صفحات ثقافية

هناك شيء يشبه الالهام ولكنه حقيقي: كيف يمكننا أن نكون عربا؟

null
فاروق يوسف
لم يكن سقوط روما يرجع الى ضعف جيوشها، بل إلى أن الرومان قد نسوا ما الذي كان يعنيه أن يكون المرء رومانيا
سلمان رشدي
يوما ما سنكون عربا، بالمعنى الذي يجعلنا أكثر تماهيا مع شرط وجودنا الانساني. أعتقد أن وضعا شاذا صار يتشكل منذ عقود، فيه ومن خلاله صار سؤال العروبة تهمة ينبغي البحث عن طرق لردها والتملص منها والاعتذار عنها. تلك العقود كانت حاضنة لانهيارات ثقافية اصابت حداثة المجتمع في مقتل: نشوء الاصولية بحجة العودة الى الجذور حيث الحل الأمثل لحياة فقدت أسبابها قابلته نزعة (هي الأخرى أصولية من جهة تشددها) تدعو إلى التخلي نهائيا عن الثوابت، باعتبارها تجسيدا للغة بائدة. لغة ظلت تعبر عن ذاتها من خلال مفاهيم تجريدية: الكرامة والاستقلال والعزة والكرم والنبل والشهامة والمروءة وصولا إلى الشهادة. حيث العربي الجيد هو الميت، من وجهة نظر حاكميه وفقهاء دينه ومن وجهة نظر أعدائه. القوميون العرب لم ينتصروا بعد أن سبقهم الامميون العرب إلى الهزيمة بعقود. ولأن الجميع كانوا عربا وفق تصنيف دعاياتهم فقد أفرغت العروبة من مفهومها الثقافي. صارت شبحا سياسيا، يجلب اللقاء به صدفة في الشارع الشؤم والنحس. لذلك فقد تكومت المشكلات العربية، بعضها فوق البعض الآخر، وما من يد حاذقة تنم عن موهبة فنية صادقة تمتد إليها.
الآن وقد أصبحنا في وضع، يمكن أن نصفه بالأسوأ مقارنة بأوضاع الأمم، حتى البدائية منها، أيجب علينا أن نعود إلى السؤال القديم (وهو سؤال محرج نظرا لتخلفه عن أسئلة العصر الذي نعيشه)، السؤال الذي يقول: كيف يمكننا أن نكون عربا؟ وهو سؤال مصيري بالرغم من تخلفه. ذلك لأننا إن لم نكن عربا فما نحن؟
حين كنت أتجول في أروقة متحف الفن العربي في الدوحة الذي افتتح مؤخرا أشرقت بما اختزنته الأعمال المعروضة من معان عميقة لمفهوم انتسابها العربي. كان هناك احمد الشرقاوي وجواد سليم وفاتح المدرس وجاذبية سري وحامد ندا ولؤي الكيالي ورافع الناصري وابراهيم الصلحي وفريد بلكاهية وآدم حنين وشاكر حسن آل سعيد ونذير نبعة ومحمود سعيد وضياء العزاوي وصليبا الدويهي وآخرون كانوا قد اكتشفوا، كل على طريقته النسغ الحي الذي يروي شجرة كانت لا تزال حية بالسعادة.
كل لوحة من لوحاتهم كانت بالنسبة لي مزارا.
كان معنى أن تكون عربيا حاضرا في كل خط، كل مساحة لونية، كل شكل. كما لو أن الفن عبر تلك المئة سنة التي أرخ لها المتحف كان يقول شيئا لم نعد نفهمه اليوم. لم نعد نستوعب أسبابه والرؤى التي ينطوي عليها والعلامات التي يشير إليها. شيء ما لا يمكن تصديقه تنطق به القطيعة التي صرنا ضحاياها. ذلك الانجاز العربي العظيم صار منسيا بالنسبة لأجيال سيكون عليها أن تقف حائرة في المطارات فيما الشبهات تلاحق أوراقها الثبوتية.
‘أنت عربي إذن’
جملة هي سؤال يمكنها أن تخلط الماء بالزيت، فيتعكر المزاج. ولكن هل العروبة هي السبب في كل ما جرى لنا؟ في ذلك المتحف شعرت أننا كنا محظوظين. كان لنا حضور خفي في القرن العشرين. حضور خناه شعوبا وحكومات، أحزابا وجماهير، افكارا واحلاما. لقد خذلنا قدر نحس. كان القدر بخيلا فلم يهبنا رجال دولة حقيقيين. كان الجميع هواة. العسكر وأشباههم. الحزبيون وأولياء أمورهم. المحاربون وأفراد العصابات. الشعب هو الآخر لم يكن شعبا محترفا. كان يتوخى الستر والعافية فقط. يسير داعيا الله أن لا يقع عليه الجدار. وكان ذلك ما حدث فعلا بالرغم من الدعاء.
لقد أهلكنا هويتنا قبل أن نهلك. بل ان هلاك هويتنا كان سببا مباشرا لهلاكنا.
لم نجتهد يوما في اعادة تعريف هويتنا كما كان يفعل أسلافنا. بل ارتمينا على الارائك خاملين. وحين فوجئنا أن الامم كلها قد انتهت من اعادة تعريف هوياتها كنا بين خندقين: خندق يميل إلى الإسلام باعتباره هوية جامعة، وهو ما يعني بطريقة أو بأخرى ضياع الأوطان وانحسار مفهوم المواطنة وقطع الصلة بإرث الحداثة العربية، وخندق مقابل يدعو إلى النسيان التام باعتباره دواء لمرض لا شفاء منه. كانت العروبة بالنسبة لمحاربي الخندق الأخير هي الداء. وهي دعوة بدت جلية بعد احتلال العراق عام 2003. كانت العروبة هي الجريمة وليس الغزو الامريكي الذي أعاد الساعة البشرية إلى الوراء، حيث خزي البربرية وعارها.
المهزومون لا لغة لهم
كانت لغة الرسامين العرب على مر العقود المنصرمة توحي بالتفاؤل. لا لأنها كانت لغة متماسكة فحسب، بل وايضا لأنها كانت لغة إشراقية. فن مستورد وهبناه شيئا من روحنا الملهَمة. لقد تخطى الأمر التقنيات. فالحداثة في اساسها ليست تقنيات مجردة. إنها مقاربة عميقة مع الروح. ليست هناك حداثة من غير روح ذات غنى اسطوري. كان الفن العربي طوال مئة عام من التجربة فنا حديثا. لم تكن الخديعة بكل حذلقاتها قد تمكنت منه. هذا لا يعني انه كان فن الناس العاديين. العروبة باعتبارها مفهوما ثقافيا شيء ووضع الناس العاديين شيء آخر. غير أن ذلك الفن كان مخلصا لنشأته البرجوازية النظيفة. البرجوازية التي تنظر إلى التحولات برفعة وإناقة وانصاف.
‘أنت عربي إذن’
لو أطلع العرب على اعمال رساميهم المجتمعة في الدوحة لشعروا بالفخر. ولما شعر بعضهم بالغصة وهم يلوون الجواب بألسنتهم. ‘نعم ولكني لستُ منهم’ مَن هم؟ لن يسميهم أحد. أنت تعرفهم. تعرف الغائبين. تعرف المقتولين على الهوية. تعرف الهاربين. تعرف الشهداء المدافعين عن أوطانهم. تعرف العلماء والمفكرين والرسامين والمعلمين والمهندسين والاطباء والفقهاء والمتمردين والشعراء.
يوما ما سنكون عربا. عربا حقيقيين من أجل أن يحترمنا العالم.
ولكن العروبة وهي فكرة، تحتاج إلى من يتمثلها على هيأة وقائع جمالية. وهي الوقائع التي اجتهد الرسامون العرب في صياغة تجلياتها المتعددة. لم يكن أحد منهم يتوقع أن يكون مصيرنا خليجيا. كان العراقي في ما مضى يأنف من الذهاب إلى الكويت لكي يعمل. ‘زبال في العراق ولا وزير في الكويت’ كان ذلك مثلا شعبيا. الآن يزحف الشباب العربي إلى الخليج بحثا عن فرصة للعمل.
هذا التبدل الواقعي في سياقه الاقتصادي هل يفرض تغيرا في المفاهيم الثقافية؟ دائما هناك قول مختلف. فالعرب المقبولون غربيا هم جزء منا وليسوا كلنا. وإذا ما كانت دول الخليج تمتلك فائضا ماليا فذلك ليس نهاية العالم. وفي كل الأحوال فان الثقافة الخليجية لن يكون في إمكانها أن تختصر الثقافة العربية. لست هنا في صدد الحديث عن ثقافة ناقصة. فالخليجيون في وضعهم اللغوي الراهن لن يسدوا نقصا. هناك عيوب اجتماعية مذهلة ستقف حائلا بينهم وبين التعرف على هويتهم المشتركة. لكنهم مع ذلك يشكلون رصيدا متوقعا لكل عروبة قادمة.
ليسوا حداثويين. بالتأكيد. لكنهم مصابون بالسأم. سأم يخدم الرغبة في اعادة تعريف الهوية. الخليجيون هم أشد العرب حرقة إلى التعرف على أنفسهم. ‘مَن نحن؟’، وبغض النظر عن أفكار خدم المحتل الأمريكي في العراق تظل فكرة القبيلة في الخليج نوعا من التعريف المؤقت في انتظار الخلاصة. كان العراق وسورية ومصر خلاصات تعريفية مذهلة غير أنها هزمت، فصار علينا أن ننتظر ملهَمات أخرى.

‘ شاعر وناقد من العراق يقيم في السويد
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى