صفحات العالم

روسيا المُتمَددة وأمريكا المُتقلِّصة

سعد محيو
هل نشهد قريباً انقلاباً نوعياً في العلاقات الاستراتيجية بين روسيا وحلف شمال الأطلسي؟
هذا ما أوحى به الأمين العام الجديد للحلف الجنرال أندرز فوغ راسموسن. فهو دعا قبل يومين إلى “حوار غير مسبوق” معها، وقال إنه يتعيّن على الحلف أن يأخذ في الاعتبار “المصالح الأمنية المشروعة لروسيا. ثم أنه، أخيراً، اقترح عليها شراكة استراتيجية في قضايا أفغانستان والإرهاب والقرصنة.
الأهمية الفائقة لهذه المبادرة الأطلسية تنبع من كونها تسير على طرفي نقيض مع كل ما كانت “تبشر” به أمريكا حيال طبيعة العلاقات الغربية  الروسية.
فالإطلالة الأمريكية على مسألة الأمن الأوروبي، من عصر لينين وويلسون إلى عهد بوش وبوتين، كانت  تتمحور برمتها حول درء الخطر الروسي وإحتوائه. وهذا ما تحقق إلى حد كبير مع انهيار الاتحاد السوفييتي، فخرجت معظم دول أوروبا الشرقية من قبضة الإمبراطورية السوفييتية لتسقط في شبكة الامبراطورية الأمريكية – الأطلسية، ولم يبق خارجها الآن سوى حفنة من الدول على حدود روسيا (أوكرانيا وجورجيا) وبعض دول البلقان (مقدونيا، صربيا، الجبل الأسود والبوسنة).
في عهد بوش، كانت المسألة مسألة وقت قبل أن يستكمل حلف الأطلسي ابتلاعه كامل القارة الأوروبية. لكن، يبدو أن الأزمة الاقتصادية والتعثّر الأمريكي في الشرق الأوسط الكبير، بدآ يفرض على الأطلسيين إعادة النظر في طبيعة علاقاتهم مع روسيا.
وهكذا، بدأت بلاد القياصرة تبدو الآن كحل لمسألة الأمن الأوروبي وامتداداته في الشرق الأوسط الكبير، بعد أن كانت هي المشكلة الأكبر.
ثم هناك إعتبار مستقبلي آخر بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي. اعتبار جيو – استراتيجي هذه المرة: مركز الجاذبية العالمي بدأ ينتقل (أو هو انتقل فعلاً) من أوروبا – حوض الأطلسي إلى آسيا – حوض الباسيفيك. وهذا سيجبر الولايات المتحدة عما قريب على تركيز كل جهودها العسكرية والأمنية في الشرق الأقصى لمجابهة مخاطر مطالبة الصين وآسيا بتغيير منظومة النظام العالمي الحالي، ما سيترك فراغاً في الشرق الأدنى لن تستطيع ملؤه سوى أوروبا الأطلسية- الروسية.

هذا على ما يبدو هو السبب الحقيقي وراء دعوات واشنطن المجلجلة أخيراً بضرورة إعادة النظر في دور حلف الأطلسي. وهذا هو الجوهر الرئيس لكل مشروع  فوغ راسموسن للحوار الأطلسي- الروسي.
صحيح أن واشنطن ليست على عجلة من أمرها للقيام بعملية التسلّم والتسليم الأمنية هذه مع أوروبا، بسبب انهماكها في جهود السيطرة المباشرة على مثلث النفط في الخليج- قزوين- القرن الإفريقي. لكن أي أزمة خطيرة في مضائق تايوان أو في شمال شرق آسيا، ستضع هذه الخطط على نار حامية.
لكن ما فرص نجاح الحوار الأطلسي- الروسي العتيد؟
الكثير سيعتمد على مدى استعداد الغرب للاعتراف لموسكو بمجالها الحيوي في منطقة الاتحاد السوفييتي السابق، خاصة أن هذه الأخيرة أثبتت خلال حرب جورجيا أنها مستعدة لاستعادة هذا الموقع بقوة الحديد والنار.
بروكسل الأوروبية تبدو بالفعل مستعدة، بيد أن علامات الاستفهام الكبيرة لاتزال تحوم فوق رأس واشنطن. لكن، وفي حال لم ترفض هذه الأخيرة ما قبلته الأولى، سنتأكد حينها بالملموس أن أمريكا باتت تعاني بالفعل من ظاهرة “التمدد الاستراتيجي الزائد”، وأنه لم يعد في إمكانها الآن سوى بدء “التقلّص الاستراتيجي غير المنقوص”، أو هدم المعبد على رؤوس الجميع.
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى