ذاكرة الصفحاترفيق شامي

حكايات البؤس السوري- عن ظاهرة واسعة الانتشار

null

رفيق شامي

مقدمة

يحتفل الألماني بعيــد ميلاده كما لو انه فريــد عصره. قد يكون السبب الحرية التي ينعم بها. لكن الألمـــان يبالغون أحياناً في إحتفالهم ولكأن المحتفى به هو الذي أنجز تلك المعجزة التي تقوم بها المرأة يومياً منذ بدء الخليقة. رغم ذلك لم أهتـم بكل تفاصيل ولادتي إلا عندما إقتربت من الخمسين. قد يكون الحنين للطفولة العامل الأكثر تأثيراً في إهتمامي ببدء حياتي ، سهلت زوجتي المثقفة والرسامة علي منذ منتصف التسعينيات الإحتفاء معها ومع إبني بهذا اليوم.

لكن المنحوس منحوس ولو علقواعلى بابه ( أو في أمكنة أخرى…) فانوس.

ما أن بدأت بتقليد الألمان حتى أصبت بكآبة.. لاحظت ذلك منذ الإحتفال الأول ولا زالت الكآبة تغمر الأيام التي تسبق هذا العيــد بلونها الرمادي كل عام .. يقيني أن سنة أخرى مضت بسرعة بلا دمشق. 365 صباحاً إستيقظتهم ودمشق أمام عيني كالسراب ( وهو بالمناسبة أحد أسماء دمشق في بعض رواياتي الخياليــة فالسراب باللغة الألمانية Morgana Fata تعني جنيــة الضوء والصباح أو الشرق ).

لست أدري متى بدأت لكني صرت منذ سنوات أتحايل على الكآبة بعمل يتطلب تركيزاً شديداً لأفكاري. صرت أمضي هذه الأيام بحساب عسير ودقيق لما فعلته في السنة الفائتة.

في هذه السنة بالذات إنصب كل تفكيري على موضوع بؤس السوري في منفاه. قد يكون السبب انني في هذا العام لا أقفل سنة واحدة فقط بل عقداً كاملاً يتطلب نظرة أبعد إلى الوراء. قد تكون حملة الإعتقالات البربريــة في دمشق هي التي قادتني إلى الإلتفات للبؤس كظاهرة سورية وليس كأزمــة شخصية.

ومن الممكن أيضاً أن يكون السبب في البحث عن معالم هذا البؤس عدم قناعتي برد كل المصائب إلى متآمرين على القبيلة كما علمتنا تربيتنا العربيــة أو توجيه إصبع الإتهام لصدرنا والندامة وعذاب الضميــر كما علمتني التربيــة المسيحية. وحصيلة التربيتين واحدة: شل العقل والجسم عن الحركة.

هناك إضافات لهاتين المقولتين تظهر في المجتمع المهزوم كأسلوب رخيص لحماية النفس وأهم تلك الإضافات اتهام كل من يقوم بحراك بالتسبب في بؤسه وكأن الطبيب الذي يُشخِص هو سبب المرض. فأنت في المجتمع المقهور منذ قرون سبب بؤسك لأنك عنيد ولأنك تتدخل بالسياسة (التي تسمى في هذا المجتمع الذي يحكمه الخوف: ما لا يعنيك) ولأنك لاتغلق فمك في الوقت المناسب ولولا ذلك لفُتح امامك الباب والمحراب مثل فلان وعلتان.

البؤس ظاهرة معقدة جدا لا يمكن إحاطتها بالبحث عن عوامل إقتصادية أو فلسفية أو نفسية أو تربوية أو جنسية أو دينية منفردة حتى ولو كان البائس أحيانا ضحية لإحدى هذه العوامل فأسباب البؤس مزيج معقد من كل هذه العوامل.

ما أود تقديمه ليس إلا محاولة للبحث عن ملامح هذا البؤس لكن مسعاي سيظل حطام مرآة تعكس زوايا قريبة ونائية زمنا ومكاناً. إنها لمحات لبؤس عشت بعضه وعاش بعضه آخرون.. أقارب وغرباء رافقوا دربي في المنفى وهم يمتون لي بصلة ولو كان ذلك يقتصر أحيانا على حكايــة بؤسهم ولهذا فحكايات البؤس ليست سيرة ذاتية بل لمحات حقبة تبقى أغنى من سيرة شخص فرد. ومن جهة ثانية تلك المرآة المحطمة التي تعكس شظاياها هذه الحكايات هي أصدق وأقرب لواقعنا من كل حكايات مرآة مصقولة.

حكايات البؤس السوري – كيف يولد السوري مرتين

الحكاية الأولى

كيف يولد السوري مرتين

لا أعرف بالضبط متى وُلِدت والتاريخ المسجل على هويتي ليس دقيقا. السنة صحيحة بلا شك لكن تحديد يوم الميلاد صعب جداً، ولهذا قصة.

كما روت لي أمي في إحدى زياراتها لألمانيــا وُلِدت في ربيع عام 1946 وكان الوضع قلقاً جــداً للمسيحيين فالأستقلال كان يطرق على الأبواب. الفرنسيون يماطلون والمناوشات مستمرة في دمشق ورعاع ينذرون المسيحيين بذبحهم في أول أيام الإستقلال لأن المسيحيين فقط “تعاملوا” مع الفرنسيين. هلع كثير من المسيحيين رغم كذب هذا ألإدعاء. فعملاء الفرنسيين كانوا من أبناء كل الطوائف، لأن العمالة وخيانة الوطن كالغباء لا تقف أمام أية حدود ثقافية، عرقية أو طائفية. والعملاء في كل أنحاء العالم يسرعون بنشر مثل هذا الضباب لكي يتركز كره الشعب على أقليــة تصبح بسهولة كبش الفداء. وليحضروا بهدوء خياناتهم المقبلة ضاحكين في سرهم. أذكر الآن وأنا أكتب هذه الجمــلة تهمة مصطفى طلاس الطائفيــة أن كثرة من أتباع رفعت الأسـد كانوا من المسيحيين. هذه الكذبة الخطيرة لم ينطقها هذا الشاعر من الدرجة الثالثة عندما كان رفعت الأســد يدوس في دمشق على شرف وكرامات الناس بدون النظر لهويتهم. في بلد يملك قضاءً مستقلا كان بإمكاني بكل بساطة رفع دعوة ضد طلاس لتحريضه على مذبحــة طائفيــة. لكن القضاء السوري جزء من البؤس السوري. وهذا بدوره جزء من بؤسي.

كان أبي شجاعاً حتى التهور في كل أمور الحياة إلا في مواجهة الغوغاء فلقد عاش في طفولته حصاراً رهيبا لقريته المسيحية الجبلية معلولا من قبل غوغاء كان يقودهم أحد العسكريين العديمي الخلق وممن ستسميهم كتب التاريخ المدرسي فيما بعد بطلاً قومياً ،وتروي كاذبة انه كان على قاب قوسين من تحرير فلسطين وضواحيها لولا أن أصابه إسهال أو رشح لست أدري. وهل نعجب بعد لكثرة مثل هؤلاء الأبطال في حاضر مليء بالهزائم والخسارات وبأبطال من نمط الزرقاوي. المجرم الصغير الذي “تاب” ليدخل باب الإجرام الكبير وليذبح وهو الغريب أبناء وبنات العراق على الهوية.

أنا أعتقد أن التاريخ سيحاسب حماس بدون رحمة على تسمية هذا القاتل المحترف المسعور “شهيد الأمــة”. لكن هذه قصة ثانيــة. وشرود قلمي ليس لقلة تركيزي بل لكثرة المصائب التي تتدافع في رأسي وهي في صميم البؤس السوري وبالتالي بؤسي أنا. ولولا إنضباطي الحديدي لمررت على تفصيل صورة البؤس الذي يلحق سورياً في منفاه عندما يرى صورة السيد حسن نصرالله أمين عام حزب الله وهو يسلم بندقية إنتزعها رجاله بشجاعة من أيدي المحتل الإسرائيلي لرجل المخابرات رستم غزالة نكاية فينا جميعاً وبكل من نكل بهم رستم غزالة ورجاله من اللبنانييات واللبنانيين. لأن هكذا هدية لها معنى يشابه ورقة حسن سلوك. ولو كان حسن نصرالله هو الوحيد الذي لا يمل من تبرئة النظام الحاكم في دمشق لسهل الأمر لكن قائمة أصدقاء الشعب السوري الزائفين، الذين يمنحون بإستمرار ورقة براءة ذمة للنظام المافياوي رغم معرفتهم التامة بكذبهم، طويلــة ولو تناولتهم بالتفصيل لأخرجوني عن الموضوع….لذلك سأحاول البقاء قدر الإمكان قريباً من الخيط الذي يخرجني من المتاهة.

في ربيع 1946 أصاب والدي ذعر كبيرعندما هدده أحد الزعران ان فرنه الواقع في الحي المسيحي باب توما سيحترق ثانية. ففرن أبي كان قد أحُرق مرة قبل ذلك بفترة قصيرة ليس لأسباب طائفيــة بل إنتقاماً شخصيــاً منه. لم يخف والدي في ذلك النهار على نفسه بل على أمي التي أحبها إلى حدود خروجه على العائلة ورفضه للطاعة الأبوية من أجلها، وهو بذاته سينقلب فيما بعد في خضم نضاله ضد والده ليصبح أباً قاسياً عديم الرحمــة تجاه أية مقاومة لسلطته. لكن هذه سيرة أخرى معقدة وطويلة جدا.

هربتنا أمي معها (كان اخي الكبير في الثامنة والصغير في الرابعة وانا في في اسابيعي الاولى) إلى معلولا القرية الجبلية المنيعة. وإحتفلت سوريا بإستقلالها وتعانق الجيران والأخوة فرحــاً دون أن يسألوا من يعانقونه عن دينه وإنتظر والدي حتى الخريف وكان يزورنا مرة في الأسبوع ليعود بعدها إلى فرنه.

عندما عدنا في أيلول ذهب والدي لدائرة النفوس ليسجلني وخاف أن يحكي للموظف سبب التأخير فقال له: “إبني ولد من فترة قريبة وكان ضعيف كتير فقلنا نصبر شوي، إذا عاش منسجله، حاكم أحوالنا ضيقة شوي… “

“أيمتى .. من فترة يعني؟ من سنة؟ من شهر ولا ساعة؟” قاطعه الموظف بمنتهى النزق.

“كم يوم، سيدي، كم يوم بس ….” ردد والدي خائفاً.

نظر الموظف حوله بغيظ وكأنه سمع على التو أن الموظفين لن يقبضوا معاشهم الشهري ثم نظر إلى النافذة ونفخ (كان الموظف قد أكل لتوه صحنا كبيرا من الفول المدمس يقال في حينا الشعبي عمن أكله عامداً متعمداً أن جزاؤه الإسطبل) فكاد والدي يغمى عليه من رائحة الفول المطبوخ بالثوم الممزوج برائحة سوس الأسنان ونتانة معدة كالمقبــرة.

” طيب خود” قال له وسلمه الوثيقة مع ضبابة أخرى من الرائحة الكريهة. فشكره والدي بفتور وهرول خارجاً من الدائرة شاكراً ربه كسوري أصيل أنها ” مضت على خير” وفي الباص قرأ تأريخ ميلادي الإعتباطي 23 حزيران 1946.

هذا التاريخ العشوائي يختصر كل البؤس السوري .. الخوف والذل والكذب والإحتقار والفوضى واللامبالاة والتعالي.

خاص – صفحات سورية –

الحقوق محفوظة للكاتب ولصفحات سورية

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. يا عزيزي …نتوحد في البؤس ونختلف في نوعه ودرجته…لكنه يعيش فينا ويحتفل معنا …حتى يقضي علينا أو نقضي عليه…
    كم أنت رائع في نشرك لعرضه!!..
    من القلب أحييك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى