن حركة الشراء البريطانية الكثيفة للذهب الأميركي بالعشرينيات، ثم تضاعف هذا مع هجرة قسم كبير من الرأسمال المالي البريطاني للضفة الغربية من الأطلسي. قاد ذلك، كله، إلى حركة إقراض كبرى للمال في السوق الأميركية تجاوزت دفترياً حجم المعروض النقدي من الدولار في شهر آب 1929 (8.5 مليارات)، ما أدى إلى ارتفاع في قيمة الأسهم لم تكن واقعية بالقياس للاقتصاد الفعلي. وعملياً، فإن الأزمة المالية الكبرى في وول ستريت، بين يومي الخميس24 أوكتوبر والثلاثاء “الأسود” في 29 أوكتوبر 1929، قد بدأت نذرها قبل شهر في 26 ايلول مع رفع بنك انكلترا لمعدل الفائدة على الموجودات البنكية بما يتجاوز معدل بنك الإحتياط الفيدرالي الأميركي، ما قاد إلى هجرة كثيفة للموجودات المالية بأميركا نحو انكلترا، وإلى حركة مرعوبة من بيع الأسهم بذلك الأسبوع داخل السوق الأميركية، وهو ما أوصل انخفاض قيمة مجمل الأسهم الأميركية نهاية ذلك الأسبوع لـ37%.
إن أزمة 1929 قد بدأت على شكل أزمة مالية أميركية بسوق نيويورك. اعتبرت “الإيكونوميست” البريطانية، بعدد 2 تشرين الثاني 1929 بأن “انفجار البالون المنفوخ المتمثل في قيمة الأسهم الأميركية سيكون جيداً لبقية العالم لحد كبير”، ثم انتقلت إلى شكل كساد اقتصادي أميركي كبير. لم ينهر قطاع البنوك الأميركية التقليدي إلا في الربع الأخير من 1931 مع شمول الأزمة المالية ـ الاقتصادية الأميركية للعالم وامتدادها للعاصمة الإقتصادية ـ المالية للعالم ( لندن ) ما اضطر بنك انكلترا في 21 سبتمبر 1931 لفك ارتباط الجنيه بالذهب، وهو ما أثَر كثيراً على الدول المرتبطة عملتها بمعادل ذهبي، مثل أميركا وفرنسا، حيث أدى هذا إلى اغلاق 1860 مؤسسة مالية أميركية خلال الأشهر الثلاثة اللاحقة كانت تحوي خزائنها ودائع بقيمة 1.450 مليارات دولار من أصل الموجودات البنكية الأميركية البالغة آنذاك 1.692، بعد أن حصلت بتلك الأشهر حركة مذعورة من المودعين ساحبة للذهب من البنوك الأميركية، أو لتحويل الموجودات الدولارية إلى ذهب، ثم لاختفاء قسم كبير من الذهب من السوق.
كان القرار البريطاني اعلاناً عن وصول الأزمة إلى مرحلة أزمة اقتصادية عالمية كبرى، واسدالاً للستار على حقبة طويلة من النظام المالي العالمي كان مركزه لندن، ليتحول الوضع بعد ذلك إلى جزر اقتصادية متصادمة ما كان ايذاناً بالحرب العالمية الثانية، التي نتج عنها نظام (بريتون وودز) عام 1944 المحدد للدولار كعملة رئيسية للعالم مربوطة بمعادل ذهبي حتى فكَت واشنطن ارتباطهما عام 1971.
هنا، كان الاقتصاد الغربي، بفرعيه الأميركي والأوروبي، مربوطاً بعد 1933 بإسم اللورد مينارد كينز ووصفاته الإقتصادية (تدخلية الدولة، التخطيط، الرعاية الإجتماعية والصحية، الضرائب العالية) حتى جاءت الثورة اللاكينزية مع ميلتون فريدمان، الذي كان يرى أن “الكساد الكبير” لم يحصل عام 1929 بل بالربع الأخير من 1931 مع انهيار النظام البنكي الأميركي، معتبراً الإقتصاد ظاهرة نقدية أساساً: كان الإنتعاش الإقتصادي الأميركي مبنياً على وصفات فريدمان لإدارة ريغان بالثمانينيات التي قالت برفع معدلات الفائدة على موجودات البنوك الأميركية ومانتج عن ذلك لاحقاً من هجرة كثيفة للرأسمال المالي العالمي للغرب الأميركي، وإلى قوة اقتصادية أميركية كانت قادرة على حسم الحرب الباردة عبر طرح سباق تسلحي جديد اسمه (حرب النجوم) ما كان السوفييت باقتصادهم المأزوم بمقدورهم مجاراته. كان هذا الإنتصار السياسي ـ العسكري، المترافق مع نجاحات اقتصادية، مؤدياً إلى حالة مد لـ(الليبرالية الجديدة)، التي أدلجت بداية طغيان الإقتصاد المالي على الإقتصاد، من خلال ظاهرة البنوك الإستثمارية وبدئها بإحتلال حيز غير مسبوق في الحركة الإقتصادية الكلية بأميركا، لتكون هناك فورتان: واحدة في (الهاي تكنيك)، انتهت فقاعتها عام 2002 لتعود لقيمتها الإقتصادية الفعلية بخلاف ما كان موجوداً على شاشات البورصات، ثم (العقارات)، لتعبر الإثنتان، وخاصة الثانية، عن حركة مالية دفترية، ممثلة في أسهم البنوك الإستثمارية أو شركات التأمين، لا تعبر عن الإقتصاد الفعلي.
تكبد القطاع العقاري الأميركي الخسارة الأولى في أيلول 2006، لتحصل بعدها الملامح الأولى لأزمة البنوك الإستثمارية في آذار 2008 (بنك بير سترنز) وصولاً لإنفجار الأزمة في أسبوع أيلول الثاني مع بداية انهيار قيمة أسهم البنوك والمؤسسات المالية الإستثمارية الكبرى المنخرطة في التغطية المالية لنشاطات القطاع العقاري الأميركي.
كاستنتاجات مقارنة، يمكن القول بأن أزمة 2008 تكتسب بعداً عالمياً من خلال شمولها (وبدئها ب) المركز المالي ـ الإقتصادي للعالم، امتدت تأثيراتها الفورية إلى كافة الأسواق العالمية. هذا يضعها في وضع يوازي أزمة 1929. أيضاً هي مثلها بدأت في القطاع المالي، وإن كانت لم تتأثر بها كثيراً حتى الآن البنوك التقليدية. هناك ملامح، يمكن تسجيلها من خلال خمسة أسابيع من عمر أزمة 2008، بأنها أسرع من أزمة 1929 في شمول الخارج غير الأميركي، وفي التأثير على الإقتصاد الأميركي الكلي عبر بدء الأخير في الدخول في “مرحلة كساد”، كما عبرت حاكمة فرع البنك الأميركي الفيدرالي بكاليفورنيا، ومن خلال مؤشرات تراجع مبيعات وأسعار التجزئة بالسوق الأميركية بشهر أيلول. ربما يكون انخفاض سعر برميل النفط الكبير في أوكتوبر 2008 علامة أولى على بدء الكساد الأميركي، وعلى تأثر اقتصاديات “الدول الأسرع نمواً”، كالصين والهند، به، من خلال كون السوق الأميركية هي الأكبر في استيعاب منتجاتها.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى