قضية فلسطين

النكبة بحسب المؤرخ الاسرائيلي ايلان پاپه

null

الخطة “دالت” وتطهير فلسطين من شعبها

الياس خوري

اثير الكثير من النقاش في اسرائيل حول اطروحة تيدي كاتس لنيل شهادة الماجستير من جامعة حيفا عن مذبحة الطنطورة (1999). لم يكن الصمت الذي فرض على الطالب الاسرائيلي مفاجئا، ولا سحب شهادته الجامعية وطرده، بعدما رفع جنود سابقون من لواء الكسندروني دعوى ضده بتهمة تشويه شهاداتهم التي ادلوا بها اليه. لكن ما أثارني هو الصمت الفلسطيني على هذه المذبحة. عدت الى رواية اميل حبيبي “المتشائل”، وحاولت ان استنطق باقية، زوجة سعيد، الأمر. باقية، مثلما تصفها رواية حبيبي، امرأة من الطنطورة، كانت تعيش في الصمت كي تكتم سرها. لكن السر سوف يقود ابنها ولاء الى اكتشاف الكنز، والى الاختباء في الكهف حاملا كنزه المؤلف من ذاكرته وسلاحه، مما سيدفع الأم الى الالتحاق بابنها والاختفاء معه، ليصير سرّهما الجديد جزءا من السر القديم.

الطنطورية في رواية اميل حبيبي لم ترو حكاية المذبحة الرهيبة التي حصلت في القرية الفلسطينية الساحلية في 22 ايار 1948، حيث اعدم اكثر من مئة قروي، اذ كان الصمت حجابها، والخوف على السر من ان يضيع همّها، لذا اخذت السر معها الى المغارة. وهي في ذلك تشبه غالبية الفلسطينيات والفلسطينيين الذين ضربوا ستارا من الصمت حول مأساتهم، وبقيت الحكاية متشظية في الكلام الشفهي وبعض النصوص القليلة.

في صيف 1978، عندما ذهبنا، الياس صنبر وانا، الى مخيم اليرموك في دمشق، من اجل زيارة قبر صديقنا عز الدين القلق، ممثل منظمة التحرير الذي اغتيل في باريس، استمعنا من والدته الطنطورية، الى حكاية المذبحة التي جرت في القرية، وهي الحكاية التي شكلت جزءا من نص كتبته عن القلق عنوانه “او كهزيع من الليل”، ونشر في مجلة “شؤون فلسطينية“.

لم تكن طنطورية اميل حبيبي تختلف عن والدة عز الدين الا في امر واحد. امرأة الرواية آثرت ان تموت مع ابنها في كهف السر، بينما لم يتسنّ ذلك لامرأة الحقيقة، فنطقت بسر المذبحة وكشفت الستار عن الرعب والخوف والمهانة.

رويت الحكاية للمؤرخ الاسرائيلي ايلان پاپه حين التقينا في الصيف الماضي في سالزبورغ، في اطار التدريبات التي كانت تجريها اوركسترا “الديوان الشرقي الغربي” بقيادة دانيال برنباوم. اسس هذه الاوركسترا الكاتب الفلسطيني الراحل ادوارد سعيد مع صديقه الاسرائيلي، كي تكون ارض لقاء بين الموسيقيين الشباب من اسرائيل وفلسطين والعالم العربي واسبانيا. وبعد وفاة سعيد، الذي كان يدير نقاشا ثقافيا وفنيا وسياسيا يوميا مع الموسيقيين الشباب، صار على مريم، زوجة سعيد، ودانيال، دعوة مجموعة من المثقفين للقيام بهذا الدور. في هذا الاطار الذي يجمع فتنة الموسيقى الى حيوية الشباب، بقيادة فنان ساحر، التقيت ايلان پاپه وافي شلايم ورشيد الخالدي والروائي والشاعر الاسرائيلي اسحق لاور. كانت اياما ساحرة، حيث كنا نمضي النهار بالتمتع بتدريبات الاوركسترا، والتفرج على قائدها المدهش وهو يحرك بعصاه نبضات قلوبنا، ثم ننصرف في المساء الى مناقشات جمعت السياسة الى التاريخ والادب.

مفارقة ذلك اللقاء انه شهد اعلان پاپه هجرته من اسرائيل واستقالته من جامعة حيفا، كما كان ايضا اللحظة التي سبقت منح الجنسية الفلسطينية للموسيقي الاسرائيلي.

رويت لپاپه حكاية الفرق بين المرأتين الطنطوريتين، بعدما كنت انهيت قراءتي لكتابه “التطهير العرقي في فلسطين”، الذي صدر بالانكليزية.

قلت له ان الكتاب سوف يصدر بالعربية عن “مؤسسة الدراسات الفلسطينية” في بيروت، فأجاب انه يعرف ذلك، وسألته متى يصدر بالعبرية، فابتسم بمرارة ولم يجب، فنقلت اليه اقتراح ياعيل ليرير بأن تقوم “دار الأندلس” في تل ابيب بنشر الكتاب باللغة العربية، وقلت مازحا: هكذا تنضم الى قافلتنا الصغيرة من الكتّاب العرب الذي ترجمتهم ليرير.

كنت اعرف ان الرجل عاش في ضائقة كبرى بعد الأزمة التي اثيرت حول اطروحة كاتس، لكني فوجئت به يقول انه سيغادر للعمل في بريطانيا، وانه قرر ترك اسرائيل، معيدا ذلك القرار الى مناخ العزلة الذي يحاصره في حيفا.

بعد رجوعي الى بيروت عدت الى قراءة كتاب پاپه من جديد، واذهلني مبناه الاخلاقي، فالكتاب، عدا كونه وثيقة تاريخية نادرة وصادمة، موقف اخلاقي ينطلق من اصالة البحث التاريخي ومن الشعور بأن الحقيقة يجب ان تقال، وبأن النكبة التي اصابت الشعب الفلسطيني يجب ان تروى في وصفها تطهيرا عرقيا.

قبل ان ابدأ حواري معه اختلفنا على مصطلح النكبة. فپاپه اخذ الكلمة في دلالتها المباشرة، في وصفها تقوم بتجهيل الفاعل. قلت له ان المعنى الذي اراده قسطنطين زريق في كتابه “معنى النكبة” يختلف جذريا عن هذا المفهوم. فزريق الذي الّف كتابه الصغير خلال احداث عام 1948 الدموية، اراد ان يقرأ نكبة الشعب الفلسطيني في وصفها جزءا من تعثر مشروع النهضة العربية، ولم يقصد دلالتها الحرفية. ثم ان الكلمة بمفهومها الجديد، فقدت دلالاتها السابقة، وصارت كلمة ملاصقة للتجربة المأسوية التي تعرض لها الشعب الفلسطيني، بحيث انها دخلت في جميع لغات العالم.

اعتراض پاپه على الكلمة، يعبّر عن هاجس الحقيقة الذي دفعه الى توثيق الخطة “دالت”، وكشف آلياتها في وصفها برنامجا تطبيقيا لمشروع التطهير العرقي الذي اشرف عليه مؤسس الدولة العبرية ديفيد بن غوريون.

البيت الأحمر” و”البيت الأخضر

بني “البيت الأحمر” في شارع اليركون في تل ابيب في عشرينات القرن الماضي، كي يكون مقرا لمجلس العمال المحليين، لكنه تحول في اواخر عام 1947 مقرا للهاغاناه. في هذا المبنى الجميل، الذي ذهب ضحية التطوير المعماري ليصير موقفا للسيارات مجاورا لفندق شيراتون، وضعت مجموعة من القادة الاسرائيليين عصر يوم الأربعاء 10 آذار 1948 الخطة “دالت”. ترأس الاجتماع ديفيد بن غوريون وشارك فيه إيغال يادين وموشيه ديان ويتسحاق ساديه وإيغال آلون وآخرون، وكانت نتيجة تطبيق الخطة اقتلاع 800 الف فلسطيني وتدمير 531 قرية واخلاء 11 حيا مدينيا من سكانه.

الجديد في كتاب پاپه انه يثبت بالوقائع والوثائق وجود خطة متكاملة لطرد السكان الأصليين من بلادهم. بني موريس، الذي صكّ عبارة “المؤرخين الجدد” في اسرائيل، كان شبه حاسم في عدم وجود خطة متكاملة للتطهير العرقي، وصارت رؤيته هي الصيغة السائدة في ادبيات المؤرخين الجدد، الى ان جاء كتاب پاپه ليقلب الصورة رأسا على عقب، مقدّما البراهين على ان “خطيئة اسرائيل الأصلية”، بحسب دومينيك فيدال كانت جزءا من مشروع سياسي وعسكري اعدّ في شكل متأنٍّ، كي يؤسس دولة شبه صافية عرقيا.

اردت ان اسأل پاپه عن العلاقة بين “البيت الأحمر” وما يطلق عليه اساتذة جامعة تل ابيب اسم “البيت الأخضر”، الذي يستخدم كناد لاعضاء هيئة التدريس في الجامعة. هذا المبنى كان بيت مختار قرية الشيخ مؤنس، التي دمِّرت. يروي پاپه في كتابه ان “قائمة الطعام في مطعم هيئة التدريس والادارة تشير الى ان المكان بني في القرن التاسع عشر، وان مالكه كان شخصا خياليا يدعى الشيخ مؤنس. هكذا يتم محو حقيقة ان جامعة تل ابيب نفسها بنيت على ارض قرية مدمّرة تم تهجير سكانها عام 1948. الا تثير هذه الحقيقة فضول الاكاديميين الاسرائيليين، ام ان طمس معالم النكبة هو شرط راحة الضمير الاسرائيلي؟ اثارت هذه الحقيقة غضب طالبة فلسطينية من قرية كفر برعم كانت تدرس الحقوق في الجامعة وحاولت عبثا ان تلفت نظر استاذها الى ان الصرح العلمي الذي يعمل فيه، بُني على عذابات الآخرين.

من انت وماذا تريد؟”، سألته.

قبل ان يجيبني احالني على فقرة من كتابه تقول: “اني اتهم، لكني ايضا جزء من المجتمع المدان في هذا الكتاب، واشعر اني جزء من الحكاية“.

روى پاپه حكايته: “ولدت في حيفا عام 1952، لعائلة يهودية المانية، حملت معها ذاكرة بلاد الغابات والبحيرات الى جبل الكرمل. كان ابي يعيش في اسرائيل وكأنه لا يزال في المانيا، يسمّي حديقة الصنوبر غابة، والبركة بحيرة، ويحاول التأقلم مع محيطه الجديد الذي صنعه اليهود الاشكيناز في حيفا. كنت جنديا في حرب “يوم الغفران” عام 1973 على جبهة الجولان، وعملت في الاستخبارات حيث تعلمت قليلا من العربية. الحرب غيّرت حياتي، حيث صُدمت بالطريقة التي عامل بها الاسرائيليون الأسرى. بعد نهاية الحرب انضممت الى حزب مبام، اي صرت صهيونيا يساريا. عام 1978 قررت متابعة دراستي في جامعة اوكسفورد والعمل مع البرت حوراني، ومن خلال هذا العمل التقيت بالكثير من المثقفين العرب. بدأت اكتشف الحقيقة من خلال قراءة الوثائق الاسرائيلية. ما صدمني في هذه الوثائق كان الحقيقة الواضحة التي تقول بأن قسما من الفلسطينيين على الأقل طردوا من بلادهم. وكان عملي مع مؤرخين اسرائيليين آخرين، من بينهم موسى اولمرت، شقيق رئيس الوزراء الحالي ايهود اولمرت، مناسبة كي افهم انهم رأوا في ذلك دفاعا عن النفس. اكتشاف المجازر والطرد هزّ عالمي. في تلك الفترة ايضا، بدأت ابحث عن تاريخ عائلتي في المانيا، ولم استطع ان لا ارى التوازي، من حيث الطرد، على رغم ان الألمان رأوا طرد اليهود ليس كافيا بل يجب ابادتهم. عدت عام 1984 الى اسرائيل بعد نيلي شهادة الدكتوراه عن اطروحتي حول السياسة البريطانية في فلسطين عام 1984، وكنت اول من اكتشف العلاقة الأردنية – الاسرائيلية التي كتبها آفي شلايم في ما بعد. السياسة البريطانية كانت واضحة في رفضها انشاء دولة فلسطينية، كانوا يطلقون عليها اسم “دولة المفتي”. وعندما عملت على كتابي “صناعة الصراع العربي – الاسرائيلي” (The making of the Arab Israeli conflict)، اكتشفت ان حرب 1948 لم تكن بين اقلية يهودية واكثرية عربية، العرب لم يغادروا بل طردوا. كان هذا الكتاب بالنسبة اليَّ بحثا عن الروح، قلت لنفسي اذا كان ما كتبناه صحيحا فهذا ليس نهاية القصة، لأن الدولة كلها تكون قد بنيت على جريمة. عندها قررت ان افعل شيئا، لذا قررت الانضمام الى الجبهة التقدمية عام 1992 (الحزب الشيوعي)، كي اعلن اني لست صهيونيا“.

وماذا عن الجامعة وموقعك الاكاديمي؟”، سألته.

بدأت مشاكلي مع الجامعة منذ انضمامي الى الجبهة. كنت اعطي درسا عنوانه “النكبة، الجذور والتاريخ”، وكان احد اكثر الصفوف شعبية في جامعة حيفا، يحضره طلاب من العرب واليهود. طلبت من طلابي الذهاب الى اماكن اقامتهم كي يسجلوا احداث العام 1948. احد طلابي، تيدي كاتس، يعيش في كيبوتس ماغال (Magal)، واكتشف ان الكيبوتس بُني على ارض قرية زيتا الفلسطينية المدمرة. طلب من اعضاء الكيبوتس السماح لشيوخ من القرية، يقيمون اليوم في قرى وادي عارة، بزيارة ارضهم من اجل شجرتي زيتون قديمتين. لكن اهالي الكيبوتس رفضوا. وعندما بدأ بحثه عن احداث عام 1948 اكتشف مذبحة الطنطورة. عمل في الارشيف ثم جمع شهادات شفهية من اهل القرية الذين يقيمون اليوم في الفراديس وجسر الزرقا، وقابل جنودا من لواء الكسندروني، الذين احتلوا القرية، وكانت المعلومات متطابقة. وعندما ناقش بحثه الجامعي بدأت الحكاية التي صارت معروفة اليوم. الجنود الاسرائيليون رفعوا دعوى قضائية ضده، الجامعة ضغطت كي يتراجع عن اكتشافه العلمي، وتم طرده من الجامعة. وهنا بدأت حرب الجامعة ضدي. ألّفوا محكمة جامعية خاصة من اجل طردي، ثم تراجعوا، ووجدت نفسي مقاطعا، والترقية الاكاديمية صارت صعبة. صرت معزولا كمثقف واكاديمي، واكتشفت انه لم يعد في استطاعتي ان اقيم حوارا مع مجتمع معبّأ عقائديا. حاولت ان اعطيهم مرآة كي يروا، لكنهم كسروها. وهنا بدأ مسلسل التهديدات الهاتفية وعبر البريد الالكتروني. ذهبت الى مركز البوليس كي اقول انهم يهددون اولادي، فأجابني آمر المخفر، ماذا تنتظر غير ذلك، وانت تحمل هذه النظريات؟“.

من سعسع الى الطنطورة

العرب يجب ان يرحلوا”، كتب بن غوريون لابنه عام 1937، “لكن المرء يحتاج الى لحظة مناسبة كي يجعل الأمر يحدث، كأن تحدث حرب مثلا“.

الحرب التي جرت عام 1948، يمكن تلخيصها بثلاث كلمات عبرية استخدمتها القوات الاسرائيلية ككلمات رمزية للطرد. “طيهور”، التي تعني التطهير، و”مطاطي”، التي تعني المكانس، و”بيعور”، التي تعني اقتلاع الخبز المختمر او التخلص منه قبيل عيد الفصح.

اجتياح قرية سعسع ليل 14-15 شباط 1948، تضيف الى الكلمات الرمزية الثلاث ما يمكن تسميته سوء التفاهم القاتل، الذي ينزع عن اللغة سمتها الرمزية ويحوّلها اداة للقتل المباشر.

اصدر إيغال آلون، قائد البالماح في الشمال، الأمر بمهاجمة سعسع، التي تقع قرب المدينة الرومانية القديمة قيسارية، وكلف موشيه كالمان، نائب قائد الكتيبة الثالثة، تنفيذ المهمة. هوجمت القرية في منتصف الليل تقريبا، ونشرت “نيويورك تايمس” في عددها الصادر بتاريخ 16 نيسان 1948، ان الوحدة لم تواجه اي مقاومة من سكان القرية عندما دخلتها وبدأت بتزنير البيوت بأحزمة الديناميت. وروى كالمان في وقت لاحق: “صادفنا حارسا عربيا فوجئ بوجودنا الى درجة انه لم يسأل مين هادا وانما ايش هادا. واجابه احد جنودنا ممن يعرفون العربية مازحا هادا ايش (ايش بالعبرية تعني النار) واطلق عليه رشقة رصاص. وتقدم جنود كالمان في الشارع الرئيسي ونسفوا في شكل منهجي البيوت واحدا تلو الآخر بينما كانت العائلات القاطنة فيها لا تزال نائمة. وفي النهاية، خلّفوا وراءهم 35 منزلا مدمرا وستين الى ثمانين قتيلا“.

مشهد اجتياح سعسع لا يختلف عن مشاهد اجتياح عشرات القرى الفلسطينية الا في ادخاله الالتباس اللغوي واللعب على الكلمات كعنصر اضافي على المشهد. اذ ان المسألة تتعدى الأسماء الرمزية للعمليات العسكرية، لتصل الى التلاعب بالكلمات. ايش، ماذا، تحمل جوابها في نفسها، لأن ايش تعني النار ايضا. ومن يعرف اللغتين العربية والعبرية لا بد ان يلاحظ القرب الشديد بين اللغتين على مستويات متعددة، من بينها وجود عدد كبير من الكلمات المتشابهة لفظاً والمختلفة معنى، في ما اطلق النحاة العرب عليه اسم الأضداد. غير ان عبقرية الجريمة استطاعت ان تتفوق على الخيال. اذ بينما اكتفى الروائي الاسرائيلي ا. ب. يهوشع بالاشارة الى التباس كلمتي ايش (النار) وايشا (المرأة)، في قصته “مواجهة الغابات”، من ضمن البنية الرمزية لعمله الأدبي، فإن الجندي استخدم الكلمة في معنييها العربي والعبري كي تكون وسيلته لقتل الفلسطيني.

الاشارة الى قصة يهوشع او الى رواية اموس عوز تأخذنا الى الفلسطيني الأخرس (يهوشع) او الفلسطيني الذي لا يُرى الا داخل مبنى رمزي مصنوع من تهويمات الاغتصاب، لكنها تشير الى ضرورة اخراس الضحية الفلسطينية، او اضفاء طابع انثروبولوجي رمزي عليها، كما في رواية “ابتسامة الجدي” لديفيد غروسمان.

غير ان الضجة التي اثيرت حول اطروحة تيدي كاتس عن مذبحة الطنطورة، تشير الى الوجه الآخر للمسألة، لأن اخراس الضحية الفلسطينية سوف يفرض ايضا اخراس الاسرائيليين ومنعهم من قول الحقيقة.

لا تختلف مذبحة الطنطورة عن مذبحة سعسع الا في تفاصيل الحكاية. فبينما اعترف كاتسمان بما جرى في سعسع، فإن كشف حكاية الطنطورة من خلال بحث اكاديمي قدّمه طالب اسرائيلي في جامعة حيفا، اشار الى صعوبات الكلام عن وقائع النكبة في الثقافة الاسرائيلية.

المجزرة كما رواها شهود عيان تتلخص في تجميع القرويين على الشاطئ واعدام مجموعة من الشبان وصل عددهم الى حوالى المئة شخص، ثم اجبار بعض اهالي القرية على تجميع الجثث ودفنها في حفرة.

هاجم لواء الكسندروني الطنطورة في 22 ايار 1948، بعد نجاحه في طرد سكان قريتي كفرسابا وقاقون.

اورد پاپه وصف ضابط يهودي للاعدامات في الطنطورة، على الشكل الآتي:

اقتيد الأسرى في مجموعات الى مكان جانبي يبعد مئتي متر وقتلوا رميا بالرصاص. كان الجنود يأتون الى القائد العام ويقولون: ابن عمي قتل في الحرب، يسمع القائد ذلك ثم يأمر الجنود بأخذ مجموعة، يراوح عددها بين خمسة وسبعة اشخاص، واعدامها. واتى جندي وقال ان اخاه قُتل في احدى المعارك، من اجل اخ واحد العقاب اشد. امر القائد جنوده بأخذ مجموعة اكبر، واعدمت. وهكذا دواليك“.

روى پاپه حكاية اطروحة كاتس عن الطنطورة بمرارة، وقال انه يكتشف اليوم انه يفضّل ان يكون يهوديا وليس اسرائيليا.

اشعر اني يهودي يعيش في فلسطين، احب البلاد ولا احب الدولة، احب ان اعيش فيها لكني لا اعلم الى الآن ماذا سيكون اسمها“.

ولكن لماذا تغادر؟”، سألته.

لا اريد ان اتماهى مع الصهيونية، انها ايديولوجيا الخطأ”، “اقول لأصدقائي الفلسطينيين اني سأعمل ضد الجريمة التي ارتكبت. اعرف اني اعيش في وطنهم وفي بيوتهم، اصدقائي الفلسطينيون يريدونني ان ابقى. اقول لهم ان النكبة لم تنته عام 48، بالنسبة الى الاسرائيليين فإن المشروع لن ينتهي الا بعد ان تصير الدولة يهودية مئة في المئة. قلت لاصدقائي الاسرائيليين لا افهم كيف تقبلون هذه الحياة، قلت لهم بأني اشعر بالفخر حين ارى اسرائيليين يناضلون ضد التمييز العنصري في جنوب افريقيا، لكن هذا الموقف يتلاشى حين يتعلق الأمر بإسرائيل. وهذا ما يجعلك تفكر في وصفك انساناً واباً لولدين، هل اريد ان اعلّم اولادي ان الظلم يتوقف عند حدود اسرائيل؟ هذا ما قاله بني موريس مبررا التطهير العرقي، مشكلتي ليست الفلسطينيين، مشكلتي ماذا افعل مع جيراني اليهود، يعتقدونني مريضا، وانا اعتقد انهم مرضى، لذا لا اتكلم معهم عن الفسطينيين“.

طمس ذاكرة النكبة

يلخص ايلان پاپه علاقة الحركة الصهيونية بالقرى الفلسطينية بمقولتَي الاكتشاف والطمس.

الاكتشاف بدأ مع مشروع اقترحه مؤرخ شاب يدعى بن تسيون لوريا من اجل اعداد سجل مفصّل للقرى العربية في فلسطين، واقترح بأن يتولى الصندوق القومي اليهودي الاشراف على المشروع، “وهذا سيساعد في تحرير البلد”، كتب في رسالة الى الصندوق. كانت المحصلة النهائية لجهود الطوبوغرافيين والمستشرقين ملفات مفصلة لجميع قرى فلسطين، عمل الخبراء على استكمالها في شكل تدريجي، بحيث اكتمل هذا الارشيف في اواخر الثلاثينات من القرن الماضي. ووصل المشروع الى ذروته مع قرية للشبيبة تدعى شييفيا بالقرب من قرية الفريديس الفلسطينية ومن مستعمرة زخرون يعقوب. “في هذا المكان بالذات كانت الوحدات الخاصة الموضوعة في تصرف مشروع ملفات القرى تتدرب في عام 1944، وتنطلق منه في رحلاتها الاستطلاعية“.

اكتشاف القرى كان مقدمة لاحتلالها وتشريد سكانها وتدميرها، لذا كان لا بد بعد انجاز المهمة من طمس معالم الجريمة. وهذا ما قامت وتقوم به الغابات في اسرائيل. هنا يتوقف الكتاب امام ثلاث غابات يملكها الصندوق القومي اليهودي. الغابة الأولى هي بيريا في منطقة صفد وتغطي مساحة عشرين الف دونم، وتخفي تحتها قرى ديشون وعلما وقديتا وعمقا وعين الزيتون وبيريا. الغابة الثانية هي حديقة رامات منشيه، وتغطي انقاض كل من اللجون والمنسي والكفرين والبطيمات وخبيزة ودالية الروحاء وصبّارين وبريكة والسنديانة وام الزينات. والثالثة هي غابة القدس التي تصل في احدى زواياها الجنوبية الى قرية عين كارم وتغطي قرية بيت مزمير، وتمتد الى اراضي قرى حورش وصوبا والجوزة وبيت ام الميس.

اللافت ان هذه الاراضي زرعت صنوبريات، مع رفض متعمد لزراعة الاشجار التقليدية التي كانت سائدة في هذه المناطق، وخصوصا اشجار الزيتون، وذلك بهدف اضفاء مظهر اوروبي على البلد!

النكبة كانت في حاجة الى معرفة القرى العربية في شكل دقيق، مما سهل على البالماح والهاغاناه عملياتهما العسكرية، ولعبت المعلومات التي جمعت حول اهالي القرى، وخصوصا حول المشاركين في ثورة 1936 دورا كبيرا في التصفيات الجسدية التي تمت بعد سقوطها.

غير ان الحقيقة تحتاج الى حجب، وهذا ما قامت به الغابات والحدائق العامة في اسرائيل، وما تقوم به الايديولوجيا الصهيونية من خلال تأكيدها الدائم لمقولة اسرائيل زنغويلي عن ارض بلا شعب لشعب بلا ارض.

اختتم ايلان پاپه حوارنا قائلا: “برهن كتابي على ان عدم تعامل العالم مع ما حدث عام 1948 في وصفه جريمة، سمح للاسرائيليين بالاعتقاد بأنهم يستطيعون متابعة ما قاموا به. اسرائيل لا تريد حلا، الفكرة الاسرائيلية الاصلية هي ان تأسيس الدولة يعبّر عن عودة اليهود الى ارضهم. كان بن غوريون يسمّي الفلسطينيين غرباء، والاسرائيليون يتكلمون في اغنية “القدس الذهبية” عن مدينة يحتلها الغرباء. لا احد في فلسطين او العالم يعي ذلك، انهم لا يرون انفسهم كمحتلين او كمستوطنين، بل يشعرون انها ارضهم، وانهم يقاتلون الغرباء“.

ايلان پاپه يعتقد ان الحل الوحيد هو في دولة ثنائية القومية، لكني لم اجبه بأن هذا يعني انهاء للمشروع لصهيوني، وحروبا لا نهاية لها.

لم اجب لا لأني لا أعرف، بل لأن في فمي ماء كما تقول العرب، فالمشروع الوطني العلماني الفلسطيني، كغيره من المشاريع العلمانية يتهاوى تحت ضربات الاحتلال ووسط الجنون الاصولي الذي تنامى مع الغزو الاميركي للعراق، ووصل الى ذروته مع محاولة قتل احتمال حل الدولتين في “المقاطعة” التي حاصرها الاسرائيليون حتى موت ياسر عرفات.

قلت لپاپه ونحن نستمع الى موسيقى اوركسترا “الديوان الشرقي الغربي” ان الأمل في هؤلاء الموسيقيين، فابتسم، وكنت اعلم اننا اضعنا الأمل، وعلينا ان نعيد اختراعه

ملحق النهار الثقافي


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى