صفحات ثقافيةوهيب أيوب

خازوق في إستِ الدرامة السورية

null
وهيب أيوب
في “باب الحارة”…
“أبو شهاب” يقف منتصب الساقين وكأنهما أعمدة هِرَقل، ورأسه يكاد يلامس قبة السماء لكثرة عنفوانه وإبائه، وشاربان ينتصبان أُفقياً وكأنهما قد شُدّا بفعل الجاذبية المغناطيسية شمالاً وجنوباً… واثق الخطوة يقف ملكا.
وقد بدأ بمخاطبة الضباط والجنود الفرنسيين بلهجة جهورية آمِرة واثقة لا يشوبها انكسار، ثم يزقر زقرته المعهودة، بحيث ترى عينيه اللتين أخذتا تبدوان عليهما الاتساع وشدّة الحملقة، لترى السواد من البياض منهما، وقد سطعا، كنقطة عنّبَر في صحن سحلب!
وأبو شهاب كما تعلمون جميعاً “شكلين ما بيحكي”! فها هو قد عاد لتوّهِ مزهوّاً من “مخفر” رئيس الدرك بعد أن لقّنه درساً في الأصول والتعامل، وأبلغه تحذيراته وتهديداته فيما لو لم ينفّذ أوامره ويرضخ لشروطه بالكامل… نعم، هذا أبو شهاب يا شباب!
سألني صديقي في هذه اللحظات الدرامية الحرجة: دَخْلكْ… في هذا الوقت أكنا نحن السوريون نحتل باريس، أم الفرنسيون يحتلون دمشق؟!
وكاد يُغمى علي من الضحك حتى نزفت عيناي دموعاً… لعل شرّ البلية ما يضحك!
وِللحظات اختلطت علينا الأمور، وكدت وصديقي أن نفقد تعاطفنا مع أبي شهاب و”الشراويل” التي تحيطه وتقف خلفه، متعاطفين مع الضباط والجنود الفرنسيين المساكين، الذين طأطأوا رؤوسهم خوفاً وخجلاً من أبي شهاب المُستهاب؛ والدرّس الذي لقّنهم إياه في الرجولة المرجلة على طريقة الحكواتي في سرده لقصص عنترة والزير وأبي زيد الهلالي في قهاوي دمشق العتيقة.
وكنت أقول في نفسي:  يا ربّ أين سمعت هذه اللهجة الحازمة الواثقة؛ في الخطاب “العنتري” التي نُسميها في اللهجة المحكية في الجولان “الهوبرا والتفنيص”، فتذكّرت مُحافظ القنيطرة وأمين فرع حزب البعث وبعض المسئولين في النظام السوري حين كانوا يأتون إلى موقع عين التينة عند خط وقف إطلاق النار بمحاذاة مجدل شمس في المناسبات الوطنية، ليمطروننا بالخطابات والبهورات ذات النبرة الواثقة العالية التي تشابه في حد كبير نبرة وبهورة أبي شهاب، بحيث تشعر لدقائق أنك شرق الشريط لا غربه؛ وأن التلّة التي تبعد عن الشريط من خلفنا أمتاراً قليلة يتمركز فيها جيشنا السوري وليس جيش الاحتلال الإسرائيلي! ليختتموا خطاباتهم كالعادة: إلى اللقاء العام القادم والجولان محرر… إن شاء الله!
وأردف صديقي قائلاً: واللّه لو كان في سوريا ثلاثة فقط من ماركة أبي شهاب هذا ، لكُنّا اليوم، نقطف الشمّام من الإسكندرونة ونصيد الأسماك على الشاطئ الغربي من بحيرة طبريا، ونأكل الحمّص والفلافل في عكا، ونشرب الكازوز والبيرة في تل أبيب… ولكن، “حظّ بيفلق الصخر”!
الشيء المُضحِك المُبكي من تكرار المسلسلات التي تُظهِر مقاومة السوريين للاحتلالين التركي العثماني والفرنسي، باتت مدعاة للسخرية والتهّكم حتى للمشاهدين البسطاء، ولا تثير الحماسة الوطنية التي أراد افتعالها وتصنّعها الكاتب والمُخرج، بحيث يبديان من خلالها لهيب صدريهما الوطني والقومي. بعدما كاد الظلم والاستبداد الواقع على الشعب السوري ينسيهم حليب أمهاتهم وليس الأتراك والفرنسيين فحسب! سيّما وأن الأتراك اليوم باتوا هم وسطاء المفاوضات بين نظام الممانعة في دمشق وإسرائيل؛ وفي نفس الوقت الذي بات يفرّ فيه بعض أقطاب المعارضة الوطنية  السورية إلى باريس من ظلم وقمع واستبداد أهل السلطة والحكم، مُنضمّين إلى العقول السورية المُهجّرة من وطنها منذ عقود إلى مُستعمرينا السابقين في فرنسا وكافة الدول الاستعمارية والإمبريالية السابقة الأخرى، إضافة أنه بات من أُمنيات وحلم أي مواطن سوري الهجرة أو تسوّلَ الجنسية الفرنسية أو غيرها على أبواب مُختلَف السفارات الأجنبية بأي طريقة…! فيا زمانَ الوصل بالأندلُس!
باب الحارة في أجزائه الثلاثة – والحبل على الجرّار- يطرح، وهو يدعو أيضاً لما يسمّيه قيم وعادات وتقاليد السلف الصالح، بحيث يعيد المرأة إلى حضيرة الرجل وبيتها خانعة راضية مرضية، واستعادة قيم المجتمع الذكوري على أصوله، ثم إعادة إحياء قيم “الجبرية” والاتكال على الغيبيات والقضاء والقدر… وليغلق أخيراً باب الحارة في وجه الغرباء مُعلِناً أن “الشرق شرق، والغرب غرب ولن يلتقيا”! (كبلنغ).
في الوقت الذي كانت فيه الدراما السورية تقف شامخة متصدّرة الدراما العربية، من حيث المواضيع الهامة التي تقدمّها وطرق معالجاتها كـ “بقعة ضوء” و “مرايا” وسواهما، أتت “أيام شامية” و”باب الحارة” وغيرهما عبر دعم وتوجيه “البترو دراما” الخليجية لتكون بمثابة الخازوق في إست الدراما السورية الصاعدة.

الجولان المحتل – مجدل شمس
25 \ 10 \08
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى