صفحات مختارة

يوميات فتاة- مي زيادة

null
كيف نصنع خيراً؟

نزعت ورقة الأمس عن تقويمي فوجدت على صفحة اليوم هذه العبارة الجميلة لشكسبير: إننا خُلقنا لنصنع خيراً، أجل، إنها لعبارة جميلة تستحوذ على القلب دفعة واحدة لأنها بسيطة، وتُدبُّ فيه حبَّ الخير ورغبة العمل، أميل بنظري إلى ما هو حولي، فأرى هذا المعنى منطبقاً على جميع الأشياء والكائنات،
فالكتب الصامتة التي تملأ غرفتي تنتظر إشارة من يدي لتبرز لي كنوزها، الأدوات المبعثرة أمامي، والأشياء الجامدة مما أرى وما لا أرى، لها عمل خاص بها لا يتوقع أن يقوم به نوع من غير نوعها، الغيوم التي تطل عليَّ من أعالي الجو، والأشجار التي تتمايل أمام نافذتي، والأطيار التي تسبح في الفضاء مغردة، جميعها تخدم أرضنا خدمات جميلات، والأشباح السائرة في الشارع نساء ورجالاً، يخدمون الجمعية كل بحسب قواه، وطبيعته، ومركزه فلماذا أكون أنا في هذه الأيام الصعبة، رقماً مهملاً يجمع ويُطرح ويضرب في قوائم الإحصاء وكشوف المحافظة فقط؟ لماذا لا أجتهد أن أكون رقماً نافعاً؟

أدرت طرفي حيناً في الجو ذي الزرقة العذبة المزركشة هنا وهناك بغيوم بيضاء صغيرة يلمح فيها انعكاس الأشعة الشمسية وأنا أفكر في عبارة شكسبير، ثم انتقلت منها إلى عبارة أخرى تقربها، وقد قرأتها في كلمات قاسم أمين، وهذه هي: لا يطلب الكمال من المرء وإنما يطلب منه أنْ يكون كل يوم أحسن منه في اليوم الذي مضى.

أجل، إذا عرف المرء أنه لم يخلق إلاَّ ليعمل خيراً وأنْ عليه أن يرقي نفسه كل يوم، فقد عرف أجمل قواعد الحياة، وهذا آنٌ قد اتسع فيه ميدان العمل، الخير ينمو بنمو الشر، فكلما زاد الشقاء زاد الاحتياج إلى العطف وزادت إمكانية فعل الخير، وما أقرب فعل الخير من قلب انفتحت فيه زهرة الحنان

هناك حرب دموية هائلة، وبيننا حرب اقتصادية مؤلمة، إننا نفكر بالجنود الجرحى الباسلة، وحسناً نفعل ولكنَّا نهمل جرحانا الأشقياء، جرحى الجوع والذل والفاقة، نكتتب للمظلومين الشجعان الذي يستحقون إعجابنا ومساعدتنا، وننسى الآخرين الذين هم أشد احتياجاً إلى مساعدتنا وعطفنا، نحنُّ على إخواننا بالإنسانية، ونترك إخواننا باللغة والجنسية والوطنية مع إنَّ ذوي القربى أولى بالإحسان.

العمال العاطلون، الأطفال الجياع، النساء البائسات، لماذا لا يعمل في انتشالهم من هوة الفاقة، كلٌّ منا على قدر استطاعته؟ لا يكفي أن يعمل الأفراد، الواجب يطلب عمل الجمهور بكليته، فإلى العمل إلى العمل

بعد أنْ القيت على مسامع نفسي هذا الإرشاد الصغير وأنا أحسبني واقفة على منبر عالٍ، صممت النية على مخاطبة بعض صديقاتي (صديقات على المودة) في أمر تشكيل لجنة نسائية تكون فرعاً من جمعية الرجال لمساعدة العاطلين، أو تكون لجنة منفردة حرة، فناديت صديقة بالتلفون، وأطلعتها على فكري، فبعد أنْ كان صوتها مرحاً، ضاحكاً، راقصاً، وبعد أنْ أكدت لي أنَّ حالها على ما يرام، وأنَّ العائلة وأذيالها بخير والحمد للّه عادت فقالت لي بصوت جبان حُكم عليه بالإعدام، إنها منشغلة البال بسبب مرض اثنين من أولادها الثلاثة، وأنها حزينة ومريضة، وتنهدت.

قلت: يعني أنك لا تريدين.

قالت: ما قلتش كدا، يا حبيبتي.

حبيبتها أنا؟ أعوذ باللّه؟

ناديت أخرى: نهارك سعيد، يا مدام -بونجور يا حبيبتي أنا حبيبة هذه أيضاً

قلت جئت أطلب منك خدمة صغيرة.

قالت: من عيني

استحضرت إلى ذاكرتي عيني السيدة المتكلمة فوجدتهما كبيرتين جميلتين فاستبشرت بهما خيراً وقلت في نفسي: لنر ماذا توازي الخدمة الخارجة من هاتين العينيين، وأخبرتها برغبتي، فأجابت فوراً بلهجة أمٍّ مُحبّة: يا ابنتي مالك ولهذا التعب؟ إنَّ في مصر كثيراً من الرجال الذين يستطيعون تأليف اللجان ومساعدة المحتاجين، لنكتفِ بزياراتنا واستقبالاتنا ولا نهتم بالأشياء العمومية

وهذا كل ما أخرجته عيناها، يا إخواتي إنَّ دواتي الجافة منذ سنوات ثلاث تقوى على أكثر من هذا.

كم وكم فكرت بهذه اللجنة وتلك المساعدة لكن عزيمتي قد انحطت وإن كانت رغبتي حية، أعرف أن كثيرات من السيدات المصريات ذكيات، طيبات، كريمات، ولكني لا أعرف أين أجدهن وها أنا أتنهد ناظرة إلى تقويمي أقرأ عليه كلمة شكسبير وأردد: كيف نصنع خيراً؟ كيف نصنع خيراً؟

جيراننا والموسيقى

سَلْ كل من له جيران يكثرون من العزف على البيانو رأيه فيهم، تسمع منه الجواب المألوف: لا أراك الله أمثالهم، إنهم يكسرون دماغي ونحن لنا مثل هؤلاء الجيران على أنَّ ما أقوله عنهم يختلف عن هذا القول بعض الاختلاف.

الجماعة التي أعني تسكن في المنزل المقابل لنافذتي الشرقية، وتدل هيئتها ولغتها وارتفاع أصوات أفرادها، على أنها يونانية، تتألف من رجل وزوجته، أما الرجل فهو قصير القامة، نحيف الجسم، يناهز الخمسين، ونظارته تلمع على عينيه في كل حين، ثم إنَّ نظارته هذه وارتفاع صوته ارتفاعاً فنيَّا خاصاً، وعباراته المزركشات وإشارات يده المستديرات تنبئني بأنه محامٍ، وأما زوجته فلا جمال ولا قباحة، ولا ثقل ولا خفة، ذات عينين تنظران بلا اهتمام ولا رغبة، لها وجه يحزن المفكر لأنه يشعر بأن وراء تلك الملامح تختفي نفسٌ ملساء كجدران منازل الإيجار، ليس في تلك الملامح ما يدل على معنى أدبي أو نفسي خاص، كأن هذه المرأة لم تذق في عمرها ثورة العواطف التي تكسب الابتسامة، مهما كانت عادية، شيئاً من جمال الحزن ولذة المرارة، وكأنها لم تعان قط مشقة التأمل ولم تشعر بثقل الفكر الذي تنحني تحته الجباه وتبيض لمروره المفارق كلّ غد ٍيجدها كما كانت بالأمس، هي من النوع النسائي الكثير في العالم -النوع الذي يدعون كل واحدة من أفراده بهذا الاسم المبهم ست طيبة.

أرى أحياناً باب الشرفة مفتوحاً عند جيراني فألقي بنظري إلى داخل منزلهم ولا أرى أولاداً ولا أسمع صوت أطفال، ولا أدري لماذا أذكر حينئذ هذه الكلمة لكارمن سلفا ملكة رومانيا المترملة منذ أيام قلائل، وهي: البيت بلا ولد كناقوس بلا ضارب، فما أجمل الأنغام النائمة لو وجد من ينبهها من سباتها

من مميزات جيراننا أنَّ كيفهم الموسيقي لا يبدأ إلاَّ حوالي نصف الليل، مع أنه مصطلح بين الناس على إقفال البيانو في تلك الساعة التي يطلب فيها الكثيرون راحة وسكينة، ما لم يكونوا من الراقصين أو اللاعبين أو المتنزهين.

وضع البيانو في الغرفة المقابلة لنافذتي والرجل يضرب عليه طويلاً بقوة متناهية الإتقان، إنه ليعزف ألحاناً من أجمل الألحان وأشدها صعوبة وأبعدها إتقاناً، ألحاناً مأخوذة من موسيقى عظماء الملحنين من الألمان بيتهوفن وفاكنر ومندلسهن وغيرهم ممن يضحى لسماعهم كل رقاد، غير أنى لاحظت يومّا أن يدي الرجل تظلان جامدتين، فرقبت حركاته فإذا به لايعزف بل يحرك برجليه آلة ألحقت بالبيانو، وهي معروفة لدى العموم باسم بيانولا وهذه تردد أنغاماً وقَّعها لأول مرة بعض كبار الموسيقيين فخلد نصابو التجارة ذلك الإتقان فيها طمعاً بالريح، فما كان أحقر ذلك الإتقان الأمي التجاري عندي، لما علمت أنه إتقان كاذب وما كان ألذه في نفسي يوم كنت أعتقد بأنه إتقان جادت به روح متعطشة إلى الانفراد والجمال فجاءت تحيا ساعة بعيدة عن صغائر الحياة اليومية، سابحة على أمواج الفنون

ومنذ ذلك الحين شعرت بأن جيراني يكسرون دماغي إذ يملأون سكوت الظلام المهيب بصرير آلاتهم الحديدية التي تحدث ضجيجاً يشبه ضجيج الهالكين في النار الأبدية وأما الأمر الذي لا أسامحهم عليه أنَّ موسيقاهم ألمانية، فإني منذ إشهار الحرب أتحاشى كل ما هو ألماني من مؤلفات وموسيقى وفنون، إنَّ ألمانيا التي تدوس حقوق الضعفاء، وتتبختر غروراً على الأقوياء، وتفتك بالأطهار والأبرياء، ألمانيا الضخمة التي تحاول هدم مدنية شيدتها مدنيات، لا تستحق أن تكرم الآن بأفرادها، مهما كان أولئك الأفراد عظماء وأبراراً

ولما يشمل الكون ظلام وسكون، وتنفتح زهرات الليل في أعالي الأفق، يخيل لي أن النجوم التي نراها تلمع بشدة ثم تمر سراعاً، ليست إلاَّ دموع المفكرين والمصلحين الذي أوقفوا حياتهم وقواهم على بناء ما تحطمه اليوم بروسيا المتعجرفة

فابكى، يا عيون الموتى إنَّ أصواتك الزمنية قد تلاشت في أرضنا، فلا تتعالى إلاَّ في فضاء الأبدية التي نجهلها، ابكي إنَّ البكاء لا يموت ابكي ليلاً في وحدة الآفاق لعل عبراتك النيرات التي لا يستجوبها هادمو الآثار ومخربو الأمصار وناهبو الأعمار- لعل عبراتك لا تفوت نظرات نفس تحبك وتفهمك و- تستغفرك

ماذا جرى؟

من أخبار فرنسا أنَّ الحكومة عطلت جريدة الرجل الحر التي يكتب فيها يومياً مسيو كليمانسو، أحد زعماء الحزب الراديكالي ورئيس وزارة فرنسا سابقاً، ولقد أصدر السياسي المذكور بدلاً عن الجريدة المعطلة جريدة الرجل المقيد، ولا ريب في أنَّ هذا الاسم الجديد للجريدة القديمة هو الوتر الذي سيمرن عليه مسيو كليمانسو مَلكة التهكم الخفي والتوريات الدقيقة التي لا تخلو منها حدة لهجته وقوة حجته، وليس بمستهجن أنْ نرى رجلاً كمسيو كليمانسو تقلّب في أعلى المناصب وعالج السياسة أعواماً في زعامة حزبه، ينظر إلى القلم كالسلاح الأعظم الذي تُغزى به قوات الرأي العام.

يقولون إنَّ الحق بجانب المدفع في هذه الأيام، وهذا صحيح عن ساحات القتال، على أنَّ في غيرها من الأماكن ما زال القلم ذا النفوذ الأكبر، إنهم يتقاتلون في فرنسا وبلجيكا وروسيا والنمسا، أما في باقي الممالك والجمهوريات، فإنهم يكتبون، يكتبون في البلاد الملازمة خطة الحياد، ويكتبون في البلاد المتحاربة أكثر من ذلك، إنهم يكتبون، ثم يكتبون، ثم يكتبون، الوزراء والنواب والأمراء والسياسيون والمؤرخون والشعراء والجنود، كلهم يكتب بلغته، ويعبر عن فكره بأسلوبه، ويبدي ما يعن له من طرق الإصلاح وأساليب المنفعة، كل منهم يقدم فكره قربانا على هيكل المصلحة الوطنية، والكلمات التي تخطها أقلامهم تهز وتلذع كأنها شرارات متطايرات من بركان نفوس كثيرة الغليان، نعم، يكتبون في كل مكان، إلاَّ في مصر، لا أعني أنه ليس عندنا حبر كثير على ورق كثير، فنحن بذلك أغنياء والحمد لله ولكن الكتابة التي هي نتيجة تفكير واقتناع وإخلاص ومعرفة، فهي قليلة جداً، فإن أكثر الجرائد عندنا تكتفي بنشر الأخبار والأفكار وإبداء الآراء بأسلوب الإنشاء المعروف بالتقريري وهو يصلح لكتابة المواد القانونية وتقارير مجلس النظار والبلاغات الرسمية ولكنه لا يتفق مع حالة الأفكار في هذه الأيام، أو ينقلون المقالات الطويلة عن الجرائد الأجنبية، وهذه يمكن الاطلاع عليها في الأصل إذ لا يفيدنا من الأقوال إلاَّ ما ينطبق على حالتنا أو ما تهمنا معرفته بسرعة، فإذا ما قرأ الواحد منّا يوماً كلمة بغير هذه النغمة (التي لا شيء فيها من الأنغام) واطّلع على رأي شخصي وفكر مناسب في أحوالنا الاقتصادية أو السياسية أو الوطنية تناوله بلهفة كأنما هو أرسل إليه من أعالي السماء.

وأما حضرات النواب فلا يكتبون، ولا يخطبون لا بل أنا مخطئة مخطئة جداً إنَّ عبد العزيز بك فهمي كتب مخاطباً الحكومة بشأن القطن الذي تتوقف عليه في مصر ثروة الأفراد والمجموع، غير أنه، بعد مقالين، استدعى طبيبه واستقال من مخاطبة الحكومة ومن مناقشات الجمعية دفعة واحدة، واستراح من جميع أعماله وتتبع آثاره أحد زملائه باستدعاء الطبيب والاستقالة، أما زعيمهم سعد باشا زغلول فإنه ساكت سكوت الرياضيين أمام مسائل الجبر التي لا تحل ولا تربط، وإذا قابله أحد محرري الجرائد وسأله أسئلة تتعلق بالشؤون العمومية، يجيب عليها بابتسامة سرية كابتسامة موناليزا جوكوندا، قد تعنى كثيراً وربما ما أرادت أنْ تعنى شيئاً، وأما لطفي بك السيد الذي اعتاد الجمهور تتبع أفكاره والتطلع إلى آرائه في الظروف الصعبة والمواضيع الهامة إذ يرى فيه حكيماً على المقاصد، عالي الهمة، فإنه ما اشتهرت الحرب إلا انسحب خفية (على المودة الانجليزية) بلا سلام ولا كلام، وأما الدكتور شميل شيخ الدكاترة طبياً وعلمياً وفلسفياً فقد سبق، كعادته، وكتب في أول الحرب عن امبراطور الألمان مقالة جميلة يحق أنْ يلبسها كبير عائلة هوهنزلرن بدلةً بعد سقوطه، ودار بها على الجرائد فخافت هذه أنْ تنشرها، ثم مضت أيام فصارت تلك الجرائد تضرب على النغمة التي لم تحل لها في باديء الأمر، والدكتور شميل لا يكتب على ما أظن، لأنه يريد أن يستطعم بلذة الثأر وهو ساكت، ماذا جرى؟

أين كتابنا وساستنا؟ وأنتم أيها الشعراء، أي القصائد تنظمون؟

أين المذنَّب؟

هل ضاع المذنَّب بين جيوش الآفاق، أم انقضت أيام مروره في دوائرنا، أم، بعث إليه جلالة الامبراطور غليوم بإنذار يهدده بهجوم طياراتزبلن على أطراف ذيله، إن لم يغادر الأفق في أربع وعشرين ساعة؟،.

راقبته بالأمس نحو ساعتين وبحثت عنه بين الصور السماوية اللامعة في الشمال فلم أقف له على أثر، أين هو؟ ثم حاولت أنْ أستعيض عنه بمرأى الكواكب العظيمة الساطعة في سهول الأثير التي تفوق سهول وادي النيل جمالاً وجلالاً، ناجيت الكواكب طويلاً وقد طربت نفسي لعاطفة المجهول الهائلة التي تقبض على القوى الإنسانية أمام وجه السماء.

على أني حزنت لأني لم أر المذنَّب، إني أحب مشهد السماء فوق كل مشهد، ومناجاة النجوم تكسبني غبطة وسلاماً متناهيين، غير أني أحب المذنّبات بوجه خاص، أحبها لأنها عوالم لم تتكون بعد، أحبها لأنها تائهة في أبراج مخيفة ليست لها، بين ملايين من النجوم والكواكب الغريبة، أحبها لأنها إذا لمحت عن بعد إخواتها المذنبات تائهات في ظلمات الآفاق، فليس لها إمكانية الجمود والانتظار، وتبادل الأخبار عن أسرار الأبدية، عوالم ضالة مهتدية إلى الأبد لا تعرف راحة ولا قراراً، تدفعها قوة الجاذبية إلى حيث لا تعلم فتتناولها الهيئات الشمسية وتجذبها حرارة الشموس وتشعر أنَّ الحرارة قد دبت في موادها الغازية، تنقلب عائدة إلى الأبراج غير المحدودة، وتسعى هائمة في وحشة اللانهاية، بين حفيف الأفلاك ودوي الأبدية.

أحبها خصوصاً لأنها كانت دائماً مكروهة مظلومة، فكم اتهمها البشر زوراً أن ظهورها علامة الشقاء وأنها تجلب على العالم ويلات الحروب والأمراض والجوع ظلمتها القرون الأولى وظلمتها القرون الوسطى وما زلنا لها ظالمين، فقد اتهم الرومان مذنّب 34 قبل الميلاد بالفتك بقيصر العظيم وكان قيصر العظيم قد قتل قبل أن يفتك المذنَّب به بثلاثة شهور فقال آخرون: لا بل هذه نفس قيصر ظهرت لنا بشكل المذنَّب لتنبئنا أنها مالكة في السماء بعد أن ملكت على الأرض، وكم أقلق مذنَّب هالي الجالسين على العروش والذين يدبون تحتها فقد ظهر في سنة 837 أيام ملك لويس الحليم ملك فرنسا فملأ القلوب فزعاً ورعباً، فشيد الملك الكنائس وصام وصلّى مع أهل بلاطه وامتد أهل بلاطه وامتد تقواه المؤقت إلى جميع شعبه، وعلى ذلك فقد توفي بعد سنوات ثلاث وقالوا إنَّ ظهور المذنَّب عام 1500 أثار الزوبعة التي هلك فيها برتوليموس دياز العالم البرتغالي الشهير مكتشف رأس الرجاء الصالح.

ولا يخلو عصرنا من القائلين بنحس المذنبات من مؤيدي الخرافات، كأن للعالم يومين يوم نعيم ويوم شقاء وكأن الحرب والموت والفقر والألم على اختلاف صنوفه ليس الغذاء اليومي لجميع البشر كان كبلر الرياضي الفلكي يقول: إنَّ عدد المذنّبات في الفلك يعادل عدد الأسماك في الماء، فَسَل البشر عن أحوالهم يجيبوك محرفين قول كبلر: إنَّ أنواع الشقاء في الحياة تفوق رمال البحار عدداً اجل أيها المتألمون، ولكن عدد الأفراح كذلك، لا يحصى، وهنيئاً لمن عرف الطريق الخفية المؤدية إليها طريق صغيرة لا تطلب خيولاً مطهمة ولا فخفخة الجاه والثروة، ولكن يجب على السالك فيها أنْ يريد الحياة والسعادة.

ولو أراد أشقياء الحياة لسعدوا، لو تعودوا رفع أنظارهم وأنفسهم إلى الفلك الساطع وقطعوا بالخيال المسافات الشاسعة ليناجوا الجمال والعظمة اللامعة في أنوار الكواكب لوجدوا تعزية وسلوانا وارتفعوا فوق كثير من حركات البشر التافهات، فوق الأصوات الضئيلة والأطماع الصبيانية، فوق كل دنىء وشائن حتى إذا ما عادوا من نجواهم إلى الحياة العملية شعروا بنفوس جديدة طاهرة حرة فرحة لا تعرف من الأحزان إلاَّ الأحزان الكبيرة التي تهذب وتقوي وتكون الشخصيات الكبيرة والملكات العالية.

جاء نيوتن وغاليلوس وكبلر ولابلاس فحرروا الفكر البشري من أوهامه وقيوده وخرافاته، دانت لهم حقائق الأفلاك وسبحت نفوسهم بين السيارات السابحات فتحطمت قيود الجهل التي طالما أنَّت تحتها الإنسانية، والآن لما تمر المذنّبات التائهات في أفقنا ويحصي الفلكيون أبعادها والسنين التي تعود فيها، لما نرى من المذنّبات أو نحاول أنْ نراها واثقين بأنها طيبة مظلومة فلا شك أنَّ أنوارها البعيدة تنحني على قبور منصفيها لاثمةً ترابهم الغالي، آه لو كان الموتى يشعرون لشعر محررو الفكر البشري بتلك القبلة وبشكر العصور التي أناروها وعظموها

كارمن سيلفا: سيدتي (أنا)

سلاماً واحتراماً، في يومياتك تقولين إنك تتحاشين كل ما هو ألماني من مؤلفات وآداب وفنون ورأيتك في الغد مستشهدة بكارمن سيلفا ملكة رومانيا، أليست كارمن سيلفا ألمانية؟ فكيف تستشهدين بأقوال ألمانية في حين أنك تقاطعين الفكر الألماني ومظاهره؟ سائل

أشكرك يا حضرة السائل، لأنك نسيت أيَّ يوم ذكرت كارمن سيلفا، تقول إني ذكرتها في الغد مع أني ذكرتها في نفس العدد الذي قرأت فيه أني أتحاشى كل ما هو ألماني، نسيت ذلك عمداً لتعطيني فرصة الانتقاد على انتقادك ولكي لا أغضب كثيراً من نفسي التي أوحت إليّ فكرين يربطهما تناقض مبين، وأشكرك لاهتمامك بما أكتب.

ولكن ليس هناك تناقض، نعم إنَّ كارمن سيلفا ألمانية المولد، بيد أني لا أهتم بمولدها ولا بأصلها ولا بنسبها لأنها من الشخصيات النادرة في العالم التي ترتفع بقيمتها المعنوية فوق كل علاقة زمنية، الوطن بحدوده ضيق على هذه الشخصيات فوطنها الحقيقي هو العالم والإنسانية هي الشعب الذي تنتمي إليه.

ثم إن كارمن سيلفا كانت من ضحايا الخشونة الألمانية الأولى، فلو صرفنا النظر عن 26 عاماً من سنيها الأول قضتها في قصر ويد المملوء بأحزان القلب وأثواب الحداد، تحت سماء دائم الغيوم دائم الظلام، حيث كادت نفسها الكبيرة تجمد تحت ثلوج الوحدة الروحية لو لم تكن شمس الذكاء والأمل تحييها -لو صرفنا النظر عن شقاء شبابها، فكيف ننسى جودها وتوقدها وهمومها بعد أنْ توجت ملكة لرومانيا؟ لم يكن لها بنون أحياء لتصرف عليهم ذكاءها وحنانها، ومع ذلك لم تيأس من الحياة، بل أوقفت قواها على مساعدة أبناء شعبها وكل من يقصدها من الغرباء والمجهولين، ولما شعرت أن ولي عهد رومانيا الأسبق يميل إلى إحدى وصيفاتها، ورأت في تلك الوصيفة الفتاة ذكاء وجمالاً يؤهلانها للجلوس على العرش، بذلت كل ما بوسعها لتوفّق بين الصديقين، وحاولت أنْ تبيد الصعوبات الكبيرة الحائلة دون ائتلاف الروحين، ولكنها لم تنجح لأن أمثالها في الفكر والعقل قليلون ولم تستفد من ذلك إلاَّ عداوة الفتاة وعداوة الشعب وغضب ذويها.

كانت هذه فاتحة الأوجاع، وتلتها أوجاع كثيرة ورماها الناس بالتهم الفظيعة ثم بقصر العقل والجنون، وذلك لأنَّ نفسها الكبيرة بريئة صادقة تحوم فوق كثير من الإصلاحات البلهاء والأكذوبات الاتفاقية الخبيثة، ولما كانت الجمعية تكشر عن أنيابها محاولة نهش تلك النفس النقية، كانت كارمن سيلفا تقصد صديقتها الجميلة وتجلس الساعات الطوال بقرب ضريح ابنتها الوحيدة المائتة وتتكىء على مرمره باكية كمن يلتجىء إلى صدر حنون.

طالما كرهتها ألمانيا لأنها تكتب منتقدة سياستها الداخلية والخارجية، حتى توصلت إلى إرشاد الخدم والوصيفات للحصول على كتابات الملكة غير المطبوعة، وكذا أحرقت تلك الكتابات الجميلة فكانت طعاماً للنار بدلاً من أنْ تكون غذاء للعقول وتوصلوا أخيراً إلى استحضارها إلى ألمانيا وسجنها في إحدى القصور الحزينة المتروكة، على ضفاف نهر الرين.

هذه هي الأميرة الألمانية التي ظلمها قومها، ابنة الغرب وملكة في الشرق، أمٌّ لفتاةٍ مائتة وأمٌّ لكل من أحسنت إليهم فأساءوا إليها، هي الملكة التي سجنت ثم أطلق سراحها، وهي تبكي اليوم تحت نقاب الأرامل بعد أنْ قضت عمرها باكية دموع الثكلى هذه هي المرأة الساذجة العظيمة التي لم تسعد بالقبض على الصولجان والتمتع بلبس التيجان فوجدت سعادتها بهذا القلم ووضعت فوق رأسها تاج الفكر الخالد، اسمها الذي تحسدها عليه ملايين من النساء هجرته غير مكترثة به لتأخذ لها اسماً مجرداً من الاتعاب: كارمن سيلفا، وهذا الاسم هو فخرها وتاجها وصولجانها، فإذا استشهدت بأقوال كارمن سيلفا فما أنا مستشهدة بأقوال مفكرة ألمانية، بل أنا مترنمة بذكر إحدى النساء الثلاث اللواتي أكبر اسماءهن وأضع عند أقدامهن إعجابي وإعظامي وهن: هيباثيا ومدام كوري وكارمن سيلفا لأنهن حققن وجود المثل الأعلى في النساء، المثل الأعلى الذي رسمه قاسم أمين عندما قال: كلما أردت أن أتخيل السعادة تمثلت أمامي في صورة امرأة حائزة لجمال المرأة وعقل الرجل.

العود أحمد

لا أظنني أوحشتك، أيها القارىء، ولكن يومياتي أوحشتني كثيراً إذ كانت لي حديثاً طيباً أعبر فيه عن أهم ما يجول في نفسي بسذاجة وسرور، كأني أحادث نفساً ليست بالغريبة عني، ولئن كنتُ بالجملة شديدة الاستعداد للتأثر بالحركات الخارجية، فإني مازلت محافظة على استقلالي النفسي، وكثيراً ما أشعر بانقطاعي عن حركات العالم إلى ما هو أقرب منها إلى الحياة المعنوية، ولقد قال بسكال فيلسوف الفرنسيس قولاً جميلاً في هذا المعنى، وهو: إنَّ لنفسي جوها، وفصولها المنفصلة تمام الانفصال عن جو العالم وفصول السنة، فقد تكون الأمطار متدفقةً سيولاً على الأرض وفي نفسي شموس لامعة، وقد يكون الربيع باسماً للبشر وفي نفسي حزن ودموع وخريف دائم أقول هذا تطمينا لجانب قلم المطبوعات أفندم حضر تلري كي يرأف بأسطري البعيدة عن كل ما يستحق صواعقه، ويلاه ماذا أقول؟ إني لم أتجاوز بعد السطور الأولى ومع ذلك فقد جازت عليّ العقوبة إذ لقبت القلم (قلم المطبوعات) بافندم حضر تلري، وذكرت بعد ذلك الصواعق، رحماك، يا قلم المطبوعات لا أفندم أنت ولا حضر تلري ولست أعني من الصواعق القلمية الشبيهة بالتي ألقاها الدكتور شميل على رأسي بالعربي والافرنجي، يوم نشرت يومياتي للمرة الأخيرة منذ أسابيع، وإذا ساءتك الصواعق القلمية أيضاً فها أنا أسحبها بانتظام لأبرهن لك بالقول والعمل أني في غاية الاحتياج إلى رضاك.

ساعتان لذيذتان:

قضيتهما بالأمس في الجامعة المصرية، فقد بدأ الاستاذ كليمان دروسه الجميلة عن الحركة الفكرية في فرنسا في القرن الثامن عشر، القرن الثامن عشر القرن العظيم مهيىء الثورة الفرنساوية، قرن فولتر ومونتسكيو وفونتنل وديدرو وروسو وشينيه، القرن الغني الجامع في ثروته شعراً وفلسفة وأدباً وعلماً، الفاصل بين قرون الماضي طويلة العبارة، مبهمة الفكر والقصد، وبين القرن التاسع عشر الذي لمعت فيه شموس العلوم فانطلق البشر إلي الاستنارة بها، فما كانت نتيجة ذلك؟؟؟ لا أدعي الاستطاعة على الجواب ولا أظن البشرقادرين على إبداء مثل هذا الحكم الكبير في الوقت الحاضر، التاريخ لا يستطيع أنْ يقول كلمته في زمن إلاَّ بعد مرور ذلك الزمن حتى تحل نتائج حوادثه في الأزمنة التي تتلوه، لنا القرون الماضية ندرسها ونحللها ونعللها وليس لنا من القرن الحاضر إلاَّ الحياة وكفى بها درساً وتحليلاً وتعليلاً وللقرون المقبلة ذكرى مصائبنا وشقائنا وأفراحنا وعلى كل، إذا ما صرفنا النظر عن القرن العشرين، فلا أظن أنْ مر على الإنسانية منذ عصر نبي الإسلام قرن أكثر أهمية من القرن الثامن العشر، فشكراً للجامعة المصرية التي تجذب أفكارنا إلى ما يرفعها، وتبعدها من وقت إلى وقت عن أخبار الحرب الموجعة المجففة لقوى النفس وليت هذه الغيبوبة الأدبية تدوم أكثر من ساعة ثم علمت بعد المحاضرة الفرنساوية أنَّ هناك درساً في تاريخ الشرق القديم باللغة العربية،فأسرعت إلى استماعه، وكان الموضوع بطليموس الثاني فيلاذلفيوس، فاستهل حضرة الأستاذ كلامه في وصف المهرجان العظيم الذي أقامه بطليموس تذكاراً لأبيه وإظهاراً لعظمته وجلاله، وبعد أن وصف المهرجان وصفاً دقيقاً، قال: إنَّ في هذا الوصف الذي تركه المؤرخون من الغلو شيئاً كثيراً، وتطرق إلى حياة بطليموس وإلى زواجه بأخته ارسينويه وما قاله المعلقون في ذلك ليكسبوا رضى الملك، وذكر إطراء الشعراء لحب الأخوين ومقارنتهما بالآلهة وختم هذا المعنى بقوله: لقد مدحوه (أي بطليموس) وبروا زواجه شأن الشعراء والمنافقين، وأعترف بأني ضحكت من كل قلبي عند سماع هذه الكلمات.

مساكين الشعراء، مساكين حقيقة فهم والمنافقون في صف واحد

من الدلف إلى تحت المزراب

أو كما يقول الشاعر العربي: كلما داويت جرحاً سال جرح والحقيقة هي أنَّا كلما اعتدنا الهم الجديد الذي انضم إلى همومنا القديمة تراءى لنا خيالُ همٍّ غيره لم يكن في الحسبان، ومن هذا النوع الهم غير المنتظر الذي حل بي منذ أسبوع وهو هَمُّ الطرابيش

قالت الجرائد: إنَّ زكي باشا يتطربش في مكتبه بطربوش مغربي، واقترحت المحروسة على سعادته أنْ يحذف من الطربوش المغربي زره الضخم الثقيل، هذا اقتراح صحي فني اقتصادي في آن واحد، ولكني لا أظن أحداً ينظر إلى طربوش مغربي ترمل من زره إلاَّ يأخذه الضحك، حتى وإنْ كان ذلك الطربوش طربوش عالم وطربوش باشا، حتى وإنْ كان ذلك العالم وذلك الباشا زكي باشا.

فما رأي سعادة الباشا في هذا الأمر؟ وهل يجاوبنا الجواب الذي يطمن الخواطر وينفي الهموم؟

النساء والنياشين:

أهدى رئيس جمهورية فرنسا مؤخراً نيشان ليجيون دونور إلى الأخت جوليا شُكراً لها على خدماتها الطبية الكثيرة، وليست هذه الراهبة الأولى التي حازت لهذا الوسام العظيم، إنَّ نابليون الأول موجد هذا الوسام لم يفكر قط في إعطائه لامراة، غير أن لويس نابليون الثالث أهداه في عام 1851 إلى مدام برولون الممرضة في دار (الانفاليد) التي لم تكن حياتها إلاَّ سلسلة خدمات وأعمال تشفّ عن همة عالية وشهامة تضاهي شهامة أبطال الرجال ومن ذلك الحين أخذ عدد الحائزات لهذا الوسام بالازدياد عاماً فعاماً، واللواتي أهدى لهنّ في السنوات الأخيرات هن مدام ديولافوا العالمة التي تساعد زوجها الشهير في بحثه وتنقيبه وعمله، ومدام دانيال لوسيور الكاتبة الشهيرة التي تعد من أحسن كتّاب فرنسا في هذا العصر، ومنذ شهور أعطي لسارة برنار التي لا يجهلها أحد.

وفي عام 1852 أهدي اللجيون دونور إلى الأخت روزالي التي اشتهرت بما اشتهرت به الأخت جوليا في هذه الأيام، أي بأعمالها الخيرية وتفانيها في إسعاف المحتاجين من فقراء وجرحى ومرضى، ومن مميزات الأخت روزالي أنَّ فكتور هوجو وصفها في كتاب البؤساء تحت اسم الأخت سامبليسيا وفي العام نفسه (1852) أهدي الوسام إلى راهبات ثلاث غير الأخت روزالي، اسم إحداهن الأخت تريزا ولهذه نكتة جميلة.

يقال إنَّ لويس نابليون كان قد سمع في أعمال هذه الراهبة مدحاً كثيراً فأراد أنْ يحمل إليها الوسام بنفسه إلى (كوبياني) ويعلقه بيده على صدرها، وكانت تناهز الثمانين من حياة صرفتها في معالجة الجرحى وتعزية الحزانى، فلما جاء نابليون وأنبأها بسبب مجيئه من باريز، أجابته بغضب وتعجب:

أنا لا أطلب جزاء ولا إشارة رسمية تميزني عن سواي، إنني لم أقضِ إلاَّ الواجب، وبعد أنْ هدأ روعها، تنفست الصعداء وأدارت نظرها في ما حولها، وأشارت بغتة إلى أحد مرضاها وهو شاب جريح، فقالت:

إنَّ هذا الوسام أليق بصدر الجنود، فاعطه لهذا الفتى الذي خدم ست سنوات وشهد اثنتي عشر معركة فقد في إحداها رجله وكسب في كل منها جروحاً موجعة رغماً عن شبابه الغض، اعطه الوسام فهو أهل له

فأخذت الأمبراطورَ الحيرةُ، ونظر إلى الشاب المذكور قائلاً بخجل وتلعثم: إني لا أستطيع تقرير هذا الأمر بنفسي يلزمني إرادة وزارة الحربية، فغضبت المرأة الصالحة وسألت: أين هو وزير حربيتك، يامولاي؟

فأشار الامبراطور بيده إلي الوزير، فأسرعت إليه الراهبة وانتصبت أمامه قائلة بشجاعة: إذاً أنت هو وزير الحربية؟ فاسمع يا وزيري العزيز، أنا أرى أنَّ الوسام يليق بصدر هذا الفتى، والامبراطور لا يعارضني في ذلك، فضحك الحضور لهذه الشجاعة والسذاجة وتوسل إليها الامبراطور أنْ تتنازل وتقبل الوسام، فأجابت:

أقبله ولكن بعد هذا الفتى، فليعلَّق على صدره أولاً ثم أعلقه على صدري، ولم تمض ساعتان حتى جىء بوسام آخر، فعلقته الراهبة على صدر جريحها الذي كان يبكي تأثراً وفرحاً، ونسي جراحه لما ضمدتها علامة البسالة والشرف.

بين العدم والعمران

لعل القارىء يظنني عازمة، بعد هذا العنوان، أنْ أسرد له باختصار تاريخ العالم؟ كلا ثم كلا، أنا في قاعة الدروس الفرنساوية في الجامعة المصرية، وتبرهن لي المقاعد الخالية والمنبر النظيف من كافة الأشباح، أنْ ليس في القاعة أحد غيري وأنَّ الدرس لم يبتدىء، نعم، أراني مرغمة على الاعتقاد بذلك، مع أنَّ ساعتي أشارت بعرقبيها الصغير والكبير أنَّ الساعة 5 بالضبط، وعلى كل حال، فإنَّ الساعة المذكورة آتية لا محالة فلأنتظرنها بلا ضجر ولا ملل، وليس بوسعي إلاَّ أنْ أحسب القاعة في خلوها عدماً سيصبح عما قليل عمراناً، وبين العدم والعمران نقيم أنا وقلمي (قلم رصاص أعوج يكاد ينكسر- لا سمح الله بذلك قبل الدرس) وورقة بيضاء نظيفة تسود قليلاً كلما جرى فيها قلمي المكسور، ولسنا (أنا وقلمي وورقتي) من الضخامة في شيء كي يحسبنا العدم والعمران صلة متينة بينهما، ولكنا صلة لازمة على رغم كليهما، وإنْ كنا لا نملأ بكرامة الفراغ الدائم بين الطرفين فسنملأ بسرور عامودين في محروسة الغد، اللهم جزاك الحمد والشكر.

أهلاً هذا عنوان الحضور، جاءت سيدات ثلاث في غاية الأناقة وفي غاية الطول خصوصا، ومرآهن يذكرني بأغنية صبيانية كنا ننشدها في المدرسة، تبتدىء هكذا كنا ثلاثة سوا، مثل عامود الهوا وأعترف بأني لا أفهم كثيراً معنى عامود الهوا ولكن صه لا يجب أنْ أذكر الهواء لئلا تنطفىء الشعلة الذي يستعملها الخادم لإنارة المصابيح، إنه ينير ويبتسم، وأقسم بأعمدة الهواء الموجودة وغير الموجودة جميعاً، أنَّ هذه البسمة موجهة إليّ، ولديّ براهين حسية على ذلك، وهي أنَّ البسمة اتبعت بانحناء وتحية، فليناقشني الآن المناقشون إنَّ خدم الجامعة يعرفونني لكثرة ما رأوني مارةً أمامهم أقصد قاعات الدرس، فصار سلامهم عليّ سلام معارف تقابلوا في مجلس ذي أهمية وشأن، ويسرني ذلك منهم، لأنهم يختلفون عن خدم المنازل، وعن جميع الخدم، فإذا حققت النظر فيهم رأيت على جبهتهم علامة تود أنْ تكون مهيبة، وفي أعماق عيونهم نوراً بارقاً كنور العلم الذي يمر أمامهم من غير أنْ يدركوه أو كنور الكلمات اللاذعة للفكر والذكاء، كلمات ما زال صداها متموجاً على جدران يصرفون أوقاتهم بينها أو في ظلها، وإن ضحك الضاحكون من كلامي هذا فليذكروا المثل العامي القائل: كلب الشيخ شيخ وعلى هذا القياس أقرر بأن بربري العلم بربري عالم والعصمة لله وحده.

ما شاء الله ما شاء الله لقد كثر الجمع وأنا غارقة في الدفاع عن البرابرة، فلا أنا قادرة على إحصاء إخواتي في التلمذة للجامعة ولا البرابرة للجميل حافظون، وفوق ذلك فقد انكسر رصاص قلمي وطفحت صفحات ورقتي، والطاولة ترقص لأنَّ الجالس أمامي مسند ظهره لها، الحمد لله على كل حال، وجميع المصائب تهون إذا كان قلم المطبوعات راضياً،.

انفتح الباب، ومر منه طربوش على وجه أبيض وتحت الطربوش والوجه بمسافة يد تحمل أوراقاً، ثم مرت نسمة سرية على الحضور وخشب المنبر يقرقع بلطف وأدب كمن يقول: بونجور بنسوار، فهذا الأستاذ كليمان بلا شك، وحانت ساعة الدرس، فانتقلنا من العدم إلي العمران فأهلاً وسهلاً، والسلام عليكم.

مع الشكر

لشارع عماد الدين صفة جديدة كنا نجهلها قبل مقالة الدكتور شميل المختفي وراء الضمير هو، كنا نعرف قبل الآن أنَّ هذا الشارع، من شارع بولاق فأسفل، مركز سينماتوغراف وتلغراف وباربيه ودلمار وسنجر وبراين الخ، ومن شاع بولاق فأعلى، تلغراف أيضاً وسينماتوغراف، وتياترات وكورسال، ومساكن شاهقة البناء عصرية الهندسة والزخرفة، وفلوران، ومصورين وبارات (شيك) وقهاوي (فينو) إلى غير ذلك من محطة قطار مصر الجديدة إلى مسرح بائعي الجرائد والأزهار والحلوى والدبابيس، أما الآن فنعرف أنه مهبط الوحي وموحي الهدى، فعلى من أراد درس فن أو علم كالموسيقى والتصوير أو الطب والحقوق والهندسة أو غيرها، أنْ يستأجر بيتاً في شارع عماد الدين فيضرب طائرين بحجر واحد، أي أنه يسكن البيت وينزل عليه الوحي دفعة واحدة، خذ على ذلك مثلاً من أعظم الأمثال، إنَّ الدكتور شميل قضى عمره الكتابي متهكما على علم الحقوق الذي يسميه اللاهوت الاجتماعي وهو يعترف الآن بأنه برع بهذا العلم الفني، إنه يقول ذلك بتهكم أيضاً، ولكنه يقول ويعطي نفسه شهادة تغني عن كل شهادة.

فعام جديد، وبيت جديد، وعلم جديد، ليكن كل منها بركة عليك يا سيدي الدكتور بيد أني على رغم رغبتي الشديدة في إرضائك، لا أعدك بالإقلاع عن تهديدك بإنذار ومحضر كلما رأيتك معرضا عن جيرانك، لأن مقالتك أمس برهنت أنَّ للإنذارات حسنات أحياناً، وإذا كتبت في السرير وعلى ورق قديم فهذا لا يزيد كتابتك إلاَّ طلاوة لأنها تكون خليطاً من الحكمة والدعابة، على أني أتمنى أنْ تكتبها بعد اليوم من كرسي الراحة لا من سرير التعب

اتريد دموعاً بدلاً من الانذار؟ لئن كتبت فتاة مهددة ضاحكة، فكم من فتاة تبكي يائسة ولئن هرق الرجال دماءهم وضحّوا حياتهم في هذه الحرب الطاحنة، فإن النساء تضحّي وتهرق أكثر من ذلك، إنَّ نفوسهن تذوب لوعة ودموعاً ويأساً

البرابرة يحتجون

ما خرجت يوم السبت الماضي من قاعة الدرس في الجامعة المصرية حتى وجدت خدم الجامعة في انتظاري في البهو الخارجي، فتقدم أحدهم وفي يده المحروسة وقال مشيراً إلى عنوان يوميات فتاة وتحتها كلمة بين العدم والعمران: حضرتك كتبت ضدنا واحنا ما عملناش حاجة قلت: أكتب ضدكم، ولماذا؟

أجاب: مش عارف.

قلت: ومن أنبأكم أن هذا قدح لا مدح؟

اأجاب واحد شيخ، واحنا قلنا له لا مش كده، هو قال لا كده.

وقال آخر: ما عملناش حاجة، احنا مؤدبين يا ست.

وقال الأول: احنا نفهم يا ست.

قلت: بلا شبه شك ولكنى أردد قولي إنَّ هذا مدح، والشيخ الذي أفهمكم غير ذلك أراد مداعبةً ليس إلاَّ.

قال: احنا قلنا له كده هو قال لا.

قلت: فإذا قرأتم وفهمتم فلماذا تهتمون بما يفهم الآخرون؟ أنا كتبت مدحاً، وأنتم فهمتموه كذلك، فانتهى الأمر.

وما عدت إلى البيت إلاَّ وجدت أمامي العدد نفسه، وعلى هامش المحروسة احتجاج خطي وتاريخي، فعملاً بحرية الصحافة أنشره بحروفه:

لا ينبغي لك أيتها الكاتبة أنْ تذكري اسم البرابرة بل النوبيين لأنَّ اسم البرابرة كانوا فراعنة-ب

وهو كذلك

درس باللغة النوبية

كيف أنت؟ مسقاجناه

انشاء اللّه بخير مسقاوياه فيناه

الكولتور الجرماني أيضاً

لقد كثر نشوب الحرب في هذا العام حتى جاز القول في الحرب أنها على المودة، ولقد كانت تنهد منّا القوى كلما علمنا أنَّ دولة أشهرت الحرب على دولة أخرى، أما الآن فإننا ننظر شزراً إلى الدول الواقفة على الحياد، كأنها واقفة لنا بالمرصاد، وكأن الأذى، كلّ الأذى، يأتينا من المسالمين لا من المهاجمين وهكذا يتدهور العالم بقواه إلى الهلاك، منشداً نشيد الموت والنصر

ولكنا مازلنا نعجب كيف أقدمت ألمانيا على هذه الحرب الهائلة، وكيف لم تجتهد في أنْ توفر على البشر هذا الشقاء العميم، مع أنها على رغم جنونها العسكري، أمة راقية ناهضة، في عالم الشعر والعلم والفلسفة والموسيقى، تركت ألمانيا اسماء عظيمة وآثاراً خالدة فكيف نسيت كل ذلك لتتبع جنونها الدموي ليس إلاّ؟

نشر كاتب أمريكي في إحدى مجلات وطنه مقالا يقول فيه: إنَّ العلم لم يزد الألمان إلا وقاحة وخشونة وهمجية لأنهم قوم فاقدون للغريزة الاجتماعية فلذلك لم يهتموا في ارتقائهم إلاَّ بالاستعداد لقهر الشعوب، وما كانت أعمالهم منذ نصف جيل إلاَّ أعمال الطمّاع الخبيث الذي توحي إليه أغراضه ذكاء، ثم قال إن ليس للألمان آداب تذكر، وإذا قطعنا النظر عن شاعرها الفيلسوف هاينرتش هايني، فإنَّا لا نعرف اسماً جرمانياً اشتهر كاسم دكنز الانجليزي، قد يكون الأستاذ الأمريكي مصيباً، غير أنه لمن الغرابة أنْ لا يذكر أنَّ العامل الأكبر في شهرة دكنز هذا هو كتاب مارتن تشازلوت الذي ألفه بعد عودته من أميريكا وقد أشبع الأمريكيين نقداً وتهكماً في خلال فصوله.

نعم إنَّ الآداب الألمانية دون الآداب الفرنساوية بدرجات، وغنى اللغة الفرنساوية النثري يفوق جميع اللغات المعروفة لدينا، غير أنَّ في ألمانيا أدباء انتقاديين خصوصاً، أدباء مدّعين متعجرفين متهكمين تهكماً في منتهى الخشونة، فهم هم دائماً سواء كانوا في ساحة الطعن والقتل أو في ساحة الفكر والكتابة

فإذا ذكرنا جوثي الكبير نذكر معه جملته الشهيرة: إلى الأمام، إلى الأمام، ولو على الجثث وإذا ذكرنا نيتشي ذكرنا أنه كتب ضد بني وطنه فصولاً ملؤها التهكم والمرارة، وأما هايني فإنه قضى عمره مرذولاً من إخوانه وله فيهم انتقادات تليق بفكره العميق وبخشونتهم المتزايدة، فضلاً عن أنه ترك الجنسية الألمانية وتجنس بالجنسية الفرنساوية في أيام نابليون الثالث كما أنه قضى أهم أيام حياته في فرنسا ومات ودفن هناك، وإذا ذكرنا بيتهوفن ذكرنا أنه دفن فقيراً مجهولاً مكروهاً، وظهر أخيراً أنه لم يكن ألمانياً بل كان من والديْن بلجيكيين، وإذا ذكرنا جرهارت هوبتمن -وهو أعظم كتَّاب ألمانيا العصريين الذي تفوق منذ عامين على الكاتب الفرنساوي الشهير اناتول فرنس وحصل على جائزة نوبل- فقد كان من موقِّعي الكتاب الذي بعث به علماء الألمان، منذ أكثر من شهرين، إلى علماء العالم فيه يؤيدون عمل ألمانيا وخطتها العمرانية وينكرون أنها أتت شيئاً قبيحاً كتخريب كنيسة ريمس وغيرها.

ولو أحصينا جميع الاسماء الألمانية الخالدة لقسمناها إلى قسمين: القسم المتطرف للجرمانية، أو للبانجرمانسم مثل غوثي، والقسم المتطرف ضد الجرمانسم مثل هايني، يعزينا اسم ألماني واحد وهو اسم كارل ماركس مؤسس الاشتراكية، ولكن لا يغيبن عن أذهاننا أنَّ ألمانيا أرغمت زعيم الاشتراكيين الحالي على الخدعة في ساحة القتال عقاباً لتمرده واحتجاجه على همجيتها

أفاتحة رجاء؟

بين الأخبار الكثيرة المحزنة في هذه الأيام خبر سرني جداً، وهو أنَّ عظمة السلطان عّين للجمعية الخيرية الإسلامية، في ميزانية الأوقاف الخصوصية السلطانية، مبلغاً لإنشاء مدرسة لتعليم البنات والإنفاق عليها.

ياللّه، كم تلهج الجرائد بالشكر وكم تفيض بالدعاء(،) وتفتح باب المرادفات المتتابعة التي لا تستطيع أنْ تعبر عن فكر خاص إذ أنها كلمات محفوظات منذ أعوام وليتها (،) تسأل عظمة السلطان بما يعود على الشعب بالخير، وتستلفت نظره العالي إلى كل نقص موجع في الأمة، وإلى الاحتياجات الكثيرة والجراح العميقة التي يستطيع تضميدها إن الملك(،) هو الفرد الذي يكاد يكون كلاًّ، لأنه يمثل الكل، ففي رفعة الشعب عزّه (،)، فلا عجب أنْ نراه أكبر مساعد له، مهتما بمصالحه وشؤونه ومحاولا إنهاضه من وهدة الجهل والحاجة بجميع الوسائل الممكنة مادية كانت أو أدبية.

فتفكير عظمة السلطان في انشاء مدرسة للبنات فاتحة رجاء كبير، لأنَّ مسئلة تعليمهن توجب الالتفات والاهتمام الحقيقيين، إنَّ موقف مصر الطبيعي لا يجيز لها أنْ تكون جاهلة، ورغماً عن النهضة الأدبية الحديثة في مصر، والتعليم الذي لا يتناول أكثر من مليونين بين اثنى عشر مليونا، فلا نستطيع أن نسمي مصر إلاَّ جاهلة، وركيك أنْ أردد هنا ما يعرفه الجميع وهو أن ارتقاء المرأة أساس ارتقاء الشعوب، وحيث تكون المرأة في انحطاط فلا ارتقاء في الرجال، فإذا شكرتك الجمعيات بحق، يامولاي، على إنعاماتك الطيبات، فأنا أشكرك بأكثر من ذلك، أشكرك بآمال كثيرة للمستقبل، آمال ارتقاء لجنسنا المستعبد، آمال تحرير لجنسنا الذي طال جهله وطال شقاؤه، وإذا تنازلت وصرفت شيئاً من اهتمامك الأبوي علي هذا الموضوع فإني لا أشك في النتيجة وأراها باهرة في المستقبل القريب.

ومما يسرنا أيضاً أنّْ البرنس قدرية هانم كريمة عظمة السلطان كاتبة أدبية ومحبة للفنون، فقد عربت رواية فرنساوية إلى التركية ولها ولع كبير بالبيانو، ونؤمل أنْ تكون ميولها هذه الجميلة عاملاً كبيراً في إنهاض المرأة المصرية من جهلها وتدريبها في سبيل المعرفة والنور، بل نؤمل غير ذلك: نؤمل أنْ تتألف جمعية أدبية نسائية تحت رعايتها ورئاستها ليكون مثلها العالي قريباً من الجميع، وعلمها الأدبي محسوساً ملموساً، فيكون لها في تاريخ نهضة النساء في مصر أثر كبير خالد.

رسائل العيد وتبريكاته

أهلاً برسائل العيد الجميلة ومرحباً ببركاته الحلوات نكاد نحسب الظروف المختومة أجنحةً تستريح بعد طول المسير، ونكاد نسمع بين السطور زقزقة ونتخيل حفيف الأوراق تغريداً، إنها تختلف عن رسائل العام جميعا، وسواء كانت التهانى آتية من أعماق القلب، أو من أطراف الشفاه، أو من حركات الأقلام فقط، فإن لها على كل حال، معنى حسناً يمازجه شىء من العظمة وأنس كثير عيد سعيد هذه الكلمة وإخواتها أصبحت تافهات كجميع العبارات التي كثر استعمالها بين البشر فكان معناها الجوهري مفقوداً، ولكن متى كان الناس مصدقين كل ما يقال لهم؟ ومتى كانوا معرضين عما كان لطيفا مرضيا، غير قانعين بالعواطف المندفعة بقوة؟

لا، لا، كفى الاجتماع صفاته كفانا أنْ يتظاهر محدثنا بالإخلاص وكفاه منا ذلك مقروناً ببسمة لا تعنى شيئاً من هيبة وكثيراً من لوامعه، وهذا كل ما يطلب منا.

فدع روسو يبكي حيناً، ويرمي الجمعية التى أوجعته، بسهام انتقاده حيناً، دع أمثاله يوالون أبحاثهم، وأتباعه يرددون شكواهم، أما نحن فدعنا نضحك – نضحك في أيام العيد، على الأقل دعنا نبتهج برسائلنا كما يفرح يتامى القتلى بلعباتهم.

الرسائل إن كلا ًمنها تحمل عالم أسرار ومسرات، مهما كان مسطورها تافها، فنوع الورق، وأشكال الرسوم، وأسلوب الكتابة، وتنسيق العبارة، واختيار الألفاظ، وكيفية التوقيع، حتى المسافات المتروكات بين كلمة وكلمة وسطر وسطر، تنم عن ذوق مراسلك وميوله وعن بعض صفاته وعيوبه، ألا يلذ لك درس امرىء في رسالة أو في كلمة؟ ولئن اقتصر في معظم رسائل المعايدات على عبارات منسوجات قديماً لم يقو الزمان عليها ولم يأكل البلى منها شيئاً – كأنها موميات حنطها نفر من الجن – فهي على ذلك تحمل من دلائل الشخصية أكثر ما تحمله الرسائل العادية وتلك الرسائل تأتي إليك بعد مسير ساعات أو أيام أو أسابيع، فتمثل أمام عينيك صورة كاتبها، ونغمة صوته، وأدق مميزاته، وذلك الشىء العجيب الذى لا اسم له وهو الذي يجعل لكلٍّ شخصيته الخاصة، فتذكره وتتلمس أثر ذكره في نفسك.

أرسائل العيد ما أحلاك وكم يسر المرء وأنامله تداعبك بينا تحوم حول فكره كسرب نحل، أو كنغمات أغنية قديمة يقلبك ويطيل النظر في صفحاتك ويبسم لك كطفل صغير، ثم يضعك بقرب ما سبقك من السابقات، فتنتظرين معهن رسالة أخرى تضاف إليك ونظرة جديدة تلقى عليك، وكم تسمعين مثل هذه العبارة: ما أكثر الذين فكروا بى في هذا العيد أجل، ليست المواسم إلا ظروف تذكير وليست معاني الأعياد في ذاتها إلا شدة التفكير في حادث أو شخص تعود النفس إليه في ماضيه وتحيا معه قليلاً، إذا كانت الأعياد أعياداً لكثيري الأحباب والأصدقاء فيا ترى كيف يسميها المنفردون؟ وهلا تكون إلا أعياد دموع لذوي القلوب الحزينة؟

ربي كيف يكون ذلك؟ أيام نفوس تقترب من نفوس، وغرباء تراسل غرباء، أيام كلٍ يجد له صديقاً أو شبه صديق، أيكون هناك أناس من خلائقك – من عبيدك – من ابنائك – أناس لا يشعرون بأحاديث القلوب ولا يذقوون نجوى التذكارات؟

ولعل هناك من يشعر بمثل تلك الوحدة القاتلة حتى بين الأصدقاء وإزاء عشرات الرسائل ومئات التهانىء؟ لعل الوحشة في الاجتماع أمرّ وحشة والانفراد في وسط الجمهور أوجع انفراد، ولعل للنفوس المنفردة حالات يأس تشبه يأس الجثث المطروحة ممدودة الذراعين مغمضة العينين، في ساحات الوغى،؟

ربي هذه رسائل العيد، ولكن مُر الأرضَ أنْ تضم إلى صدرها صغارها لئلا يوجعها البرد ومُر شمسَ حبّك أنْ تبعث بأشعتها إلى النفوس الحزينة فى وحدتها، فتذيب ثلوجها، إنَّ النفوس كالجثث الخالد يأسها، يوجعها البرد كثيراً.

ربي يبكون في الدنيا دموعاً ويبكون دماءً، فمن يحفظ الدموع في مآقيها ومن يحبس الدماء في أجسامها؟ من؟

^

الساعات الأخيرات من 1915

كثرت الحركة في هذه الليلة ولست أدري من أين أتت المدينة بالجماهير المالئة شوارعها، يتهافتون زرافات ووحدانا إلى حيث لا يعلم الناظرون، وتحت بهاء الأنوار الإضافية التي وضعتها المحال الكبرى فوق أبوابها أخذت الأشياء هيئة عيد لائقة بها وبالمارين جميعاً، والناس كالأمواج المتدافعة، يجيئون وينثون ثم يختفون قاصدين شوارع أخرى، يسيرون بين مجاميع سكرى بمعنى العيد وبكثرة الازدحام، والموسيقى تملأ الهواء بنغمات مختلفة الوقع في النفوس، والحانات ضائقة بنزلائها من شارب ومستزيد، والمركبات تجري نحو الفنادق الكبرى حيث يقدم عباد الخمر القرابين لإله العناقيد الناضجة ويصرفون شيئاً من القوة في سبيل رضى إلاهة الرقص، رجال ونساء يلهون ويضحكون لينسوا حياتهم العادية وما ملأها من هموم ومخاوف، وأنا، وإنْ كنت محبذة أساليب اللهو في هذه الليلة، أريد أنْ أقضي هذه الساعة وحيدة في مكتبي الصغير، ليس لدي من صنوف الخمر إلاَّ خمر الفكر، ومن أنواع الرقص إلاَّ رقص المخيلة، وكل ما يصلني من النغمات صوت الساعة الكبيرة، تدق الساعات وأرباع الساعات وأنصافها، ولا أرى من المناظر حولي إلاَّ نافذتي المفتوحة على الظلمات، أرى من هذه النافذة شجرة كبيرة متملمة تململ الحائر، وكأن أغصانها أذرع الشقاء تمتد في الليل يائسة، وتستغيث صامتة، وفي السماء عبوسة الدجى العميقة يتخللها كواكب كثر عددها واشتد لمعانها، كأنها تطل من أعاليها متفقدة أحوال البشر، وما أحوالنا، يا كواكب الدجى اهبطي إلينا قطرات ضياء شفيقة، أو امطري الأرض نثرات نار محرقة، وأخبرينا بما لديك من الأسرار، أما نحن فلا سر عندنا ولا عمل إلا تخريب ما صرفنا في تشييده أعواماً ودهوراً

توالي الساعة الكبيرة دقاتها الإحدى عشر، ما بال أنوارك قد تضاءلت، أيتها الكواكب، لدى هذا الصوت؟ أظننته دويّ طبول في ساحات القتال؟ لا، لا، ما هذا إلا صوت الزمان الرهيب داوياً في فضاء الأبدية، ساعة أخرى فينتهي عامنا وتفنى أيامه، لكن آثاره باقية، والأعوام التابعة مكملة ما زرعته الأعوام السابقة من الويلات والنعم.

الويلات والنعم دموع وابتسامات هذا إرث الإنسانية العجيب وأغرب من ذلك أمل هذه الإنسانية الطفلة مهما شاخت في تخليد الابتسام ومحو البكاء، في الاستزادة من النعم حتى تصبح النعم كُلاً، وفي الإنقاص من الويلات حتى تمسي الويلات عدما كم جاهدت هذه الإنسانية، وما هي حتى اليوم إلا مغلوبة على أمرها، لقد زادت كمية ويلاتها ولكن كمية رجائها زادت كذلك.

صوت الزمان يمحو ربعاً من الساعة الوحيدة الحائرة بين شطي الأبدية، وهذا الصوت يهزني حتى يمسك يدي عن الكتابة ونفسي عن التفكير، أرفع بنظري إلى الأفق فأرى بين شموع الظلام المجرة -نهر الحب في خرافات اليابان- تحضن العالمين بذراع مؤلفة من ملايين النجوم، وأفكر في الزمان فأجده نهراً جارياً يحضن الحياة من أقصاها إلى أقصاها-ها الساعة تدق نصف الحادية عشر

ها أنت تخطو نحونا، أيها العام الجديد، فماذا نسألك؟ وهل أنت مصغٍ لمطالبنا أم أنت كالسنوات الماضيات تبزغ باسماً، ولا تودعنا إلا بعد استنزاف أطيب ما لدينا من الدموع وأغلى ما في قلوبنا من الآمال؟ كثر الحزانى في هذه الليلة، وكثر الفرحون، فهل تشفق، أنت المقبل، على الحزانى فلا تزيد في أحزانهم، وعلى غير الحزانى فتبعد عنهم الشقاء؟

جاءت الدقائق الأخيرة من 1915، دقائق الوداع، إلى جانبي ساعة لا أرها بل أسمعها تدق بصوت شجي، وأمامي ساعة صغيرة تنقضي عليها الأوقات فتدق بعقاربها على الرحيل صامتة، وفي الظلام البعيد، تلك الساعة الكبيرة تدوي معلمة مرعبة،.

إنَّ لهذه الدقائق الليلة عظمة القوافل الراحلة، ولمرورها تأخذ الأشياء معنى عظمة حزينة وجمال قاتم مهيب، بقي دقيقتان فقط، ويخيل إلي أنَّ العقارب تسرع بالدوران فيخفق قلبي لهذا الوداع الذي لا وجع منه، وداع جزء من الزمان العام ينتظر العام الجديد ليفرح.

هذا نصف الليل ينوح بدقاته الاثنى عشر والأجراس المسيحية تحيي العام المولود، الآن تتلامس الكؤوس العسجدية وتمتزج الخمرة بالأرواح، وتبتسم الشفاه للشفاه، وتتناجي العيون، وتكثر الأدعية بالبركات والهناء، دخلت السنة الجديدة في دورها المحتم وقضت من حياتها دقائق ثلاث، ما أبسط الانتقال من الوداع إلى التحية

غير أني لما رأيت العقرب لامساً الدقيقة الأخيرة من 1915 وسمعت الساعة الكبيرة تعد أصواتها الاثنى عشر، خيل إليَّ أن غصون الشجرة الكبيرة تلتوى في الظلام، وأنَّ صراخاً هائلاً يملأ الآفاق بينا شىء عظيم جداً شهق طويلا ثم جمد جموداً أبدياً.

ما هذا؟

دقّي أيتها النواقيس ألحان أفراحك ونغِّمي على موجات الظلام(، ) يا ليت قلوبنا آلية مثلك ومثلك سريعة الانفعال دقى ساعة الرجاء فما() في ساعة اليأس الذى لا رجاء بعده دقى، أيتها النواقيس، فإنَّ فرحك يمتد إلى ذرات النفوس، ها(،) مترنمة مثلك، ولا يهمنا ما سيحمله إلينا هذا العام من مسرات وأتراح، (،)، الوقتي الآن، وكفانا نشيدك في موجات الظلام.

سلام الله يا مطر عليك

كسرت البيت، وهدمت معانيه لأنصفك يا مطر الجو، فإنَّ الشاعر العربى كان لك ظالماً، وسواء كان يعنيك أنت في شعره، أم كان يقصد رسولاً اسمه مطر أم كانت مراجعة الكلمة فى الشطرين تورية للاسمين جميعاً، فأنت يا مطر الغيوم مظلوم، فما أظلم الشعراء يوم لا يكونون راحمين

وما ذنبك أنت – ودورك منفعل وإنْ كنت فاعلاً- إذا امتصتك الشمس من البحار بخاراً، وبخرتك غيوماً، فعادت الغيوم تتفجر وتدفقت سيولاً لتروي السنابل في مروجها وتقوي الأشجار في أرضها، وتذل النبات والأزهار حيناً كي يأتيها الربيع المقبل بنضرة الشباب وسحر الجمال،؟

ما ذنبك إذا ابطأ الرسول مطر في إرساليته -فلعل في طريقه ليلى تحدثه- أو لم يأت بجواب مُرْضٍ للشاعر من ليلاه؟ وما ذنبك إذا هطلت عند دنو اجتماعهما، وكان متفقاً عليه منذ أيام أو أسابيع، فتدفقت ثقيلاً كالماء وكنت بينهما حائلاً،؟

غضب الشاعر وسبَّك بأسجاعه لأنه شعر بأنه معاكس في عاطفة عزيزة، ولكنه إذا كان شاعراً حقاً فإني لا أشك في أنه استسلم بعدئذ إلى التأمل في جمال حلولك على أرضنا، وأنه فكر في الشعوب الجائعة العطشة التي تنتظر منك إرواء غليلها وحياة قوتها.

ولكن لعل الشاعر كان مصرياً؟؟ فما استطاع أنْ يرى فيك الفائدة الحيوية التي تنتظرها منك شعوب وأمم لا نيل عندها ولا إلاهة تبكي عروسها؟

فعند قدماء المصريين احتال تيفون على أخيه أوزيريس وأوقعه في صندوق من الحديد وألقاه في النيل ليهلكه ويسود مكانه كإله وملك معاً، ومنذ تلك الأيام وإيزيس، تبحث عن أخيها وزوجها، فتسير في كل عام على ضفة النهر ذهاباً وإياباً منادية أوزيريس باكية بكاء غزيراً، وتختلط عبراتها بمياه النهر فيفيض فيضانه العظيم ويتدفق على مروجه خيراً وبركات، فهو مغذي الوادي وينبوع حياته وثروته.

على النهر الفائض بدموع إلاهة حزينة

فسلام

لو تجاسرت لزدت على هذا كلمة أخرى وقلت إنه حق لبعض المصريين أن يقولوا مع الشاعر القديم وليس عليك يا مطر السلام ولكن الكلمة التي أعني تتعلق بالشوارع غير الأوروبية في العاصمة، والشوارع الأوروبية وغير الأوروبية من الأشياء التي تسوسها مصلحة التنظيم، ومصلحة التنظيم -كما لا تعلم أيها المطر- فرع من فروع الحكومة، إذا ذكرناها بغير التعظيم والإجلال كان نصيبنا منها نصيبك من شاعر ليلى.

آه من ينبّه مصلحة التنظيم من رقادها فترفق بالشوارع وسكانها وتبعد عنهم الغبار في الصحو، والأوحال في المطر وتصون صحتهم من الأمراض في جميع الأحوال.

ميّ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى