صفحات ثقافية

لا حزن لا بكاء لا لباس أسود لا للتعزيات: هل تنفذ وصية حنا مينة؟

null
هيثم حسين
تابعت قبل بضع سنواتٍ لقاءً مُتلفزاً مع الروائيّ حنّا مينة، وكان من ضمن الأجوبة التي علقت بذهني، ما قاله عن قِصَر عمره بالمقارنة مع التجارب التي عاشها، وخاضها، وقال: إنّه يحتاج إلي أضعاف عمره عمراً كي يستطيع كتابة ما يودّ كتابته. لقد كان ذلك الكلام جميلاً ومؤثّراً، مُفائلاً ومؤمّلاً، كان كلامَ خبير يعشق الحياة، ويحكم علي نفسه بالأمل الدائم فيها، رغم أنّه ممّن عايش المرارة الدائمة، من دون أن يرتكن إلي الألم المزمن الذي لازمه، علي كلّ ما يحيط به، ونقل تلك التجارب إلي رواياته، فنوّع وأغنى، اختار نهايات أدبيّة وأخري واقعيّة، تألّم لخواتم بعض شخصيّاته التي أثّرت في الناس، حتّي كأنّها كانت واحداً منهم، حينما كانوا يبدؤون الحديث عنها، ويطيلون في أحاديثهم تلك، يتبنّون آراءها، يدافعون عن تصرّفاتها، وهي بالدرجة الأولى مرافعات ومدافعات عن آراء الكاتب وأفكاره ورؤاه..
ولأنّني قرأت حنّا مينة شجاعاً لا يرتكن لنهاية مهما كان نوعها، بل يتحدّى طالما هناك دم ينبض في عروقه، فقد صدمتُ عندما قرأت وصيّته التي نُشرت قبل موته، واختار أن ينشرها موصياً أهله وأقاربه وأصدقاءه وقرّاءه بما لن يلتزموا به، وهي وصية مؤلمة تعبّر عن الألم المتراكم والمعاش من قبل الكاتب، ولربّما هي نوع من التأسّف علي عمر ماضٍ، ما عِيش بالمستوى اللائق بصاحبه.. لا أنفي أنّ الوصية، التي هي بمثابة ورقة نعي سابقة على النعي، تتضمّن أبعاداً آلمت الكاتب في حياته، وهي بمثابة حجر مشاكس ملقى في بحيرة راكدة، استنقعت أو تجاوزت ذلك، ليتأمّل ما ستنتجه من دوائر، ليتابع ما ستخلّفه من تداعيات، ليعيد الصدارة أو ليعود إليها، ولو من باب آخر، قد يكون الأخير، أو الأوّل من جهة أخرى، عندما يكون الموت ولادة جديدة، ولادة ثانية للمبدع، ومن جهة أخرى كأنّ الوصيّة هذه بمثابة إيذان أو إشعار على أنّ حنّا مينة سيعيش حياته كالآخرين، وسيترك لشخصيّاته أن تتخضرم وتعاصر على هواها، ما شاء لها ذلك..
يقيناً إنّني أراه، عندما يكتب في وصيّته: “لا حزن، لا بكاء، لا لباس أسود، لا للتعزيات، بأي شكل، ومن أي نوع، في البيت أو خارجه، ثم، وهذا هو الأهم، وأشدد: لا حفلة تأبين، فالذي سيقال بعد موتي، سمعته في حياتي، وهذه التآبين، وكما جرت العادات، منكرة، منفّرة، مسيئة إلي، أستغيث بكم جميعاً، أن تريحوا عظامي منها”.. واثقاً وموقناً تماماً، أنّ ما يوصي به لن يتحقّق، فكيف لن يكون كلّ ذلك، وهو جدير به، ولا أعني بالجدارة أنّه يستحقّ كمّية كبيرة من الدموع أو السواد أو التآبين، بل أقصد أنّ مَن بمثل تجربته وريادته يجدر بالاحتفاء حيّاً قبل أن يُحتفى به ميتاً، أم أنّ الاحتفاء الرسميّ بالميت هو نوع من الاحتفال من قبل البعض بالخلاص منه، ومن تدخّلاته ومشاكساته وآرائه التي قد تثير أو تنبّه إلى ما يقع من جرائم بحقّ الإنسان، رغم أنّ ذلك لن يفيده بشيء.. كأنّي به قد ملّ من الكمّ الكبير من النفاق الذي رآه في حياته الغنيّة، فاختار لنفسه خاتمة أدبيّة روائيّة أكثر منها واقعيّة، كأنّه في اختبار للنوايا، أو جسّ لنبض بعض شخصيّاته، لينهي ما هو منهمّ به ممّا يريد إكماله، أو كأنّه أراد أن يكسر القاعدة ليشهد موته وهو حيّ، ليشارك مشيّعيه تشييعه، وليشارك في جنازته معهم، دامعاً ومؤبّناً، سادّاً الطريق أمام المتاجرين كي لا يتاجروا باسمه، أو يستغلّوا موته، ليعيدوا بعضاً من وهم الحياة إلى أنفسهم، أو ليترقّوا بكتاباته رقىً وأحجبة تحجبهم عن العيون التي تراهم عارية كما هم، ولا تنخدع بالسراب المفتعل الذي يصطفون خلفه..
إنّ موتَ ذي حياة مؤثّرة، هو حياة أكثر تأثيراً وأمضى نفاذ مفعولٍ، في حين أنّ حياة الهياكل والدمي المنزوعة الروح والوجدان هي نافدة المفعول، منتهية الصلاحية، ملؤها النفاق والشقاق، هذان اللذان يشكّلان السمة الأبرز والمرض الأكثر إيغالاً في النفوس الممسوسة بهما.. وكاتب مثل حنّا مينة يستحيل أن يقبل باسمه مُتداولاً في جوقة الهتّيفة، رغم أنّهم قد تداولوه فيما بينهم وتاجروا به كثيراً..
ومن هنا. هل جاءت الوصيّة لإيقاف المتاجرة..؟ هل جاءت لإثارة ضجّة الموتِ قبل الموت، كما يحلو للبعض أن يفكّر، أم أنّها جاءت لتلافي الضجّة التي ستُستَغّلّ بعد موته، ونزع الحجّة التي من الممكن أن يُتذرَّع بها لئلاّ تكون تمثيلاً يفقد الفقيد ألق تاريخه..؟! ثمّ ماذا يعني إيصاؤه بهذه الوصيّة بعد تجربته المديدة، وهو العارف بما يدور في مجتمعه خير معرفة..؟! وهل يا ترى عاش بما فيه الكفاية ليكتب تجاربه، وما لم يكتبه بعد..؟!

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى