صفحات سورية

وإليكم البراهين عن أميركا

null


نهلة الشهال

فيما تكتمل بعد أيام خمس سنوات على احتلال العراق، بدأت في بغداد «مفاوضات» بين الجانبين الأميركي والعراقي على «اتفاق تعاون طويل المدى». وللتذكير، ففي 26 تشرين الثاني (نوفمبر) الفائت، عشية مؤتمر أنابوليس، وقع الرئيس بوش والسيد نوري المالكي ما سمي «إعلان النيات للتعاون والصداقة الأميركية – العراقية».

استطراد أول: ليس من علاقة بين المناسبتين الفلسطينية والعراقية، سوى ربما أن الرئيس الأميركي كان بصدد صناعة الانطباع بأنه يسيطر على أصعب الملفات ويتحكم بها. وُصفت الوثيقة الموقعة وقتها بـ»غير الملزمة» لأنه يتوجب إتباعها بمفاوضات واتفاقات تفصيلية ملزمة هذه المرة. المبرر المطروح للتفاوض هو قرب انتهاء فترة تطبيق قرار مجلس الأمن نهاية هذا العام، وخروج العراق من أحكام الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. وبالطبع من غير اللائق أن يبقى العراق بلا إطار ينظّم واقعه، فارتُئي أن تحل المعاهدة الثنائية محل الفصل السابع.

استطراد ثانٍ: دعوة اللبنانيين إلى تفحص أحكام الفصل السابع ذاك، الذي يهدد بعضهم باللجوء إلى المطالبة به إذا ما فشلت مفاعيل الفصل السادس الذي ما زال يتحكم بقرارات الأمم المتحدة بخصوص لبنان. فقد اتُخذ قرار إخضاع العراق للفصل السابع غداة اجتياح صدام حسين للكويت عام 1991، ثم «تأقلمت» الأمم المتحدة مع الاحتلال الأميركي لعام 2003، وألحقته بعد حصوله بالفصل السابع، وهو ما يخالف روح القوانين ومبدأها، ولكن هذا تفصيل. أطرف ما في الأمر المتداول اليوم قصة السيادة الوطنية، والمقصود بالإشارة المتكررة إليها بشكل لافت، والى حد مزعج، العراق بالطبع. فكأنها مفاوضات تتم بين طرفين متساويين، أو فلنقل حرّين. هكذا، وبكل أناقة، يقول بيان وزارة الخارجية العراقية المؤرخ في 11 آذار (مارس) ما نصه الحرفي: «بدأ الطرفان في مقر وزارة الخارجية العراقية محادثات بين وفدين يمثلان بلدين كاملي السيادة والاستقلال».

يشبه البيان نصوصاً تقرأ في مسرحيات بغرض إثارة الضحك المرّ – تذكرتُ دريد لحام لأن سخرية زياد رحباني أشد إحباطا وحزناً من اللجوء إلى اللعب على المفارقات، وهي بهذا المعنى «مودرن» أكثر. لن نحاجج فالوقائع أهم: 150 ألف جندي أميركي يحتلون العراق، ومثلهم من المرتزقة الخاضعين لهم، ومقار عمليات وقيادة قطاع إلى آخر ما هو معروف، وما يتناقش بصدده الأميركان أنفسهم متسائلين عن أوجه الشبه مع فيتنام. هل تجوز في نظر القانون الدولي معاهدة بين القوة المحتلة والبلد الواقع تحت الاحتلال؟

سيقوم السيد ديك تشيني بجولة في المنطقة تبدأ هذا الأسبوع، ليشرح لمستقبليه من عرب وإسرائيليين مدى «التزام الولايات المتحدة العمل على تطبيق اتفاقية سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين وفق خريطة الطريق»… في وقت تتسارع المخططات الاستيطانية في الضفة الغربية، فيُشرع اليوم ببناء ألف وحدة جديدة في مستعمرات عملاقة، توسعت هي نفسها كثيراً منذ توقيع اتفاقية أوسلو وعند كل اتفاقية أخرى تلتها، مع أن تلك الاتفاقيات جميعها، وآخرها خريطة الطريق التي يعتد بها السيد تشيني في جولته، تنص على تجميد الاستيطان في الضفة الغربية، ومع أنه يُفترض أن أي عملية سلام ستفكك تلك المستوطنات، ومعها جدار الفصل الذي أدانته المؤسسات الرسمية الدولية، والذي رغم ذلك اكتمل، وبات الإسرائيليون يعاملونه كمرجع فيتكلمون عما هو غربه وعما هو شرقه. كما أن إسرائيل «تعرف» صيغة الاتفاق النهائي، فتعتبر أن الكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة الغربية –غرب الجدار – ستبقى «على أية حال» تحت سيطرتها، على ما قال وزير البنى التحتية الإسرائيلي!

ويحدث الأمر نفسه في ما يخص القدس فتتسارع عملية تهويدها عبر نزع ملكية الفلسطينيين بالقوة الجبرية، بينما مفاوضات الوضع النهائي للمدينة لم تبدأ بعد. ما تجب إضافته أن ذلك الواقع المادي قائم بالفعل طبعاً، ويزداد بؤساً وانحطاطا بوتائر سريعة، يعرفها من يعيشونه. وأما مسألة الانفصام بين الواقع والكلام عنه، فهي فن وليست كذباً.

ويقع في الحيز القائم بين الأمرين ما يمكن استشرافه كتعيين «للبشر الزائدين عن الحاجة»، أولئك الذين تغيّبهم آلة الكلام والسرد والدعاية، بينما يطحنهم الواقع المادي ويقضي عليهم بالمعنى الحرفي للكلمة. فهم إما يُقتلون يومياً بأعداد كبيرة، أو يختفون مهمشين، فيذوبون رويداً. وعلى أية حال، والأهم، فإن روايتهم لواقعهم لا مكان لها، وهي نفسها يصيبها الاختلال والارتباك، فتضطرب الكلمات وتفقد المفردات والمصطلحات معانيها، وينتابهم شك كبير في جدوى… وجودهم، أي إدراكهم لأنفسهم كذوات تاريخية فاعلة.

بعد ذلك يصبحون كماً، رقماً مجرداً: وإلا فكيف يُقتل بشكل عادي مألوف كل يوم مائة عراقي وعشرة فلسطينيين، علاوة على آلاف الأفارقة (بالحروب والمجاعات والأمراض معاً)، بينما يهز الضمير العالمي مقتل 15 إسرائيليا في عملية انتحارية استهدفتهم، أو اختطاف سائح أوروبي؟

وقبل أن انتقل إلى برهان آخر، أود التعريج على ما لا علاقة لفلسطين أو للعراق به، لأثبت أن الأمر ليس استثناء يطال هذه الموضوعات فحسب. فقد عرضت منذ أيام القناة الفرنسية-الألمانية «أرته» فيلماً وثائقيا، «العالم وفق مونسانتو»، عن هذه الشركة العملاقة المحتكرة للبذور المعدلة جينياً… والتي سبق لها الاختصاص بإنتاج مادة الديوكسين، أو السم القاتل للنباتات والمبيد للغابات الذي ألقته الطائرات الأميركية بكثافة فوق فيتنام، وما زال يتسبب حتى اليوم بولادة أطفال مشوهين بعدما أعطب ما تيسر وقتها من الفيتناميين (والجنود الأميركان). المهم، مونسانتو تلك التي يقاتل ضدها المزارعون في أميركا اللاتينية، انتهت من تشويه حقول الذرة، الغذاء الأساسي للناس هناك، ومن السيطرة على عملية الإنتاج الزراعي والحيواني، وهي تسوّق بضاعتها عالمياً بواسطة حملة دعائية مدعومة بالمال والحماية من حكومة الولايات المتحدة، على ما يقول الفيلم.

وقد اشتهرت نقابة «الطريق الريفي» التي تضم 50 مليون عضو من المزارعين في العالم كله بنضالها ضدها، كما اشتهر الناطق باسمها إذاك، الفرنسي جوزيه بوفيه، لاقتلاعه حقولاً معدلة جينياً، وقد أعطته بعض المحاكم الحق بذلك استنادا إلى مبدأ «الخطر الداهم». ولكن كل هؤلاء لا اعتبار لهم. وأما مونسانتو فتقول في موقعها على الانترنت أنها تعمل «لمساعدة المزارعين على إنتاج غذاء أكثر صحية، وأقدر على حماية البيئة»!!

أخيراً: معرض الكتاب في باريس مجدداً. دع عنك التحليل الثقيل الظل لدلالة الحفلة التي أقامها في الاليزيه الرئيس ساركوزي لضيفه شمعون بيريز، والتي شابهت، بل طابقت حفلات مهرجان «كان» السينمائي، حيث حضرت الوزيرات – ومنهن من هو شاب وجميل – بثياب السهرة الفاتنة، فاستحققن صراخ المصورين الصحافيين عند درج المقر الرئاسي و»صفيرهم»، تماما مثلما يحدث لنجمات السينما أمام الدرج الآخر الشهير

ولنعد إلى الحملة المنظمة من الاستهجان حيال الاعتراض على اختيار إسرائيل ضيف شرف لهذا العام، بمناسبة الذكرى الستين لـ»إستقلالها» (وليس لتأسيسها، يا للكلمات!!). ينعت المؤيدون للمعرض، (وبعضهم كتّاب عرب)، قرار مقاطعته أو نشاطات الاعتراض عليه، بأنها معاداة للثقافة، بل دعوة إلى محارق كتب (على الطريقة النازية). وحين يذكَّرون بأن شمعون بيريز وليس عاموس أوز هو من يفتتح المعرض، وأن المناسبة سياسية بامتياز وليست ثقافية، يضيقون من حرفيتك!!

وحين يذكَّرون بأن هناك كتّابا إسرائيليين رفضوا المشاركة تحت علم بلادهم، فامتنعوا عن الحضور أو حضروا في المنصة المناهضة، منصة نكبة فلسطين، يعتبرونهم سخفاء وهامشيين. وحين يذكَّرون بأن الاعتراض عمل سياسي مدني مشروع، يضيقون أكثر بتخلّفك: متى تصبحون واقعيين وحضاريين يا قوم؟! سؤال محق تماماً في عالم مونسينتو ورفيقاتها، عالم يسير على قفاه.

الحياة – 16/03/08


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى