صفحات ثقافيةمرح البقاعي

بعيدا عن وخز السياسة قريبا من كَرَز القلب

null
مرح البقاعي
الذاكرة، تلك الشمس الأخرى التي يدور حولها فلك التاريخ
( أدونيس)
أين تلك الأنثى التي عبرت المحيط ذات صباح بحثا عن أكسجين الفرح؟
الأنثى المحفوفة بالسفر، المسكونة بدهشة الاقتراب،
الأنثى الجَيداء بالفطرة، حمّالة ضوضاء المسرّة،
الأنثى التي تسير حافية على البلّور المكسور فيستطيل رمشاها من لذة الألم،
الأنثى المضيئة كسمك الأعماق، النافرة كأيقونة المعابد،
الأنثى التي لا يرجّّ حليب دماغها إلا كهرباء محي الدين بن عربيّ ولا يحاكي غرائزها إلا توت بودلير البرّي،
الأنثى التي لا يعتريها ندم ولا يمسسها تعب،
الأنثى التي تهزّ سرير القصيدة بيد وتضرم نار الإنتفاضات باليد الأخرى،
الأنثى التي تفرش سرّها سجادة للعدم لتجمع شرانق الغواية،
الأنثى المشدودة كزوبعة والمقطّرة من بخار فجر البحيرات…
أين تلك الأنثى؟!
أراها تتكوّر في زوايا المكان منسحبة من لجة الهواء الثقيل الذي لا يتسع لعرض رئتيها، الهواء المحمول على غيم البلبلة،
أراها تنأى عن المحطات وحقائب السفر لتحط كطائر البرد على غصن التفرّد،
أراها تنطفئ بنشوة صوفيّ في رحلته بين طبقات الضوء والرخام،
أراها تألف انسحابها من استعارات اللغة وفوضى الرجال لتسكن إلى حياد ممتنع،
أراها تلملم ما تسنّى لها من شرارات الكلام لتشعل أزهار شرّها الأخيرة،
أراها تتراجع عن دقّ النواقيس لتعقر ناقة السياسة العرجاء بلا رجعة،
أراها تناور زبزبات القلب الذي اختلط دمه بقميص عثمان،
أراها ترش توابل الرعشة على قبور من مروا جذافا في خط العمر ولم يتركوا على صفحة المساء وردة،
أراها تترنح في دخان نار أضرمتها يوما في قصاصات الذاكرة حتى لا يغتالها حنين، أو يبتلعها ابتعاد…
أين تلك الأنثى التي غادرت مدن الحرير والجلجلة لتبتعد في منجم من فحم الأمكنة الداكن؟
عشرون عاما انطوت ولم تغادرها رفوف الحمام المتكاثر على أسطحة البيوت العتيقة وراء الحجب،
عشرون عاما ولم تنسحب من رأسها تسابيح النسوة الخائفات عليها من حوادث المرور عبر القارات،
عشرون عاما ولم تستوعب الشوارع الإسفلتية العريضة انتقالها العصبي في التواءات الحرية المستحيلة،
عشرون عاما لم تستطع ليّ صدح مأذنة التاريخ أو طرد رائحة التفاح من مسام أوراقها العاثرة،
عشرون عاما لم تتمكن من غسل لون الحبر عن أصابعها الراجفة شعرا وتعب،
عشرون عاما لم تنتشلها من تفاصيل الحزن المريميّ وبواكير الرعشة الأولى وتنور رغيف الخبز لحظة يغادر نار الرحم،
عشرون عاما ولم يغادرها بنفسج النوافذ المغلقة قسرا على الغامر من شبق الجسد وفريضة الصوم عن الحب،
عشرون عاما ولم يندمل خدش الروح أو تسكن رجفة الانعتاق…
أين تلك الأنثى الذاهبة في الدوائر باتجاه خط الأفق المشدود إلى تخوم الله؟
هنا، الآن،
حيث يغيب الكَرَزالشاميّ عن مائدة الأصدقاء الجدد، أصدقاء الوجبة السريعة،
حيث مسامير البرودة تدق صليبها على جدار من حجر العزلة النافلة،
حيث يتراجع عازفو الناي عن صياغة مادة الحب، ويصير المكان فقاعة صابون طافحة تبتلع الأشعار والأطفال وما تخثّر من دم وردة،
حيث الطريق إلى الأمام أحجية، ومشروع الابتعاد في غمامات الذاكرة انتحار،
حيث تقبع الأنثى في ديمومتها الطافية على سطح من الزئبق الساخن،
هنا، الآن،
تنهض الأنثى من غبارها لتفتّش عن أنثاها العالقة بين أسنان مقصّ العوالم، حيث سقطت مطرقة الحدود وارتفع منجل المسافة..
وبخفة العائد من غيبوبته تلج الأنثى أنثاها في جرة من حليب الفجر الذكي،
فترتفع زيتونة
زيتونة لاشرقية ولا غربية
زيتونة تكاد تشتعل ولم تمسسها نار ولا يد!
واشنطن
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى