صفحات سورية

قفــص للجميــع

null
عباس بيضون
التقرير الاتهامي ضد معتقلي بيان دمشق مفحم بالطبع. من يستطيع ان يدفع عن نفسه تهمة إضعاف الروح القومية وبث التفرقة والسعي لتغيير الدولة. الأرجح انه لا يستطيع ان يفعل ذلك امام نفسه وستكون التهم قوية بحيث لن يفيها أي اعتراف مهما بلغ طوله. لو اعتُمد كما يجب لما بقي أحد خارج السجن. سيفكر المواطن الصالح هنا او هناك ان جريمته اتضحت أخيراً: لقد اضعف شيئاً يسمونه الروح القومية. لا يجد المواطن الصالح تعريفاً لشيء كهذا. لا بد أن يكون مع ذلك موتورا رهيباً ومحركاً أعظم. ربما يكون كومبيوتراً خفياً. ربما يكون عقلاً مفارقاً. ربما يكون… أليس روحاً. لا بد أن يكون كما هو اسمه روحاً. نعم انه روح… روح ومن يقدر على ان يرى روحاً. لا بد أن الجنود في ثكناتهم يشعرون بأنهم لا يفعلون ما يكفي لإرضاء هذه الروح. لا بد ان الموظفين في اعمالهم يحسون بأنهم لم يفهموا بما يكفي إيعازات هذه الروح وأن نظامها العلوي، الذي يزداد علوية، خفي عن أبصارهم. لا بد ان هذا حال الزارعين والعمال والكهنة والتلامذة والعاطلين عن العمل والأطفال، نعم الأطفال فنحن لا نستطيع ان نطردهم خارج الروح ولا بد ان ألعابهم، ألعابهم حتى، لم تكن بريئة ولا بد انهم من حيث لا يحتسبون أساؤوا الى الروح. لا نعرف طبعاً كيف يكون حال المجرمين والقتلة واللصوص في أمر كهذا، لا بد أنهم أساساً خارج الروح، ولا يضيرونها مهما بلغت جرائمهم. إنها الروح القومية او الوطنية. لكن من استطاع ان يعاين روحاً. لا بد أنها مسألة ميتافيزيقية ايضاً او هي مسألة لغوية. إنها على كل حال فوق نطاق الفهم والحس. هل هناك أمارات عليها او علامات أو إشارات. المؤكد ان هذا حدث في يوم، وأن العلامات كانت عند ذاك كثيرة وغزيرة. الآن، للأسف، ما من إشارة ولا علامة. الآن لا نصدق أنها، الروح، تجلت لأحد، فدون ذلك موانع وعوائق. لقد طال الهجر وطال الفراق. لا بد انها غاضبة لكي تحتجب هكذا. لا بد انها مكلومة، لا بد أننا أسأنا اليها وجرحناها. لا بد أنها أخفت وجهها خجلاً منا، لا بد أننا طردناها بأفعالنا وإساءاتنا وشرنا الكبير، وأنها لذلك لم تعد بيننا. اذا كان الحق على معتقلي بيان دمشق. اذا كانت هذه مسؤوليتهم فإن بوسعنا ان نرتاح. لقد عثروا على الجناة والأمر متروك للقضاء. هذا صحيح، لكن المواطن الصالح سيحس انه، ولو لم يعتقل، مسؤول. لا يكفي لخروج الروح وغضبها واحتجابها بيان، مهما يكن. لا تكفي بالطبع عصبة واحدة. انها بالتأكيد مسألة أكبر وأدهى. لن تهجر الروح العظيمة لأمر بهذه السرعة وهذا الصغر. انظر في نفسك. يقول المواطن الصالح، ستجد انك ايضاً بلا روح وأنها روحك الخاصة، روحك أنت، غادرت ولم يعد في مقدورك ان تعاينها. لا بد ان الأمر جلل. لا بد ان كل واحد فعل شيئاً. حتى الأطفال لن نصدق براءتهم. إنها بالتأكيد خيانة غير واعية. إنها في الغالب مؤامرة قدرية، ودون ان نعلم او نشعر، انجررنا اليها. لا بد أننا نحمل ذنباً عما حدث. اذا نبشنا في ضميرنا فنسمع في داخلنا صوت الذنب. اذا طرقنا على قلوبنا فسنجد الجواب. إنها خطيئتنا جميعاً، كل مواطن في عمله او حقله او ثكنته او شارعه او بيته يعرف الآن انه أذنب في حق الروح العظيمة. كل مواطن مهما قل شأنه اشترك في هذه الجناية. لا يقل أحد لنفسه إنه أهون على نفسه وعلى الروح من ان يفعل. لا يقل أحد لنفسه إنه لم يشترك، هذا بالتأكيد تهرب مشين. هذا بدون شك، جناية إضافية. على الجميع ان يخجلوا، عليهم بدون أي استثناء، ان يعانوا. على الشعب كله ان يغرق في الحداد على فراق الروح العظيمة وعليه ان يصلي لعودتها. هذا بالطبع لا يرفع تهمة عن معتقلي بيان دمشق. لا شك ان هؤلاء جدّفوا، ابتهجوا بغياب الروح او كفروا بها. لكن الروح العظيمة مع ذلك غائبة وهذه مسؤولية شعب كامل ومسؤولية أجيال سابقة ولاحقة. أما أن يقول أحد اين هي هذه الروح، أما أن يسأل عن حقيقتها وماهيتها فهذا الكفر بعينه وهذا ما قد يكون فعله معتقلو بيان دمشق. لكنهم لم يكفروا في الواقع ولم يكفر البيان. لا بد ان جناية كهذه لا أبرياء منها. إنهم يستحقون ونحن نستحق ان يحاكموا عنّا وعنهم وعن الأجيال السابقة واللاحقة. ماذا لو أنكر أحد الروح. سيكون هذا جنوناً، فإن غياباً بهذا الحجم لا يمكن ان لا يكون له صاحب. أيتها الروح غفرانك وعفوك وانتقامك من الكافرين، لتفتح السجون لكل من يجدّف ويطرح سؤالاً على العزة او يطلب من الحضرة دليلاً من أي نوع، لكل من يتطلب منها او يسائلها.
من ينجو من تهمة التفرقة. لولا ذلك، لولا ان الذنب فاش اما كنا متحدين، ألســنا نغــرق بوعي وبدون وعي، ألسنا في كلامنا وحديثنا وسماعنا وحياتنــا الجاريــة نفــعل ذلك باحتساب وبغير احتساب. إنها جناية في دمنا وفي ضميرنــا وفــي خلايـــانا. إنها التفرقة في اللغة وفي الفكر وفي اللسان وفي اللاشــعور وفي الحلم وفي النوايا وفي الأحاسيس. إنها التفرقة حين يفــرق كــل رأي وكل كلمة وكل حس وكل إدراك وكــل نــيّة. ذنبنــا في أجسادنا وعقولنا ولا فكاك منه ولا نجاة مهــما عظــمت توبتــنا فهــذا أمــر لا ينــال إلا بالنعمة واللطف.
أما الدولة فما أدراك وأين هي الدولة، ولولانا لم تغب ولولانا لما تحولت الى عصب وشراذم وفلول ومافيات. إنها الدولة التي لم تردنا اصلاً ولم نردها. وعلينا بالطبع ان نكفر عن غيابها وأن نسأل ماذا فعلنا لنتحول الى جملة سياط وأكاذيب.
مفحم البيان الاتهامي لمعتقلي دمشق، لكن من الصعب ان نجد قفصاً للجميع؟
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى