قضية فلسطين

غزة تعرّينا

17 يوما بنهاراتها المؤلمة ولياليها العصيبة، لا تزال غزة تقاوم شامخة الرأس مرفوعة الجبين، تتحمل الوجع والالم وترفض القهر والمذلة.
غزة بصبرها وصبر اهلها تعرّينا، تفضحنا، تظهر ضعفنا وروح الهزيمة التي عشعشت فينا.
غزة المحاصرة هي الحرة والابية، واهلها هم الاحرار يدافعون عن ارضهم وكرامتهم، يمارسون ارادتهم ملء قرارهم، يتنشقون هواء نظيفا من بين روائح الموت والبارود. اما نحن فمحاصرون باليأس والاحباط و”المصالح العليا”، وتعبق صدورنا بعفن “الواقعية” و”الاعتدال” و”الموضوعية”، ولا نفعل شيئا سوى التمني والانتظار.
شباب غزة وشاباتها اكثرنا هزالا لكنهم اكثرنا قوة وشكيمة. هم اضعفنا لكنهم حامينا الوحيد، وحارسنا الاخير. يعطونا هم الامل فنعطيهم اليأس. يمدوننا بالقوة، فنمدهم بالضعف والتخاذل. يشجعوننا بصمودهم، فنحبطهم بمسلسل هزائمنا التي لا تتوقف. يفتحون لنا قلبهم، فنغلق كل الابواب في وجههم، ووحدها اجسادهم الطرية لا تزال تقاتل وتدافع عنا جميعا، ومع ذلك لم يتراجعوا ولم يُهزموا ويبقون وحدهم وينتصرون.
من حظ اهل غزة ان حكامنا لم يتمكنوا من التوافق على الاجتماع والتلاقي من اجلهم، ذلك ان افضل مساعدة يمكن ان يقدمها هؤلاء الى الغزاويين ان يتركوهم يتدبرون امرهم بأنفسهم. ماذا لديهم ليقدموه الى المقاومين والصابرين؟
صدقوني ان ازيز الرصاص، ودوي القذائف، وهدير الطائرات، ووجع الاصابة، وألم الجرح البليغ، والبكاء على شهيد، اقل وطأة واكثر رحمة واقل ازعاجا من خطبهم الفارغة، وتصريحاتهم الغبية، وضجيج المهرجانات والمؤتمرات “المطبوخة” في الغرف السوداء على وقع المصالح “القومجية” والحسابات السياسية الانتخابية.
ماذا تنتظرون من اجتماعاتهم غير التناحر والتشفي وتبادل السباب او الاحذية في ما بينهم، واصدار بيانات الاستنكار والادانة؟
ماذا تنتظرون منهم وهم الذين انهارت أسوارهم الحديد في لحظات، وسبقت دفاعاتهم الارضية دفاعاتهم الجوية في التلاشي، وسقطت خطوطهم الخلفية قبل خطوطهم الامامية؟
ماذا تتوقعون من جيوشهم بعدما ارسلوا نصف عديدها الى الحدود مع اسرائيل، لا لمقاتلتها بل لحصاركم ومنع وصول علب الحليب الى اطفالكم، فيما وزعوا هم النصف الآخر بالعدل على ابواب الجامعات والمعابد لقمع المتظاهرين “الغوغائيين” تلبية لفتاوى بعض رجال الدين؟
هل ثمة حاجة لأعرّفكم على الانظمة، وانتم افضل من خبر “عشقها” لفلسطين اثناء تشتتكم في المنافي؟
هل احدثكم عن المعارضات الرسمية التي تصر على ان تظل الوجه الآخر للانظمة؟
هل احدثكم عن احزاب “تاريخية” اكلها الصدأ وتحولت توتاليتاريات “ديموقراطية” يرثها الابناء عن الآباء، او تحولت شركات خاصة ووكالات سفر وسياحة تضامنية وتجارة بكل شيء على المكشوف؟
لا هم ما دام هناك من يصر على الممانعة ورفض الاحتلال والنطق بكلمة: “لا”، ولا يمنعه عن قولها سوى الموت.
اسرائيل ما كانت لتجن جنونها الفظيع على غزة وقبل ذلك على لبنان، لو لم يكن وقع هذه الكلمة مثيرا لفزعها وغضبها. لم تطلق مصادفة عبارة “الرصاص المصهور” اسما لعمليتها العسكرية، لانها تريد من وراء هذه العملية صهر ارادتكم وممانعتكم بالرصاص. لكنها فشلت وستفشل امام صمودكم الاستثنائي، وقدرتكم الخارقة على العطاء والفداء.
لا تيأسوا ولا تعيروا انتباها لتخاذلنا، ولا تتركوا امراضنا وعجزنا تحبط عزائمكم وتكسر ارادتكم. وثقوا فقط بفتياتكم وفتيانكم الذين يدهشوننا ويدهشون العالم كل يوم.
فبانتصاركم لن تحرروا ارضكم فقط، بل تحرروننا جميعا من روح الهزيمة التي تنخر عظامنا.

أمين قمورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى