صفحات مختارة

عزلة الجامعة في المجتمع

null

فخري صالح

أين تقع الجامعة، أقصد المؤسسة الأكاديمية العربية مما يدور حولها في السياسة والمجتمع والاقتصاد؟ ما أثرها الفعلي الذي تمارسه في عملية التغيير وتقدم المجتمع؟ إلى أي مدى تؤثر الجامعة في عملية التقدم العلمي في مجتمعاتنا؟ كم من المخترعين والمواهب اللامعة يتخرج من هذه الجامعات؟ تلك أسئلة ينبغي أن تسألها إدارات الجامعات العربية،
وينبغي أن تكون الإجابات الممكنة عليها ضمن أولويات تلك الإدارات في البلدان العربية كلها. وينبغي أن يؤخذ الجدل حول هذه المسائل في الحسبان عندما تناقش استراتيجيات التعليم الأكاديمي في بلادنا.

دون هذه الرؤية الاستراتيجية تصبح الجامعات مجرد مدارس ثانوية كبيرة. ونحن نعلم علم اليقين أن دور المدرسة الثانوية يختلف اختلافا بيّنا عن الجامعة، فإذا كان التعليم الثانوي يهدف إلى تزويد الطلبة بمعرفة عامة بالعلوم والمعارف المختلفة حتى يستطيع الواحد منهم تلمس طريقه في الحياة والجامعة، فإن دور المؤسسة الأكاديمية الأساسي هو تعليم التفكير وحض الطالب على الإبداع في تخصصه.

ليس التعليم الجامعي تعليما إلزاميا، بل هو اختيار في الأساس، ذهاب باتجاه ما نحب ونرغب في أن يكون مدار حياتنا، وشغلنا الشاغل طوال العمر. لكن ما تشهده الجامعات من تكاثر أعداد الطلبة، وتدني مستوى تحصيلهم العلمي، والأدهى من ذلك تدني مستوى الإبداع والطاقات الخلاقة في هذه الجامعات، يشير إلى أن المؤسسة الأكاديمية قد ضيعت أهدافها في تعليم التفكير وتشجيع الخلق والإبداع. لهذا يغيب البحث العلمي عن مؤسساتنا الأكاديمية، ولا يطلع من بين من يتعلمون في جامعاتنا عالم أو مخترع أو باحث أو كاتب خلاق. وإذا قارنا حال الجامعات العربية بغيرها من الجامعات في أميركا والغرب، وحتى أقصى الشرق، فإن جامعاتنا سوف تخسر رهان المقارنة. والدلالة على ذلك أنه لم تذكر جامعة عربية واحدة عندما جرى إحصاء الجامعات المميزة في العالم، بينما جرى ذكر جامعتين إسرائيليتين!

في هذا السياق لا أدعي أنني آتي بأي جديد عندما أقول إن المؤسسة الجامعية في العالم العربي غائبة عما يدور في المجتمع ترفع أسوارها عاليا دون التواصل مع المجتمع ودراسة مشكلاته وتفهم احتياجاته، وأن العملية التعليمية الأكاديمية أصبحت محكومة بمعايير لا تضع في حساباتها رعاية الطاقات العلمية والثقافية وتنشئة طلبة قادرين على تغذية المؤسسات العامة والخاصة بإبداعاتهم وقدراتهم على التطوير وإنجاح هذه المؤسسات. وقد أصبحت مهمة الجامعة، في نظر العديد من إدارات الجامعات، تخريج أعداد معينة من حملة الشهادات الأكاديمية الدنيا والعليا دون التفكير جديا بقدرة المجتمع على استقبال هذه الأعداد الكبيرة من الخريجين، بغض النظر عن مستوى هؤلاء الخريجين ومدى تهيئتهم للانخراط في المجتمع وتلبية احتياجاته ومطالبه.

يضاف إلى تراجع الاهتمام بالمواهب والطاقات المتميزة انقطاع الصلة بين الجامعة والمجتمع. فعلى الرغم من ازدياد عدد الجامعات، وتكاثر أعداد الطلبة الدارسين فيها، إلا أن الصلة بالمجتمع أصبحت اكثر ضعفا. فما يجري خارج أسوار الجامعة لا يهم العاملين فيها ولا يجتذب انتباههم لأنهم منشغلون بإنهاء المقررات وازدراد المعلومات. والمدهش أن ما يحصل من تغيرات سريعة في المجتمع لا يدفع المشتغلين بعلم الاجتماع وعلم النفس والدراسات الأدبية في جامعاتنا إلى تسليط الضوء على هذه المتغيرات وفهم أسبابها والنصح بمعالجتها، وما نسمعه من هؤلاء في بعض وسائل الإعلام لا يتجاوز التكهنات والاستنتاجات التي لا تنسجم مع أساليب البحث العلمي الدقيق الذي يدرس الظواهر للخروج بنتائج قريبة من الصحة.

إن المؤسسة الجامعية جزء أساسي من مؤسسات المجتمع المدني، وهي عادة ما تكون في طليعة المؤسسات النشطة المنتجة والموجهة للحركة الاجتماعية، ولذلك لا تنحصر وظيفتها في تفريخ خريجين لا يعرفون كيف يستعملون المعرفة التي يحملونها في نفع مجتمعاتهم. وفقدان هؤلاء الخريجين الاتجاه الصحيح وضعفهم في معرفة احتياجات مجتمعاتهم يعود إلى عدم اهتمام الجامعة بالوصل بين المعارف العلمية الخالصة وحاجات المجتمعات التي تدرس فيها هذه المعارف العلمية. وعلى من يعتقد من العاملين في إدارات الجامعات أن هناك معارف وعلوما خالصة لا علاقة لها بالمجتمع، وطبيعة تطوره، أن يعيد النظر في اعتقاده، ذلك لأن الجامعات العريقة لم تتطور إلا من خلال الاحتكاك بمجتمعاتها ودراسة ما يحدث فيها من تغيرات. وأظن أن هناك خصوصيات مجتمعية في الوطن العربي تدعو الجامعات إلى إعادة النظر في فلسفتها الأكاديمية وطرائق توجهها إلى الطلبة والمجتمع، وإلا ازداد الشرخ بين الجامعة والمجتمع اتساعا وتزايدت البطالة بين خريجي الجامعات، كما تقول دوائر الإحصاء في كل الدول العربية.

كاتب من الأردن


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى