بدر الدين شننصفحات سورية

أزمة المعارضة وخيارات التجاوز – 1 –

null
بدر الدين شنن
فاتحة القول في ما آلت إليه المعارضة وفي أزمتها الخانقة ، أن المعارضة من حيث هي ، تعبير عن ضرورة سياسية تتوحد وتندمج فيها أبعاد وطنية وديمقراطية وعدالة اجتماعية وكرامة إنسانية ، ومن حيث هي آلية جمعية ، من المفروض أن ’تكرس لتحقيق تلك الأبعاد ، التي تتمثل ، في تحرير المجتمع بكامله ، من الميز السياسي الشمولي والاستئثار بالسلطة ومنظومة القمع ، وفي إعادة بناء البلاد على أسس قيم الوطنية الديمقراطية الاجتماعية المنفتحة على آفاق التقدم الإنساني والحضاري .. مامعناه ، أن كل المهمشين والمضطهدين سياسياً واجتماعياً وإنسانياً هم معنيون بالفعل المارض ، وعلى عواتقهم تقع مسؤولية بناء وإعادة بناء المعارضة ، وتصويب الفعل المعارض وإنهاضه وانتصاره .. وما معناه أيضاً ، أن على المعارضة حتى تكون قوية وقادرة على تحقيق أهدافها ، ينبغي أن تكون المعبر بصدق وشفافية عن هذه القيم مجتمعة ، ما يوفر لها قاعدة اجتماعية واسعة قادرة على تحقيق التغيير المنشود في البلاد ، هي أي المعارضة التي تحمل هذه الحيثيات عصية على الخصخصة ، ولاتستوي مع نزعات الاحتكار من قبل أي تنظيم أو ائتلاف أو رمز سياسي تارخي .
ولذا ، ليس من نافل القول ، أن عدم بناء المعارضة السورية ( بمختلف أطيافها ) على هذه القيم منذ انطلاقتها في مواجهة اختطاف السلطة عام 1963 حتى الآن ، ووقوعها بأفخاخ المبارزة النخبوية مع النظام في مختلف عهوده المتوالية ، التي دفعتها للبحث عن مصادر دعم خارجية مفخخة إقليمياً ودولياً أيضاً ، قد عزلها وأضعفها ، وحول المياه إلى طاحونة النظام .
وقد أثبتت التجربة التاريخية المريرة للمعارضة ، أن مثل هذه المبارزة مع قوى النظام بإمكانياته السلطوية وآلياته القمعية هي خاسرة . سيما وأن مصالح الخارج ، التي يمتلك ويتقن النظام وحده القدرة والخبرة في التعاطي معها ، تشكل ” بيضة القبان ” في جدلية داخل / خارج في عملية الصراع على السلطة . وصفحات الصراع النخبوي .. الدموي .. المؤلم .. الفاشل .. في المراحل السابقة شاهدة على ذلك .
وقد كانت أولى حلقات مسلسل الصراع النخبوي ، هي محاولة الانقلاب التي قادها العقيد ” جاسم علوان ” ، بعد أشهر قليلة على انقلاب 8 آذار 1963 ، في 18 تموز 1963 ، للإطاحة بالبعثيين الذين غدروا بالضباط الناصريين ، وإعادة سوريا إلى دولة الوحدة مع مصر ( الجمهورية العربية المتحدة ) . لكنه فشل واعتقل ، ومن ثم تم ترحيله بصفقة مع عبد الناصر إلى مصر ، ليعود بعد 41 عاماً وهو في الثمانين من عمره .. مقيداً بالاستقالة من السياسة حتى الممات .
ثم تلت ذلك حلقات أخرى ..
في نيسان 1964 قاد الشيخ مروان حديد من جماعة الأخوان المسلمين اعتصاماً احتجاجياً في مسجد السلطان بحماة ، ما لبث أن تحول إلى عصيان مسلح . وتمكن الشيخ ورجاله من السيطرة على وسط المدينة ، ما أدى إلى شلل السفر لأيام عدة مابين جنوب وشمال سوريا عبر حماة . وانتهى ذلك الاعتصام باعتقال الشيخ مروان وقتل واعتقال العديد من أتباعه .
وفي صيف 1964 برزت في مدينة حلب حركة ” ناصرية ” مسلحة . سميت بحركة ” النسيمي ” نسبة لاسم عائلة المسؤول الأساسي فيها . وقد قامت هذه الحركة على مدى شهر تقريباً بسلسلة من عمليات السطو على مخافر للشرطة في المدينة . وقد أنهى اللواء الخامس المدرع تلك الحركة باعتقال وإعدام العشرات من المشاركين فيها .
وفي نيسان 1967 برز الشيخ ، ” عبد الرحمن حبنكة الميداني ” الذي قاد من أحد مساجد حي الميدان بدمشق حركة احتجاج إضرابية تكفيرية ضد النظام . لكن هذه الحركة قد تمت تصفيتها بسرعة . وتلاشت من الذاكرة بسرعة أيضاً .
مابعد انقلاب 23 شباط ( اليساري ) وإسقاط عهد القيادة ” اليمينية ” القومية لحزب البعث الحاكم ، تكرس انقسام عدائي بين نظام البعث في العراق ونظام البعث في سوريا . وقد أدى ذلك إلى نشوء حقبة من التآمر ضد بعضهما البعض ، وإلى سلسلة من الاغتيالات في أوساط المسؤولين في البلدين ، وتبني كل منهما خصوم ومعارضي الطرف الآخر . ونشأت في العراق ( جبهة الخلاص الوطني للإنقاذ ) لإسقاط البعث السوري ، التي ضمت القوى والشخصيات السورية اللاجئة إلى العراق هرباً من بطش النظام في سوريا . وكان من أبرز تلك القوى جماعة الأخوان المسلمين وحزب البعث السوري ( القيادة القومية ) والاشتراكيين العرب .
وقد وقع في النصف الثاني من عقد السبعينات في القرن الماضي عدد من التفجيرات والاغتيالات اللافتة في دمشق وغيرها من المدن السورية . كان أكثرها خطورة هي مجزرة مدرسة المدفعية بحلب ، ذات الأبعاد الطائفية البشعة ، في حزيران 1979 ، بقيادة النقيب إبراهيم اليوسف وحسني عابو من الطليعة المقاتلة الإسلامية ، التي أودت بحياة نحو مائة من الطلاب الضباط الأبرياء ، وافتتحت حالة حرب ( عنف وعنف مضاد ) طائفية بين الإخوان المسلمين والقوى الإسلامية وبين النظام ، مازالت منعكساتها التدميرية على الحياة السياسية والمجتمعية مستمرة حتى الآن . وكانت أكثر تجلياتها بشاعة ووحشية وكارثية هي ، مجزرة تدمر الوحشية التي تمت بأمر من عم الرئيس ” العقيد رفعت الأسد ” ، وتدمير أحياء بكاملها في مدينة حماة ، التي كانت ساحة لأكبر المواجهات عام 1982 في تلك الحرب ، والتي راح ضحيتها عشرا ت آلاف الضحايا والمفقودين ومكابدة المزيد من الآلاف من مختلف ألوان الطيف السياسي المعارض السجن والاعتقال لسنوات طويلة .
بعد وفاة الرئيس السابق ” حافظ الأسد ” التي حدثت في غمرة سلسلة من التغيرات الدولية والإقليمية الهامة ، وتسلم الرئيس الحالي ” بشار الأسد ” في ظروف تواتر ا ستحقاقات داخلية وخارجية ، تزحزت وطأة القمع قليلاً ، وتم الإفراج عن عدد كبير من المعتقلين ، وخاصة من القوى غير الإسلامية .. وأطلت على المشهد السياسي ملامح عهد جديد نسبياً ، تحت عنوان ملتبس ” الإصلاح ولقاء الآخر ” .
ومثلما كان السجن امتحاناً قاسياً للمعتقلين ومعيار قناعاتهم السياسية ، كانت المسافة التي أتاحتها مواربة باب الانفتاح ، تحت ضغط ا ستحقاقات لامناص أمام النظام من التعاطي معها ، كانت امتحاناً للقوى والشخصيات السياسية المعارضة ومعيار قناعاتها ومصداقيتها بما وعدت به الشعب .. وقمعت وسجنت من أجله .. ومعيار أهلية الشكل المعارض القائم للتعاطي مع الأوضاع المستجدة .
هنا .. لم يبرز العقل النخبوي المعارض في احتكار السياسة وفي قيادة الصراع وحسب ، وإنما برزت ، وإن تلطت وراء شعار الديمقراطية ، برزت التجاذبات ” المفهومة ” لخلفيات مختلف القوى ، السياسية والعقيدية والمصالحية ، المكونة للحراك المعارض . لذا .. لم ’تقدم قيادات المعارضة على بذل جهود مبرمجة لإنهاض القوى الاجتماعية ( الجماهيرية ) . ولم تبادر بتحركات اجتماعية معيشية ووطنية جاذبة للطبقات الشعبية ، يمكن ا ستخدامها في كسر حواجز القمع والمنع وتعطيل آليات النظام في التأثير على تحديد سقوفها السياسية والعملية ، ولم تتمكن من إيجاد صيغة تعددية متجانسة للحراك المعارض وفق معايير القيم الموضوعية المطابقة ، ولم تتمكن أن تتجاوز أطر العمل النخبوي ( مع الاحترام لكل التضحيات ) ، الذي تجلى في العرائض والإعلام وببعض الاعتصامات .
بإيجاز .. يمكن القول ، أن الفعل النخبوي العاجز عن إنهاض معارضة شعبية واسعة أو غير مؤمن بدور الطبقات الشعبية ، قمع النظام وتضييقه باشكال متعددة لتحجيم الفعل المعارض ، الذاتية المفرطة والانشداد إلى الخلفيات العقيدية والسياسية والمصالحية ، أو الهوى باستبدالها حسب موضة العصر الذي شكل مناخ الجري وراء الخارج والافتتان بمتغيراته وآفاقه وفعالياته ، وتغييب الدور الداخلي الوطني والاجتماعي .. كل ذلك هو من خلق أزمة المعارضة وأوصلها إلى ما آلت إليه . وكل تصد لعلاج هذه الأزمة دون أخذ كل ذلك جدياً بعين الاعتبار هو كما الحرث في الماء .
وعلى ذلك فإنه ، إذا كان من حق هذا الفصيل أو ذاك من قوى المعارضة ، أن يغير مرجعياته الفكرية وألوان ردائه السياسي ، أو يحتفظ بما جاء به من قناعات إلى ضفة المعارضة ، فإنه لايمكن تجاهل انعكاس هذا التغيير خاصة وكافة القناعات على سياسة وقرارات المعارضة ، التي منوط بها قيادة ومصير الحراك المعارض الآن وقيادة ومصير عملية التغيير والبناء مستقبلاً . فمن يملك القرار المعارض الآن قد يملك القرار السياسي والاقتصادي غداً . ولذا ليس من الرجاحة القول ، فلنتجاوز الجسر أولاً ، وبعدها لكل سبيل . لأن السؤال الهام الذي يدور حول الضفة المرجو الانتقال إليها ، إنما يدور بالتوازي مع السؤال حول الانتقال من ضفة العهد الراهن .
ليكن جدلاً ، أن كل من يرمي النظام بحجر فهو معارض .. فهل يمكن لأصحاب السوابق في القتل والقمع والنهب أن يكونوا جزءاً من المعارضة ، وبالتالي قد يعودون ذات يوم على أكتاف مكونات المعارضة الأخرى ، للتحكم برقاب العباد والبلاد ؟ وهل تتحمل المعارضة وزر من يذهب إلى العدو في الخارج ، أميركا وإ سرائيل تحديداً ، لينسق مع مجالس أمنه القومي ومخابراته ضد وطنه بذريعة التعاون لإجراء التغيير ” الديمقراطي ” في البلاد ؟
صناديق الاقتراع لاتأتي دائماً بالحلول الديمقراطية الصحيحة . لقد جاء النازي بألمانيا والفاشي بإيطاليا .. وجاء مجرم الحرب بوش وتابعه بلير وأولمرت وأنور السادات وموغابي عن طريق صناديق الاقتراع . كما جاء تشافيز ولولا وموراليس وأورتيغا وبشليت وكوريا عن طريق صنايق الاقتراع أيضاً . فهذه الصاديق آلية لاتعطى نتائجها الإيجابية إلاّ بوجود عامل ذاتي ديمقراطي قوي يعبر بشفافية عن القوى الاجتماعية ، الذي يتيح حقاً لكل قوى المجتمع أن تعبر عن إرادتها بحرية . ما يعني أن مكان الحصان هو أمام العربة وليس وراءها .
دلالات المشهد المشهد السياسي السوري الآن تشير ، إلى أن لاأحد بمقدوره القول ، أن المعارضة في أحسن أحوالها .. ولاأحد بمقدوره القول أن المعارضة قد هزمت . لأن حال المعارضة الحسنة ، تعني أن النظام قد ا ستجاب .. أو أذعن .. بشكل مرض لعدد من مطالبها ، وخاصة ، المتعلقة بالحرية والديمقراطية وإعادة تشكيل السلطة والدولة على أ سس المساواة في الحقوق السياسية وتداول السلطة . وهزيمتها تعني أن النظام قد تمكن من إحباط حراك المعارضة إلى ما دون الصفر ، وأن المعارضة قد ا ستسلمت لحالة الكمون والانتظار .. وتحكمت بها مفاعيل التردد والتقية .
ولأن النظام باق ومتمترس بسياساته الداخلية القمعية واللاديمقراطية على كل المستويات ، بل زاد تمترساً بها بعد المتغيرات الإقليمية والدولية في الأشهر الأخيرة ، فإن المعارضة في حال سيئة .. لكنها لم تهزم . فهي ماتزال وستبقى ، بحكم ضرورتها الموضوعية سياسياً ومجتمعياً أولاً ، وهي تستطيع ، إذا عالجت أزمتها بروح نقدية جادة أن تشق طريقها أنّى وجدت لها معبراً أو منبراً .. في لقاء الناس .. في الإعلام .. وفي المضض الشعبي المتزايد إزاء التهميش والعسف والغلاء المتوحش .
بيد أن ما لا يمكن إلاّ قوله هو ، ان المعارضة في أزمة ذاتية بنيوية حمالة أزمة مفاهيم سياسية اجتماعية بامتياز . وقد تضاعف حجمها بعد انفجار أزمة الرأ سمال المالي العالمية وفشل اقتصاد السوق الحر ، الأمر الذي وضع الكثير من طروحاتها السابقة موضع السؤال والإعادة نظر .
السؤال المفتاحي الاستباقي للتصدي لأزمة المعارضة هو ، لماذا المعارضة .. هل هي من أجل إحلال فريق المعارضة في السلطة بدلاً من فريق السلطة الراهن .. من أجل إعادة اقتسام الثروة والسيادة على نفس أ سس البنية الاقتصادية الاجتماعية القائمة ؟
والسؤال الذي يترادف مع السؤال الأول هو ، من هي المعارضة .. هل كل من يعارض النظام في الداخل والخارج ، بغض النظر عن خلفياته وأهدافه السياسية يمكن أن يكون من مكونات المعارضة .. وهل يكفي شرط تبني الديمقراطية ” اللفظي ” لاكتساب حق العضوية في المعارضة .. وبعدها ” يحلها الحلاّل ” في مسائل البناء الاقتصادي والاجتماعي ؟
هذا ما يستدعي المزيد من البحث عن الخيارات لتجاوز الأزمة ..
الحوار المتمدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى