صفحات ثقافية

زنجيٌ أنا، زنجياً سأبقى!

null


هاشم صالح

أخيرا توفي الشاعر والسياسي المارتينيكي الكبير إيميه سيزير عن عمر طويل يناهز الرابعة والتسعين. وقد شيعته الطبقة السياسية الفرنسية برمتها يمينا ويسارا وأقامت له الدولة جنازة وطنية لم يحظ بها الا فيكتور هيغو وبول فاليري و الروائية الشهيرة كوليت. من كان يصدق انه سيحظى بكل هذا الاحتفال هو الذي أمضى حياته في ذم العنصرية الفرنسية والعهد الاستعماري البائد؟ والواقع ان لإيميه سيزير قصة تروى وقدوة تحتذى.
فقد وصل هذا الشاب الأسود البشرة إلى باريس من جزر المارتينيك التي كانت فرنسية ولا تزال لكي يدرس في العاصمة باريس بعد أن عوده والده الفولتيري على حب فيكتور هيغو والأدب الفرنسي عموما. كان ذلك عام 1931. ودخل إلى قدس الأقداس الفرنسية: ثانوية لويس الكبير، أي لويس الرابع عشر، الواقعة إلى جانب السوربون في الحي اللاتيني الشهير الذي خلده سهيل إدريس يوما ما برواية جميلة تحمل نفس الاسم. وكان الأسود الوحيد فيها. كل الطلبة كانوا من البيض، من أبناء النخبة، نخبة البورجوازية الفرنسية.

فتخيلوا المشهد: نحن عام 1931 عندما كانت فرنسا لا تزال استعمارية عنصرية استعلائية على كل الأقوام الأخرى فما بالك بالسود! وفي يوم من الأيام حصل ما كان ينبغي أن يحصل: فعندما كان يريد أن يقطع الشارع بشكل متسرع ربما صرخ به أحدهم من داخل سيارته: زنجي حقير! فبقيت محفورة في ذاكرته ستين عاما أو يزيد. وحتى قبل موته بسنوات قلائل أخرج كتاب مقابلات مع احد الصحفيين يروي فيه ذكريات طفولته وشبابه الأول ووصوله إلى باريس ولقائه بسنغور الذي سيصبح رفيق دربه في النضال من اجل الثقافة والهوية الزنجية. وخلع عليه العنوان التالي: زنجي أنا، زنجيا سأبقى… وقد أسسا، هو وسنغور، مع بعض الشباب الأفارقة الآخرين حركة الزنوجة أو العصبة الزنوجية سمها ما شئت. وهي حركة تعلن انتماءها إلى العالم الإفريقي الأسود ولا تخجل من بشرة وجهها ولا من زنوجيتها التي يعيرها بها المستعمرون البيض. انه تشبه إلى حد ما حركة القومية العربية عندما أراد العثمانيون إذلالها عن طريق فرض سياسة التتريك واحتقار اللغة العربية. وكذلك عندما حاول الاستعمار الأوروبي ان يفعل نفس الشيء في الجزائر وسواها. في ذلك الوقت كانت كل إفريقيا السوداء مستعمرة وكل العرب وغير العرب أصلا..

إن الزنوجة تعني أيضا مجمل الخصائص الثقافية لشعوب إفريقيا السوداء. إنها الخصوصية السوداء او جوهر العرق الأسود ومحتواه التاريخي وكل آلامه وعذاباته.

لكني أعترف بان التحديد الذي قدمه سنغور عنها لا يعجبني بل ويطرح اشكالية. فهو يقول بان الزنوجة تغلّب العاطفة الانفعالية على العقل، هذا في حين ان العقلية الغربية إغريقية الأصل وتغلب المنطق العقلاني البارد على العاطفة الحارة والجياشة. فهل هذا مدح ام هجاء؟ ونحن العرب ألسنا زنوجا إذن؟ ألا يوجد عندنا أناس يقولون نفس الشيء؟ أل نمل من تلك الكليشيه التي تقول: الغرب مادي عقلاني لا عاطفة فيه ولا إحساس.. ونحن كرماء عاطفيون متدينون روحانيون مثاليون.. ولكن أغبياء لا علم لدينا ولا فلسفة، لم لا؟هذا التحديد يقوي العنصرية بدلا من أن يحاربها. ولا أعرف فيما إذا كان سيزير موافقا عليه أم لا..أشك في ذلك.

في عام 1941 كان اندريه بريتون زعيم السوريالية في جزر المارتينيك هاربا من النازيين الذين يحتلون مدينته باريس. و في احدى جولاته في الجزيرة وقع على ديوان إيميه سيزار الأول: دفتر العودة إلى الوطن الأم. وصعق من اول قراءة ولم يكد يصدق عينيه. ومعلوم ان بريتون كان يشم رائحة الشعر او النص على مسافة ألف كيلومتر! كان يكتشف الإبداع من أول نظرة ويعرف فيما إذا كان النص يمثل كتابة حقيقية او مزيفة مصطنعة. وراح يسأل عن الكاتب في كل مكان حتى اهتدى اليه ونشأت بينهما صداقة عميقة، أخوية. كانا يلتقيان في إحدى الحانات بعد ان ينتهي سيزير من القاء دروسه على طلاب الثانوية المجاورة. وكانت في تلك السنة عن رامبو.. وبالتالي فما أحلى اللقاء على شرف رامبو ذلك الأفاق الكبير الذي لو لم تخنه قدماه لوصل حتى إلى اليابان والصين! هذا ما يرويه لنا بريتون شخصيا في المقدمة الحماسية الرائعة التي كرسها لديوان سيزير في طبعته القديمة عام 1943. ينبغي ان يعود المرء إلى تلك المقدمة اذا ما استطاع الحصول عليها في احدى المكتبات. انها متفجرة بالاعجاب والشعر تفجرا. تحت عنوان “شاعر اسود كبير” يكتب مؤسس الحركة السوريالية قائلا: انه اسود في غاية النقاء، اسود يكتب بلغة فرنسية مدهشة ولا أرقى: لغة يعجز عنها السادة البيض. هذا الشاعر الأسود هو الذي يقودنا ويهدي خطانا، هو الذي يقودنا في طريق المجاهل الاستكشافية…وشيئا فشيئا من خلال لقاءاتنا المتكررة راح هذا الشخص يفرض نفسه علي وكأنه النموذج الأعلى للكرامة الإنسانية. وهذا الديوان الذي مر دون ان يشعر به أحد عندما صدر لاول مرة عام 1939، هو أكبر ديوان شعري غنائي في عصرنا كله. لقد كتبه في باريس بعد ان تخرج من مدرسة المعلمين العليا وهو على أهبة العودة إلى الوطن لممارسة التدريس. وبالتالي فاشتياقه كان كبيرا بعد طول غياب. من هنا لوعة الحنين الحارقة والجارفة إلى الوطن الأم، إلى جزر المارتينيك.. من هنا الجمال الأخاذ لهذا الديوان الأول الصادر من الأعماق.

ثم يردف اندريه بريتون قائلا: ولكن هناك مأساة الاستعمار والشعب المارتينيكي الذي يئن تحت وطأته. هناك الاستغلال البشع الذي يمارسه حفنة من الفرنسيين البيض الطفيليين..وهناك قبل ذلك بأجيال قلائل مأساة الرق والعبودية التي أصابت الشعب الإفريقي الأسود.. باختصار وراء إيميه سيزير تاريخ بأسره من الذل والقهر، من العبودية والذل. وراءه جرح عميق، عميق لا يندمل. وما أعظم الشعر الذي ينبت على أنقاض الجراح! ثم يضيف بريتون هذه العبارة: إن كلام إيميه سيزير جميل كالاوكسجين الطري. وهي عبارة سوريالية بامتياز..

انتهى كلام بريتون والترجمة بتصرف.. في الواقع إن سيزير كتبه في باريس بعد ان أنهى دراساته وتأهب للعودة إلى الوطن. من هنا عنوانه: دفتر العودة إلى الوطن الأم. أكاد أقول: نشيد العودة إلى الوطن الحبيب..انه عبارة عن اربعين صفحة فقط من الشعر الحر أو قصيدة النثر. انه عبارة عن كتابة جنونية متدفقة لا رادع لها ولا وازع. وقد أصبح إنجيل الشبيبة الإفريقية ورائعة آدابهم التي يدرسونها في مختلف جامعات إفريقيا. ويبدو انه كتبه بعد أزمة نفسية حادة كادت ان تودي به. وهذا دليل آخر على مدى علاقة الإبداع بالأزمات النفسية. فنادرا ان ينتج عمل فني او شعري او حتى فلسفي ضخم بدون دفع الثمن: أي بدون المرور بالمصهر والمحترق والمعاناة القاتلة.

في تلك الفترة الصعبة انسحب إيميه سيزير من الحياة العامة واعتكف على نفسه بعد ان كان ناشطا في الحركات التقدمية والاتحادات الطلابية اليسارية المضادة للاستعمار والبورجوازية الفرنسية. لقد انسحب بعد ان أنهكته الأزمة النفسية التي تحولت إلى جسدية على ما يبدو وكادت ان تكسر ظهره فراح ينحني..انها الأزمة التي ترهص بالإعصار: أي برائعته الأدبية الأولى. يقول سنغور عنه وقد كان من أقرب المقربين اليه في تلك الفترة حيث كانا يدرسان ويناضلان في باريس سوية: لقد عاش أزمة صوفية او روحية وصلت به إلى حافة الجنون. وعن تلك اللحظة بالذات تتمخض الأزمات النفسية عن الروائع الأدبية إذا لم تقتل صاحبها..

لكي نفهم نظريته عن الشعر يكفي أن نقرأ ما قاله عن المجنون الكبير لوتريامون وقد أثلج كلامه صدر اندريه بريتون الذي كان يعبده ويقول عنه: ذلك الذي نعتبره سيزير وأنا بمثابة النبي الكبير للأزمنة القادمة. يكتب سيزير عن لوتريامون إذن: انه كان أول من فهم أن الشعر يبتدئ بالتطرف والجنون والبحوث الاستكشافية المحرمة والخبط خبط عشواء في الظلمات العمياء حتى الوصول إلى المطر اللا مفهوم لتساقط الكواكب والنجوم..

تعريف سوريالي يستحق الاهتمام.. والواقع ان سيزير بعد لقائه ببريتون انضم إلى الحركة السوريالية كما فعل اراغون من قبله او بول ايلوار او رينيه شار الخ..ولكنه انضم اليها بحذر رافضا الذوبان في الثقافة الغربية حتى ولو اتخذت طابع حركة ثورية راديكالية مضادة للاستعمار والفاشية على الطريقة السوريالية. في الواقع ان الذي أعجبه فيها هو الكتابة الاتوماتيكية وشحنة الحرية الناتجة عنها. يقول بما معناه: كانت الكتابة الاتوماتيكية بالنسبة لي هي تلك الأداة الفعالة للتخلص من النزعة المنطقية الباردة للثقافة الغربية والتوصل إلى ذلك الكنز العميق الدفين الذي يربض في داخلي: أي أناي العميقة، الأنا الافريقية التي كانت مطمورة في داخلي والتي اكتشفتها بفضل السوريالية والكتابة الاتوماتيكية الجنونية التي تشبه التحليل النفسي أو الغوص في الأعماق المنسية..

هنا تكمن عظمة السوريالية: تحرير المكبوت السحيق المدفون في أعماق أعماقنا.

لكن لنستمع إلى هذا المقطع من ديوان “دفتر العودة إلى الوطن الأم ” بقدر ما تسمح به الترجمة بالطبع:

تكفيني جرعة من حليبك لكي أكتشف فيك دائما حتى ولو على بعد مسافات السراب، لكي أكتشف شمسا ألف مرة أكثر سطوعا من شموس الآخرين، لكي أكتشف شمسا لا يكسفها أي طيف، هناك حيث الأرض حرة وأخوية: أرضي، وطني، بلادي.

الرحيل الرحيل..قلبي يتمتم بأريحيات صاخبة.

الرحيل الرحيل..سأصل أملس صقيلا وشابا إلى هذي البلاد، بلادي. وسأقول لهذا البلد الذي يتغلغل طميه في جسدي، في عروقي ودمي: لقد رحلت عنك بعيدا وبعيدا، لقد تهت طويلا وطويلا يا وطني. وهاأنذا أعود إلى بشاعة جراحاتك المقفرة.

سأصل إلى هذا البلد ، بلدي وأقول له: قبّلني دون خوف فحتى لو كنت أخرس لنطقت باسمك ومن أجلك..”

وبالتالي فالقصيدة تعبر عن مشاعره الملتهبة وانطباعاته الأولى فور عودته إلى الوطن. كما وتعبر عن إحساسه العارم بالألم والغضب نظرا للحالة المزرية التي يعيشها شعبه تحت الاحتلال، حالة الفقر والإهمال. ويمكن اعتبار القصيدة بمثابة سرد للمسار الروحي والفكري والعاطفي للشاعر. وهي ينتهي بالتأـكيد على انتمائه إلى العرق الأسود وعدم خجله منه على العكس الافتخار به.

ينبغي العلم بأن سيزير كان في الستينات من القرن العشرين المعلم الأول للمثقفين الأفارقة الذين يناضلون ضد الاستعمار. وبعد التحرر الوطني اصبح القائد الهادي للدول الإفريقية المستقلة الناشئة. كان الأستاذ الأكبر لهم أكثر من سنغور لان نظرية سنغور عن التهجين او الاختلاط جعلته يبدو مشبوها في نظر الأفارقة ومتواطئا مع القوى الاستعمارية السابقة. يضاف إلى ذلك ان وظيفته كرئيس دولة لا تسمح له بحرية فكرية كبيرة مثل سيزير.

التقيت بالأمس في استوديوهات التلفزيون الفرنسي حيث كنت مدعوا لمناقشة عن سيزير بالعربية بمثقفين أفارقة مدعوين أيضا للتحدث عنه وعن الزنوجة ولكن بالفرنسية والانكليزية. كان هناك مجموعة من أصدقاء باراك حسين اوباما القادمين من أميركا مع ممثله الشخصي في باريس وزوجته. وقد بدوا لي أشخاصا راقيين ومحترمين فعلا. وقبل أن ادخل إلى الاستديو وأفترق عنهم حدثت دردشة فهمت منها انه حتى ولو لم يصبح اوباما رئيسا لأميركا في هذه الجولة بل وحتى لو لم يصل إلى الدور الثاني فانه حقق خرقا وانتصارا كبيرا منذ ألان. فمتى كان شخص اسود، والأنكى من ذلك من أصل مسلم، يتجرأ على أن يرشح نفسه لرئاسة القوة الأعظم؟ وهذا أكبر دليل على أن الشعب الأسود، الشعب الزنجي المحتقر على مدار التاريخ ابتدأ ينتفض من عقاله ويتحلحل ويتحرك. وسوف يفاجئ العالم بالمعجزات قريبا. بل انه منذ الآن يفاجئنا ويعجبنا ويتفوق علينا. فعلى حد علمي لا توجد شخصية سياسية عربية ولا حتى فرنسية بحجم نيلسون مانديلا الذي يمثل ألان احد الضمائر الأخلاقية الكونية في عالمنا العاصر تماما مثل غاندي في القرن العشرين. وعلى ذكر غاندي فان إيميه سيزير كان يحب دائما أن يستشهد بعبارته الرائعة التالية: عندما يطبق اليأس علي أتذكر انه على مدار التاريخ فان صوت الحقيقة والحب كان ينتصر في نهاية المطاف، وانه حتى لو هيمن الطغاة والقتلة لفترة من الزمن فإنهم يسقطون في النهاية. فكر دائما بهذا يا صديقي. لا تنس هذا أبدا.

هل هناك كلام أجمل من هذا الكلام؟ ألا يشكل عزاء للمفجوعين الملاحقين المطاردين المهددين المطالبين بواحد من اثنين: إما الخضوع وإما التصفية الجسدية. هكذا كان الاستعمار وهكذا كان الطغيان في كل مكان.

ولكن ترشيح أوباما دليل أيضا على حصول تطورات مهمة في المجتمع الأميركي وتجاوزه للكثير من الرواسب العنصرية التي كانت قوية جدا حتى الستينات والسبعينات بل والثمانينات من القرن المنصرم.

كان عند سيزير رفض عنيف للاستعمار إلى درجة انه رفض أن يستقبل نيكولا ساركوزي عام 2005 عندما كان وزيرا للداخلية في وقت صوت فيه البرلمان الفرنسي على نص يقول بان للاستعمار جوانب ايجابية! وجن جنون الرجل ورفض أن يستقبل وزير داخلية فرنسا على الرغم انه رئيسه بصفته عمدة لمدينة فور دوفرانس عاصمة المارتينيك. ثم عاد واستقبله عام 2007 بعد أن تراجعت الحكومة الفرنسية عن القرار الشائن وبعد أن أصبح ساركوزي مرشحا لرئاسة الجمهورية. ولكن تأييده ذهب إلى المرشحة الاشتراكية سيغولين رويال بسبب جذوره اليسارية السابقة. هذا وقد رفضت عائلته أن يلقي ساركوزي أي خطاب على قبره لكيلا يحصل أي استغلال سياسي للموضوع من قبل السلطة. فتخيلوا الأمر: رئيس جمهورية فرنسا لا يتجرأ على مواجهة عائلة الفقيد! عندنا كان سيقتله ويمشي في نعشه ويلقي خطابا طويلا على قبره ويمسح بعائلته الأرض..

أثناء المناقشة التلفزيونية بالأمس التقيت بأحد المثقفين السود المسؤولين عن محاربة العنصرية في فرنسا فسألته لكي استفيد من كلامه في المناقشة ثم الكتابة: هل بقي سيزير مصرا على الزنوجة بعد كل تلك السنين؟ ألم يغير رأيه ويتطور؟ فأجابني قائلا: اسمع يا أخي آخر مرة التقيت به كانت عام 2006 وكان أول سؤال طرحه علي هو التالي: هل لا يزال الفرنسيون عنصريين كما في عهدنا؟ وضحكنا طويلا.. نعم لقد ظل مصرا على الزنوجة ولكن بدون تعصب مضاد للبيض كما في السابق. يضاف إلى ذلك أن العصر تغير ولم تعد العنصرية مسيطرة على العقلية الفرنسية كما في عهده وان كانت لا تزال موجودة بالطبع. وبالتالي فهناك تطور في التاريخ وتقدم. ونضالات سيزير وسنغور وسواهما لم تذهب سدى. ولكن حضور السود في الإعلام الفرنسي ورئاسة الشركات والوظائف الكبرى أو حتى المتوسطة لا يزال ضعيفا. قلت له وماذا يمكن أن نقول عنا نحن العرب إذن وبخاصة المغاربة؟ إنهم اكبر جالية في البلاد ومع ذلك فحضورهم في مرافق الدولة ومؤسساتها لا يتناسب إطلاقا مع حجمهم البشري وإمكانياتهم وقدرتهم على العطاء والإبداع. بالطبع حصلت بعض التطورات الايجابية في الآونة الأخيرة حيث أصبحت رشيدة داتي وزيرة للعدل في حكومة الرئيس ساركوزي وأصبحت السوداء الجميلة راما ياد وزيرة أيضا الخ.. ولحسن الحظ فانه يحصل تطور في التاريخ وتقدم وإلا لاستسلمنا للأمر الواقع ولما ناضلنا من اجل أي شيء. نقول ذلك ونحن نعلم ان الطريق لا يزال طويلا لكي ينال السود والعرب والمسلمون حقوقهم في فرنسا والغرب كله. ولكننا سائرون على الطريق فنحن نستخدم أفكار فلسفة التنوير التي اخترعوها هم للمطالبة بحقوقنا. وبالتالي فاننا نفحمهم لأننا كما يقال: من فمك أدينك. استمعت إلى هذا الكلام طويلا وقلت بيني وبين نفسي: ليت المثقفين العرب يتجرؤون على طرح مشكلة الطائفية والعنصرية بكل صراحة ووضوح كما يفعل هؤلاء المثقفون السود في فرنسا وأمريكا. لقد فوجئت فعلا بمدى حيوية هؤلاء الشباب السود ومدى استنارة عقولهم. من يستطيع عندنا ان يفتح هذه الموضوعات المحرمة ، هذه الملفات المغلقة؟ بل من يتجرأ على القول بانه توجد عندنا مشاكل من هذا النوع؟ نحن ليس عندنا طائفية ولا عنصرية ولا من يحزنون! نحن أبرياء من كل هذه الأشياء الخاصة بالاستعمار والامبريالية فقط. نحن لا نشكو من شيء.. ومجتمعاتنا لا تعرف أي تمييز عنصري او طائفي، معاذ الله..

أكتفي بالكلام عند هذا الحد لكيلا أعرض نفسي للمتاعب وسوء التفاهم أكثر مما عرضتها حتى الآن. ولكني أجد فاجعا ومخجلا بعد ان أصبحت معظم مجتمعاتنا على حافة الهاوية الا يتجرأ أحد على تعرية الطائفية وتسمية الأشياء بأسمائها.

ولكن قبل ان أختتم هذا الحديث الذي طال سوف أخاطر برواية الحادثة التالية: في احد اجتماعاتنا نحن السوريين الأماجد حصلت نقاشات صاخبة واحتدت بين اثنين منا فإذا بأحدهم يصرخ في وجه الآخر قائلا: درزي حقير! وبهتنا جميعا باعتبار أننا كنا كلنا تقدميين لا رجعيين ولا أصوليين متزمتين.. ما الفرق بين هذا وبين “زنجي حقير” ، تلك العبارة التي سمعها إيميه سيزير في وسط باريس قبل سبعين عاما او يزيد وحسمت مسار فكره وحياته؟

نعم بهت الجميع وانزعجوا وطالبوه بالاعتذار فورا. ولا اعرف ما الذي حصل بعدئذ بالضبط ولكن اعتقد انه اعتذر. وهذا دليل على أن السوريين حضاريون إلى حد ما.. والأنكى من ذلك هو ان الذي لفظ هذه العبارة هو إنسان طيب، مستنير، بل ووديع على المستوى الشخصي. ولكن المشكلة هي ان المكبوت الطائفي السحيق ينفجر من الأعماق عندما تحزّ الحزة كما يقال ولا يعود المرء بقادر على السيطرة على نفسه..

هكذا نلاحظ ان مشكلة الطائفية والعنصرية ليست حكرا على الاستعمار والامبريالية ولا على الفرنسيين او الأمريكان كما يحاول ان يوهمنا ذلك الخطاب الغوغائي والديماغوجي العربي وإنما هي قضية تخصنا بالدرجة الأولى كما تخص كل الشعوب. بل إنها تخصنا أكثر من غيرنا لأنه لا يوجد عندنا قانون يحاسب على الطائفية مثلما يوجد في فرنسا وبقية الدول الحضارية المتقدمة قانون يعاقب على التفوه بالأفكار العنصرية ضد الآخرين سواء شفاهة أو كتابة. أما عندنا فالمقولات العنصرية والطائفية تملأ الفضائيات العربية والجرائد والمجلات وأحيانا تصدر عن مفكرين كبار أو نتوهم أنهم كبار. لا حاجة لذكر الأسماء.. فهي لا تستحق حتى أن تذكر. نعم لقد آن الأوان لكي يرتفع الفكر العربي إلى مستوى التحدي. آن الأوان لكي يتخلص من رواسبه العنصرية والطائفية والمذهبية. آن الأوان لكي ينخرط في اكبر عملية تفكيكية لرواسب الماضي، عملية لها أوّل وليس لها آخر. آن الأوان لكي يكنس أمام بيته قبل أن يتهم الآخرين، وإلا فانّ النار التي وصلت إلى باب الدار قد تستفحل وتحصد في طريقها كل شيء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى