صفحات أخرى

أوروبــا وأســطورة الغــرب لجــورج قــرم: اختــراع الغــرب ونقيضــه الشرقــي

عمر كوش
يبحث جورج قرم في كتابه «أوروبا وأسطورة الغرب» عن حمولات ودلالات ومركبات كلمة «الغرب»، التي تحولت من مجرد مفهوم جغرافي إلى إحدى البديهيات التي تكثف منظومة رؤية للعالم، وبات الغرب مقولة غير مقيدة، ملتبسة، لا تمتلك حدّاً جامعاً أو مانعاً، كونها استحالت إلى فكرة متخيلة، ولا شبيه لها على أرض الواقع، وتجمع شذرات من عصور ولحظات ومحطات تاريخية مختلفة، وتنطوي تحت مظلتها مرجعيات ومرتكزات دينية ورمزية، انصهرت في البوتقة الموحدة لما قامت به القارة الأوروبية منذ نهضتها وإلى يومنا هذا. لكن إذ كانت أوروبا موجودة بالفعل وبالقوة، فإن الغرب بات أسطورة مفترضة وجيوسياسية توظف لغايات أهداف مختلفة.
ويحذّر جورج قرم منذ البداية من أن تأليف كتابه لم يكن من قبيل كراهية أوروبا، ولا من قبيل حبها والتعلق بها، إذ أن الغاية من تأليفه هي تبيان أن مفهوم الغرب والقيم المتشبت بها، لم يعد له لا هذا المعنى أو ذاك من المعاني التي كانت له عبر تاريخ أوروبا. ويسعى من خلال ترحاله المعرفي إلى الحفر في أصول هذا المفهوم، وتبيان الخيوط القديمة له، ووضع ألوانها وصيغها ومحيطاتها الثقافية داخل سياق معرفي جديد. ذلك أن مفهوم الغرب، كان بالأمس يثير خلافات بين الأوروبيين، ولم يعد في أيامنا هذه إلا مفهوما فارغاً، جيوسياسياً بالدرجة الأولى، وخالياً من أي مضمون غني يمكنه الإسهام في بناء حياة العقل وبناء مستقبل أفضل. وعليه يجري تتبع مآل المفهوم وما آل إليه اليوم، حيث تلقفت الثقافة السياسية الأميركية هذا المفهوم وكثفت استعماله خلال الحرب الباردة، ويبدو أنها لن تتمكن من الانفصال عنه. في حين أن أوروبا، التي تمحورت فيها الخلافات الرهيبة الفلسفية والصوفية والقومية القديمة حول هذه الكلمة ذات الشحنة العاطفية الكبيرة، والتي تراجعت حدتها اليوم، باتت تستعمل المفهوم لغاية التأكيد على وظيفته الميثولوجية، من حيث تفردها واختلافها في علاقتها مع كل ما هو خارج عن قارتها، ومن حيث الشعور بالتفوق الأخلاقي الذي يجب على بقية العالم أن تنضبط إليه. وبالتالي يمكن القول، أيضاً، إن حيوية أوروبا مرهونة بمعايير «الغَربانية» الجامدة الحالية؛ نظراً لأن أوروبا الثقافة والخلق والإبداع، أوروبا الفن والفكر الفلسفي والفضول المعرفي، ليست لها قرابة حقيقية مع المفهوم الحالي للغرب. وهنا يأتي التساؤل عن الدور المستقبلي الذي ستلعبه أوروبا في مسار التطور المقلق للزمان الذي نعيش فيه، هل ستستسلم للمتخيل الجيوسياسي وحده الذي تحركه الولايات المتحدة الأميركية منذ تاريخ طويل وتصعد به التوترات، أم أنها ستتمكن من الإفلات منه وتهدئ الوضع بقوة تجربتها الطويلة؟
أسطرة الغرب
ويرى جورج قرم أن أسطرة فكرة الغرب أفضى إلى إيجاد الروابط وتآزر المختلفين والمتباينين حول غايات وأهداف تخطى تبايناتهم وصراعاتهم وحروبهم، لتتشكل مقاماً جامعاً يستر الاختلافات والنزعات الداخلية. وقد وقع العديد من الدراسات الأكاديمية في الأنثروبولوجيا والتاريخ تحت أسر الأساطير التي شكلتها وخلقتها الذهنية الأوروبية، وبات من الشائع النظر إلى الغرب بوصفه عالماً موحداً متماسكاً، متجانساً ومتآلفاً، في حين يكرس قرم مسعاه لتبيان تخلل الأصول وتفكك تلك الوحدة، وتبيان التصدعات والانقطاعات والشقوق، وتشييد مقام فكري مختلف عن السائد، يبيّن أن ما أفرزه التاريخ من مكونات فلسفية وسياسية واجتماعية، تخص أفكاراً شتى، ترتكز إلى مفاهيم الحق والملكية والديموقراطية والليبرالية والزمن التطوري، والاحتكام إلى القانون والدستور وسواها، ليست سوى مكتسبات إنسانية عامة، تراكمت خلال مسيرة التاريخ الإنساني الطويلة، وليست من إفرازات تاريخ الغرب وحده.
ويلتقي قرم مع «أنطوان شارل» في اعتبار «الغرب، حسب جوهره الأكثر حميمية، هو مجموعة من الرجال، الذين رسموا على سطح الأرض الحدود المميزة لشكل وجودهم وحياتهم وتفكيرهم، من خلال ما قاموا به من هجرات وحركات استعمارية ونجاحات؛ وكذلك من خلال انتكاساتهم في كل مرحلة من مراحل وجودهم». وجاء القرن العشرون الرومانسي كي يعطي خطاب الغرب حول نفسه، أو بالأحرى خطاب التمركز الغربي، طابعاً ميثولوجياً قوياً، يتعارض بشكل صارخ مع العقلانية والحكمة التي يسعى إليها هذا الخطاب.
ويظهر الحفر في طبقات التاريخ الأوروبي، وبالتضاد من الحكايات الكبرى التي خلقت استمرارية هذا التاريخ ومدت جسوراً له ليصل إلى الحضارة الإغريقية ـ الرومانية، يظهر أن بذور القوة الأوروبية نمت على علاقاتها القوية والاستثنائية مع الحضارات الأخرى، حيث أسهم التخصيب المستمر للثقافات الأوروبية منذ أوائل القرون الوسطى في نهوض ثورة غاليليو والموسوعات وقرن التنوير، والثورة الصناعية كذلك.
وتنهض الأسطورة بوظيفة أساسية في كل حياة اجتماعية، بوصفها من يخلق ويقوي، بدون توقف، الروابط الاجتماعية، وبقيت دراسة الأساطير، لفترة طويلة من الزمن، من اختصاص الإثنولوجيين الأوروبيين، الذين راحوا يكتشفون القبائل «المتوحشة»، التي تعيش بعداً عن التيارات الكبرى الحضارية، وشكلت موضوعاً للعديد من الدراسات الخاصة بالأساطير اليونانية، خاصة تلك المتعلقة بالآلهة. ثم اختفى الإرث الأسطوري اليوناني عدة قرون تحت تأثير المسيحية، وعاد إلى الواجهة خلال عصر النهضة الأوروبية، وأضحى فرعاً هاًما من فروع المعرفة والثقافة في القرن العشرين المنصرم.
وينتقد قرم أسطرة الغرب التي بلورتها الفلسفة الهيغيلية المتعالية والفيبرية، ودعمتها النيتشوية، ومجمل الفلسفات التي قامت على أساس الروح الكلية. وقد أرست هذه الأسطرة في القرن التاسع عشر دعائم نظريات عرقية كبرى، وتجسدت في النازية التي سعت إلى تدمير الجذر الإنساني المشترك في البشرية، وانتقمت من اليهود. وكانت وليدة الكليانية الأوروبية، والنظرة التحقيرية، والعدائية للآخر، وبات وفق الغرب قبلة العالم، والنموذج القاعدي للحضارة والحداثة وتقدم الإنسانية. أما الفضل في هذا المجال، فيعود إلى الفيلسوف الفرنسي جورج غوسدورف (1912 ـ 2000) الذي تعمق في تحليل الوظائف الأُنطولوجية للأسطورة، سواء مستوى الوعي الفردي للذات أم على مستوى الوعي الجماعي، والذي اعتبر أن المجال الأسطوري يلتقي مع نفس التصور الأنطولوجي لنظام الأشياء والإنسان، وأن خطأ الفلسفة الكلاسيكية يتجسد في عزلها منطقة ضيقة في الوعي، منطقة عقلانية، فيما كان رُمي ببقية الحقيقة الإنسانية إلى سلة مهملات المعرفة.
بركان
ويستند جورج قرم في تفكيكه لمقولة الغرب وأسطرتها إلى أطروحات وآراء العديد من الكتاب والمفكرين والفلاسفة، سواء الداعمة لأفكاره أو المخالفة، وخصوصاً أرنست رينان وروسو وشاتوبريان وبروديل وغوسدورف وجاك لوغوف ومارسيل غوشيه وليبنيز وهيرد وكانط وفيشته وهيغل ونيتشه وهايدغر وماركس وهامبلودت وكريببون وحنا أرند وسواهم. ويستشهد بحنا أرند التي تعتبر أن الشموليات اختفت ليحل محلها، اليوم، الإرهاب، كـشرخ في الزمان، في صيرورته وفيضه اللامنتهي، وفي الحيّز بين الماضي والمستقبل، وهو في الوقت نفسه مقاومة للماضي والمستقبل. وقد تكسرت تلك الصيرورة والاستمرارية في القرن العشرين من قبل الأنظمة الشمولية وممارساتها والحربين العالميتين، لكن ذلك الشرخ بعيد عن أن يُجبر من جديد، لأن الأصل فيه يكمن في صدام الرؤى الذي أنتجته أوروبا في القرن التاسع عشر.
وأفضى صدام الأفكار الأوروبية إلى قلب القارة الأوربية نفسها؛ إلا أن الفجوات التي تركها على مستوى استقرار العالم أنتجت موجات اهتزازية أخرى ما زالت بعيدة عن التوقف. وأمام انفجار بركان الأفكار الأوروبية، فإنه ليس من السهل فهم وتتبع الهزات تحت الأرضية لقوة الأفكار والعراقيل التي تقف في طريق رواجها عبر العالم. إذ هناك كثافة لهذا الإنتاج الفكري داخل الثقافات الأوروبية، وإنتاجها واسع في حقول الفلسفة أو التاريخ أو الميتافيزيقا أو الشعر أو الأدب أو اللسانيات أو السوسيولوجيا أو الأنثروبولوجيا. وهنالك خطرٌ في الاستسلام لسحر هذا الشكل الفلسفي أو ذاك أو الاستسلام للطموحات التي قد تتولد عنها، أو الارتماء في بحر المعرفة المتخصصة فيفقد الساعي إلى هذه المعرفة الرؤية الشمولية ككل.
وفي أيامنا، فإن الشرق الذي كان يجعل الغرب كائناً كمفهوم أسطوري لم يعد هو الشرق السْلافي أو الأصفر، بل هو الشرق المسلم، حيث أصبح الإسلام في خلال بضعة عقود كياناً حياً، مهدداً، مضاداً للغرب بامتياز. وجعلت منه كتابات كثيرة، أكاديمية وإعلامية، كائناً حياً متوحشاً، وعملاقاً، يسعى إلى المواجهة مع الغرب. وقد تعددت الصور في المتخيل الغربي، التي أفضت إلى تراكم سلسلة من الكليشيهات.
وتفترض مقولة الغرب أن يبقى الآخر /النقيض ماثلاً في كل حين وزمان، حتى يمكن اختلاق هوية متميزة. وفكرة الغرب بحاجة دائماً، إلى قطبها السالب، أي فكرة الشرق المختلف. لكن، إذا كانت مقولة الغرب تجسد اليوم العديد من المفاهيم الشائعة، كالحداثة، والفردية، والمساواة، والرفاهية، وتحرر المرأة، فإنه من الضروري، أن تقابلها صورة عن الشرق، من محمولاته ومفاهيمه النقيضة، كالتعصّب، وغياب القيم الفردية، والإرهاب، وحكم الديكتاتوريات الدموية، واضطهاد المرأة. ذلك أن الغرب يلتمس شرقاً مبايناً كضرورة ماسّة لبناء هوية تحجب عن الأنظار، بالرغم من ما عاناه هذا الغرب من حروب داخلية، ونزاعات دينية، ومن صراعات وحروب.
ويتساءل قرم عن الذي حدث فوق هذه القارة الأوروبية كي يقلب وجه الإنسانية ويتسبب في الانكسارات والقطيعات والاندفاعات، وعن طبيعة هذه المعجزة الملعونة من طرف الجميع، حتى داخل أوروبا نفسها. إذ أدت المعجزةٌ إلى بروز كلمة أخرى، سحرية، تعكس كل هذه التحولات، وهي الحداثة. وباتت أوروبا تعني الحداثة، التي تعني بدورها الغرب، الذي يعني بدوره مستقبل العالم. هذه المعادلة، أو الملحمة أو المأساة، صارت تشغل العالم كله منذ قرنين؛ لأن الحداثة هي أوروبا وأوروبا هي الحداثة، فيما أضحى مفهوم الغرب محوراً لهذه المعادلة. وصار الغرب، شيئاً فشيئاً، ينحو إلى محو أي وجود لتنوع الثقافات ورؤى العالم الفلسفية والتاريخية التي أنتجتها أوروبا. صار الغرب ابن أوروبا، وصار أبوها كذلك حامي حماها أيضاً، في حين أصبحت الحداثة هي الروح القدس لأوروبا التي ترسل رياحها إلى العالم كله. ويبدو أن الأمر عميق بعمق الثالوث المسيحي المجسد لله في ثلاثة أشخاص، بالرغم من كل الحروب الدينية التي تسببت في معارك كبيرة وزرعت الاختلاف في داخل مدينة الرب نفسها.
ومع ذلك كله، لا ينسى جورج أن يبرز الوجه الأخر لأوروبا، الوجه المضيء الذي غالباً ما ينساه المؤرخون والكتاب والفلاسفة، ألا وهو الإنتاج الموسيقي الأوروبي، الذي جعله يضع صورة لحفل كونشيرتو غلافاً لكتابه. ويرى أن ذروة العبقرية الموسيقية مجسدة في أعمال الموسيقار موتسارت، الذي شكلت موسيقاه إسهاماً كبيراً وأساسياً في النهضة الموسيقية، حيث تعانق فيها الموسيقى الدينية بالموسيقى الدنيوية، وتعددت أنواعها وموضوعاتها، وتنوعت مصادر وحيها وإلهامها، ولم ترض أن تبقى حبيسة صالات وغرف الكنائس والكاتدرائيات والأديرة، بل حلّقت وتناثرت فوق كل الأقاليم والقارات.
Georges Corm, L”Europe et le Mythe de l”Occident, La construction d”une Histoire
La Découverte / Paris, 2009
(كاتب سوري)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى