صفحات ثقافية

«خارج الحياة»

null
عبده وازن
قد تكون رواية «القوقعة» من أجمل ما كتب عربياً عن الحياة، أو الموت بالأحرى، وراء جدران السجون. وقد تكون أيضاً من أجرأ ما كتب في هذا الأدب الذي اتفق على تسميته «أدب السجن»، ومن أقسى أو أعنف ما كتب. قد لا تكون «القوقعة» رواية في المفهوم الرائج للفن الروائي، فهي أقرب الى ما يدل عليه عنوانها الثاني «يوميات متلصّص». لكنّ مَن يباشر في قراءتها يحسّ أنه عاجز عن «هجرها» قبل إنهاء الصفحة الأخيرة منها. ليس الحافز هو التشويق ولا المهارة في القصّ ولا اللعبة السردية، بل المناخ الذي تحمله، المناخ الجحيميّ الذي لم تبلغه أي رواية عربية من قبل دارت حول عالم السجن. ولعلّ البارز في هذه الرواية ان صاحبها مصطفى خليفة، ليس بروائي بل هو مخرج سينمائي لم يتسنّ له العمل وراء الكاميرا. فهو ما إن حصل على شهادة الإخراج من إحدى الجامعات الفرنسية وعاد الى وطنه، حتى قبض عليه في المطار واقتيد الى السجن ليكون بطل فيلم يخرجه السجّان ومَنْ وراءه.
لم يسمّ مصطفى خليفة الوطن الذي عاد اليه واكتفى بتسمية السجن مجازياً «السجن الصحراوي»، لكن الناشر (دار الآداب) لم يتوان عن الإشارة الى أن المؤلف سوريّ الجنسية. وقد لا يحتاج القارئ – اللبيب والعادي – الى أي تفاصيل أخرى ليدرك للحين، أن الوقائع التي تضمّها الرواية حصلت في الثمانينات، أيام حكم الرئيس السوري السابق.
يكتب مصطفى خليفة تجربة السجن كما عاشها، بفجاجتها وقسوتها وعنفها. لم يتفنن في فعل السرد وبناء الزمن وتقطيعه، بل اختار الكتابة العارية والمباشرة التي لا تشهد على التجربة فقط بل تعيشها أيضاً. لكنّ الطابع الاستعادي لهذه «اليوميات» أتاح له اختراق زمنها الداخلي، فهو يكتب «الآن»، أي بعد خروجه من السجن الذي أمضى فيه ثلاثة عشر عاماً، من دون أن يحاكم، بل حوكم قبل أشهر من خروجه على جريمة لم يرتكبها.
انها سيرة ذاتية إذاً ولكن مقتصرة على أعوام السجن. فالكاتب لم تبق له حياة بعد خروجه، لم تبق لديه أي رغبة في إعطاء الحياة معنى كما يعبّر في الختام. ولو كان له أن ينتحر مثلما فعل رفيقه في السجن بعد خروجه لفعل بلا تردّد. لكنها الكتابة، أنقذته من الانتحار بعد أن انتحر بها مجازاً. أما «القوقعة» التي عاش داخلها في قلب الزنزانة فحملها معه عندما خرج ليعيش فيها بلا أي رغبة في التلصّص.
وقع مصطفى خليفة ضحية اسمه واقتيد الى السجن بتهمة الانتماء الى حركة «الاخوان المسلمين» علماً أنّه نصراني، وقد سمّاه أهله مصطفى وفاءً لنذر. هذا قدر مأسويّ كتب له في لحظة ولادته. فما من أحد صدّق أن في الأمر «سوء فهم». لا جهاز الأمن ولا المحقق ولا السجان… وعندما علم رفاقه «الأصوليون» داخل السجن بالأمر، نبذوه وعزلوه وتحاشوه خوفاً من النجاسة. لكنّ قلّة من هؤلاء كسرت هذا «الحاجز» وعاشت معه. بل ان اثنين من السجناء أصبحا صديقين حميمين له. ولن تمضي أشهر حتى يتلاشى لديه الخوف من موقفهم العدائي ازاءه ومن تكفيرهم إياه، ولكن من غير أن يطمئن نهائياً فيخرج من تلك «القوقعة» التي كان يشعر فيها أنه أشبه بالسلحفاة . لقد أصبح ضحية مزدوجة، ضحية السجانين وضحية المسجونين في آن واحد، وبات يتلصّص على أولئك وهؤلاء خائفاً الخوف نفسه ومتوجساً التوجّس نفسه.
لا أعتقد أن كاتباً عربياً استطاع أن ينقل عالم السجن بأمانة شديدة مثلما فعل مصطفى خليفة. والأمانة تعني هنا أن يكتب ما عاش وما شاهد وسمع، بواقعية قصوى ووعي تام، فلا يفوته تفصيل أو لحظة… انها الكتابة تلصصاً، إذا أمكن التعبير، الكتابة بصلافة وحدّة في منأى عن أي بيان أو بلاغة أو صنعة. «كتابة حقيقية» كما يقول الراوي – الكاتب، لا تجامل ولا تجمّل ولا تقبّح. كتابة بالحواس، كتابة بالذاكرة التي تفوق المخيلة، كتابة لهذا العالم الذي تختلط فيه روائح الدم والقيء والبول والصاق والمخاط… يسمى الكاتب الأشياء كما يجب أن تسمّى وكما لم يعتد القارئ أن يسمّيها من قبل. يصف أحوال التعذيب التي تفوق التصوّر: الجلد، الدولاب، الكهرباء، الفروّج، الشنق، الجرجرة، الإذلال الجنسي، «الحيونة» وسواها من مفردات «معجم» التعذيب… «أيّ كائن أنا؟ هل أنا إنسان؟ حيوان؟ شيء؟» يسأل الراوي. أما الجواب فيأتي أولاً من السجانين الذين يمارسون «ساديتهم» بلا رحمة، ثم من السجناء الذين يسقطون يوماً تلو يوم في الجنون والمرض والعجز، ويموتون أو «ينفقون» كما يقول المحقق. وقد استحال بعضهم عمياناً ومقعدين ومجانين…
رواية بديعة حقاً ليس بفنها الروائي ولغتها شبه العامية، وبنائها، بل بقسوتها وواقعيتها التي استحالت ضرباً من المتخيل من شدة قوتها بجرأتها وصدقها، بغرائزيتها ولا إنسانينتها التي هي لا إنسانية «الجلاد» ولاإنسانية «الضحية» عندما يجردها «الجلاد» من انسانيتها.
الحياة     – 20/10/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى