صفحات ثقافية

بلاد الصمت هل هي حقاً كذلك؟ عندما تخشخش أشجار الحور فإن البرد آتٍ لا محالة

null
فاروق يوسف
“الغابة الشمالية التي هي بيتنا، غامضة، كئيبة، غير أنها جزء أبدي من أرواحنا” (المؤرخ الفنلندي جوهانز سالمينين)
يلذّ للشماليين في أوروبا أن يقفوا ما بين الشعور العميق بالأمان والخوف، تعبيرا عن توقع الخطر المداهم في كل لحظة. هذه الرغبة في التماس مغامرة ما يتنازعها طرفان متحفزان ومستنفران ومستعدان للمنازلة، هي ما تدفع بالكثيرين إلى أن يقيموا في الغابات بصفة دائمة، وحيدين، بعيدين، ومعزولين عن العالم الخارجي. فالغابة هي أكثر الأماكن الحميمية التي تشيع في الجسد كما في الروح شعورا مضطربا من ذلك النوع. هناك جزء غامض منهم لا يزال برّيا. في لاوعي كل شماليّ صوتٌ يدفع به خارج حدود المناطق المأهولة بالبشر. “ليس هناك أكثر سحرا من الصمت”. ولكن هل الغابة مكان صامت حقا؟
يقول كارل كرولو:
“لن تكون وحيدا في الغابة أبداً
لو أخفى حرّاس الغابة أنفسهم خلف اللحى الخضراء
فإنك ستخسر إذا لم تصدّق الحكايات”.
كائنات خارج الحدود
هناك من ينظر إليك. من يتسلى بحيرتك وترددك ونظراتك الملغزة. وشاةٌ كثيرون يحاولون اقتفاء اثرك. يفحصون الغبار الذي علق بقدميك. حكاية منك لا بد أن تكون قد تسللت من هناك إلى أعماق الأرض لتمتزج بمياه الينابيع النضرة. ما لم تبصره عيناك الذاهلتان، تنصت إليه أذنا شبحك الذي لا يغادر النافذة. مثل تمثال خشبي نخرته الرطوبة وحفر النمل في أعماقه الاف الممرات المعتمة، تقف لتنزلق عليك الأصوات التي لا يمكنك أن تفصل بعضها عن البعض الآخر. أصوات الليل والشجر والعشب والضفادع والفجر والقنادس والأسماك والجذور والريح والنجوم والأوراق والسناجب والأيائل والكواكب البعيدة والمياه وقبّعات الصيادين وبنادقهم وقرميد سقوف البيوت التي لا ترى والصخور والحلزونات والغربان، كلها تصنع من حولك كتلة حريرية ملساء وناعمة، تلجها لتضيع. ولكن هناك من يتساءل عن مصير بشر دخلوا إلى الغابة من قبل من غير أن يخرجوا. لقد أخذهم السحر إلى بلاده البعيدة، هناك حيث لم تعد لديهم رغبة في أن يُستدرجوا إلى التفاهات اليومية التي نعيشها كل لحظة. لقد وجدوا فم المطلق مفتوحا فدخلوا إلى أعماقه، حيث أصبحوا جزءاً من الأبدية. “الغابة هي تمتمات الرب بين الأشجار”، كما يقول كنوت هامسون. ولأن الغابات تمتد على مساحة  32 مليون هكتار (57 في المئة من أرض أسوج)، يمكننا تخيّل عدد البشر الذين يمكنهم أن ينصتوا كل لحظة، ومتى شاؤوا إلى تلك التمتمات المقدسة. لا أقصد هنا الذين يقيمون بشكل دائم في الغابات والذين يقدَّر عددهم بمئة الف إنسان فقط، بل وأيضا الذين يقيمون إلى جوارها وعند حدودها أو الذين يمرّون بها خفافا، مأخوذين بخفة كائناتها، وحتى الذين يحلمون بها وهم في أسرّتهم الدافئة.
العودة إلى البيت
“هل نسيت أن الغابة هي بيتك”، يتساءل بو سيتر ليند. بيت يؤوينا ليعيدنا إلى لحظة الخلق الأولى، حيث تعيش الكائنات كلها في وئام كامل وينظر بعضها إلى البعض الآخر بعيني الإله المنتشيتين، قبل أن تنتقل تلك الكائنات إلى مرحلة النظر بعيونها الملوثة برغبة البحث عن معنى. لقد أفسد العقل (هكذا نسمّيه) على الإنسان فرصة أن يعيش حياة مترفة في رعاية الإله. كل ما فعله الإنسان في ما بعد، ما هو إلا تعبير عن محاولته الفاشلة للعودة: من “العودة إلى البيت” إلى “العودة إلى الفردوس”. لا تحتاج إلسي إلى الذهاب إلى البحر، فالبحر يقع قريبا من نافذة مطبخ بيتها. ما إن تفتح تلك النافذة الخشبية العتيقة حتى يزحف البحر بزرقته وحورياته إلى المطبخ. إلسي تذهب إلى البحر كمن يخرج إلى حديقة منزله. قلت لها: “أيمكنني تخيّل حالك في الليل. لو كنت مكانكِ لما نمت مطمئنا. ألا يخيفك صوت البحر؟”. ابتسمت وردّدت بيتاً من شعر فيرنير اسبين ستروم: “لا تكن خائفا من الهمس في أعماق الغابة”. ثم أضافت: “البحر كالغابة. صمته هو الذي يخيف”. حين اشترت كوخا صغيرا في أعماق الغابة، كانت كمن حقق هدف
حياته الوحيد: “الآن صار في إمكاني أن أقول: أنا أسوجية”.
يقول الياس كانيتي: “شجرة أخيرة تساوي بوجعها أنسانا أخيرا”. في العتمة تقف الشجرة مثل حارس. “شجرة الدردار تعرف أني أقف إلى جوارها”، يقول شاعر من القرون الوسطى. ما يلهم الشعراء رؤاهم قد لا يعرفه الفلاحون الذين يبنون بيوتهم بالأشجار المحطمة. لطالما امتزجت أغصان السنديان (البلوط) في قصائد توماس ترانس ستروم بقرون الأيائل. “الكلمات أجنحة. ما يهمني هو رفيفها”، قلت لنفسي وأنا أسترق السمع إلى الهمس الذي يحيط بي. هناك جماعات في كل مكان من حولي تتبادل الأفكار والخبرات والتجارب والضحكات. لا أرى تلك الكائنات غير أن بخار طبيخ كلامها يرتطم بجسدي. كائنات تفعل كل شيء من أجل أن لا يدوم الصمت طويلا. يهبط السنجاب من الشجرة. رأسه إلى الأسفل. إنه يرى الأرض غير أنه ينظر إليَّ بحذر أيضا. حين يصل إلى الأرض يتلفت. ثم يصوّب نظرته في اتجاهي. عيناه تدوران بخفّة. يطلق صوتاً يشي بغبطته ثم يتسلق الشجرة ثانيةً. في الوقت نفسه من كل نهار، يظهر ذلك السنجاب ليمارس لعبته الماكرة. هل كان يلعب حقا أم أن لديه واجبا يقوم به، من دونه يغدو النشيد الكوني ناقصا؟ لا أحد في إمكانه أن يجيب. غير أني صرت متأكدا من أن جزءاً من مصيري قد ارتبط في لحظة ما بمصير ذلك السنجاب الغامض.
لا شجرة تشبه شجرة أخرى
“أمام العرعر اثنِ ركبتك، أما أمام البيلسان فعليك أن تخلع قبعتك”، يقول المثل الألماني. شيء من الرهبة يمتزج بشيء من القداسة يهب العصير المأخوذ من أوراق بعض الأشجار قابلية الوقاية من القوى الشريرة. فالعرعر مثلا يخيف الأرواح الماكرة بأوراقه الإبرية الحادة. شجرة الزان هي أشبه بكتاب مفتوح، لذلك تحمل في اللغة الأسوجية الأسم عينه الذي يعنيه الكتاب Bok. أما شجرة الصفصاف فهي أكثر الأشجار التي يعلق بها الذهب والفضة. يقول لارش غوستافسون متأملا صفصافة “تخرج من الأحلام، تخرج من بلد، كل أشجارها أنغام”. وحدها “جارة الماء” تؤنس المياه وهي الشجرة التي تقيم في ظلالها الساحرات في الحكايات الشعبية. ولكن الساحرات تختفي ما إن تشعر أن هناك وقع خطى في الطريق إليها. كنت أظنّها تحلّق في الفضاء قبل أن أعرف أنها تختفي في البحيرات. “ألهذا لم ير أحد ساحرة في هذه الأنحاء؟”، سألتُ. “من قال ذلك؟”، يجيبني الحطّاب بسؤال ويشير إلى الأفق: “أترى تلك الشجرة الحمراء؟”. وقبل أن يتحقق من أنني قد رأيتها يقول: “القيقب”. تلك الشجرة التي تغري عنبياتها الحمراء الأصابع في الذهاب إليها. “رماد الجبل”، هكذا يسمّونه وهو يفصل براياته الحمراء غابة عن أخرى. أما الدردار فيرى إليه الان غونارسون المؤلف الذي تخصص بعالم الاشجار باعتباره جرس الربيع والشجرة المزهرة التي تتقدم الجميع لتنسلّ بيسر بعيدا عن برد الشتاء. غونارسون يسمّي شجرة الدردار الشجرة الحالمة. في الجهة المقابلة يقف هاري مارتنسون لينشئ معرفته بالفصول وفق نبوءات شجرة الحور: “عندما تخشخش اشجار الحور، هناك من يصغي من فوق، فنعرف أننا سنرتجف بردا في الايام المقبلة”. غير أن نصيحة خالدين اينست مالم تقول شيئا مختلفا: “لنقم في عصف أشجار الحور”. فيما تقول انغلايد ارفيدسون: “وحدها أوراق الحور ترتجف طلبا للحياة”. فأيّهم نصدّق؟!
رائحة تبطل السحر
حين أسس الفايكنغ مدينة دبلن سيّجوها بغابة من شجر البندق رغبة منهم في التذكير بكبير آلهتهم تور. الشجرة المقدسة لم يذكرها جيمس جويس في رائعته “يوليسيس” التي خلّدت تلك المدينة المسحورة. ربما لأن بلوم وستيفنسون (بطلا يوليسيس) لم يخرجا من المدينة ليريا تلك المعابد التي تتخذ هيئة أشجار. في ماضي أيامي كنت أعرف أن في ورق الصفصاف شيئاً من الشفاء. أبخرته تساعد في التقليل من آثار البرد المرضية، غير أنه في التراث الأسوجي يشير الى الحزن. أتذكر الاف الأوراق التي انتزعتها من أشجار الصفصاف في بلادي لأشمّ رائحتها بعد أن أفركها بيدي. كم كنت حزينا يومها إذاً. “في هذه الزاوية من العالم، يشمّ الرب الأشجار”، يقول بينغت بيري. الرائحة تصل. بل تتسلل عبقريتها إلى الروح. يقول لي صاحبي الحطّاب: “تلك رائحة خشب الصنوبر وهو يحترق في المنازل. ولكن خشب البيسيه أفضل”. “نفك بوصلة”. يضحك صاحبي: “ظلمت البيسيه حين ارتبطت شهرتها بأعياد الميلاد. رائحتها وهي تحترق تذكّر بالفردوس”. ولأن المشي في الغابة يلذّ لي حين تكون دروبها غاصة بالثلج، فقد كانت الرائحة التي تنبعث من مداخن البيوت تلهمني دفئا مقدسا، هو أشبه بالنغم الذي ينبعث من الحكايات التي تسبق النوم. حين وقفت ذات مرة أمام شجرة زيزفون أدركت أن في إمكان هذه الشجرة أن تخفي العاشقين من عيون الحساد وأن تبطل كل سحر أُلقي في طرقهم. قيل إن السنديانة تفعل الشيء نفسه. وهو أمر صار في إمكاني أن أصدّقه. في الغابة تلهم الأشجار من يقف في حضرتها لغة تجعله في منأى من كل سوء فهم. أنزلق بطمأنينة السنجاب إلى الأرض وحين أصل أشعر بالحنين إلى الأعالي. أرفع رأسي: “هل كنت هناك حقا؟”. عام 1999 أقمت في فندق يقع وسط غابات كينيا ولم أستطع النوم طوال الليالي التي أمضيتها هناك. كان في إمكان الهمس الذي يصلني أن يُبطل سحر النوم. كان ذلك الهمس مزيجا من أصوات الأشجار والحيوانات والحشرات التي تقيم هناك. كنت يومذاك بمثابة الوحش الوحيد الذي يشكل وجوده نغما ناشزاً في النشيد الكوني. في الغابة الأسوجية وقد غادرني الشعور القديم، أشعر أني أعود إلى بيتي الغامض، مثلما يفعل الحلزون تماما ¶
ملحق النهار الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى