سمر يزبكصفحات ثقافية

المهـــــدورون

null
سمر يزبك
أغرب ما يمكن ملاحظته في الساحة الثقافية والسياسية مؤخراً، هو خفوت ثنائية المثقف والسلطة، التي كانت سمة عقود خلت. وكان الصراع هو العــنوان الدائــم بيــن طرفين يغيب التــوازن بينهما، ومع ذلك لم يكن الطرف الأقوى يستطيع تحقيــق الانتــصار بسهولة، حيث كانت الساحة الثقافــية أقــرب إلى التماسك، ولديها القدرة على المــقاومة والتضامن.
ويبدو أن السلطة تتعلم من تجاربها أكثر مما يتعلم المثقفون من تجاربهم. ويبدو أنها رأت أخيراً، أن السجن ليس دائما الوسيلة المناسبة للنيل من إرادة المثقف. ربما يكون سلب الحرية ضروريا كمحطة للترويض، لكن المجهود الأساسي يجب أن يدخر للترغيب، بعد أن اكتشفت، أن هذه المهمة يمكن انجازها بتكلفة بسيطة، حيث لا يكلف استيعاب عشرة كتاب ما تتكلفه وليمة عشاء، أو ما يهدره الفساد في مشروع صغير، وهذا بالتأكيد أقل كلفة سياسية للنظام من القمع والسجن الذي يواجه بالإدانة العالمية.
لا يمكن لمنظمة حقوقية أو دولة أجنبية، أن تعترض على منح المثقف فرصة للتربح من بيزنس ثقافي، أو وظيفة صغيرة أو وعد بوظيفة أكبر. ويبدو أن هذا الاكتشــاف من قبل السلطة ولد متزامناً مع مولد المثــقف التكــنوقراط الذي لا يستحي من بيع خبراتــه وأفكاره للسلطة.
وقد اتخذت الظاهرة مظهراً علمياً، متزامنة مع ميلاد ثقافة التخصص في كل شيء، وتبناها المثقف ليستفيد منها، ويعطي تخليه عن مشروعه التنويري، مبررات تبدو مقبولة. وبزعم التغلغل في أجهزة الدولة، التي تخص الشعب وليس الحكومة فقط.
وهذا زعم صحيح نظرياً، إذا كان ما قدمه المثقف يمثل اختراقاً حقيقياً لظلامية السلطة، وهو ما لم يحدث للأسف، وتحول الاختراق في النهاية إلى اختراق للمثقف نفسه، عندما تآكل قطعة قطعة.
بدلاً من أن يحقق المثقف ما أراده ـ أو ما زعمه ـ في البداية، ويرفع من مستوى السلطة وأجهزتها، تعرض هو للاختراق تحت جرعات المخدر التصاعدية، مصلحة فمصلحة، وامتيازاً فامتياز؛ السيارات والسكرتارية، والمكاتب الفخمة، والمآدب، ومستوى الحياة الثري الجديد، حتى انتهى أقرب إلى صورة السلطة، وأصبح هذا المثقــف الموظــف، طليعة للسقوط.
من الأمانة الاعتراف بأن المثقف بشر في النهاية، له احتياجاته، وسط تحولات اقتصادية مهولة. لم يعد دخل المثقف يلبي في ظلها الحد الأدنى من شروط العيش الإنسـاني. لكن ما يبدو الآن، هو احتراق كامل لصــورة المثــقف، ولم يعد استقطابه هــدفاً تحرص عليه السلطة، كما كان يحدث منذ سنــتين على الأقل، لأن العرض فاق الطلب، ولم يــعد أمام الراغبين في الالتحاق بالسلطة ســوى تسول الرضا، وتقديم خدمات قد لا تكـون مطــلوبة في كثير من الأحيان.
هكذا تشتغل آلية »حيونة المثقف« بحفنة الذرة التي تلقى إلى القفص. فتتولى الديكة تمزيق بعضها البعض دون حاجة إلى تدخل من السلطة. وفي الصراع على الحبة، كل شيء جائز، بما في ذلك بيع تاريخ الاستنارة، والعودة إلى أساليب المجتمعات البدائية، وإعادة إنتاج أساليب ومنظومات وقيم هذه المجتمعات، في تنكر لكل ما حصّله المثقف خلال قراءاته، وكأن الثقافة مجرد قــشرة لم تتغلغل بعد إلى الأعماق.
التشهير بالمثقفين كان موجوداً دائماً، في فترة الصدام الواضح. كانت السلطة تتولى عبر أجهزتها التشهير بالمثقف. قرارات الاعتقال كانت تتضمن ضمن مبرراتها اتهامات للمثقف تنال من شرفه أو من ولائه الوطني، ولكن هذه الاتهامات لم يكن ينظر إليها بعين الاعتبار، لأنها صادرة عن خصم.
في مرحــلة الاحــتواء أصبح هناك من المثقفين من يتولى هذه المهمة نيابة عن السلطة، وخاصة إذا كان من الحاملين لنيشان السجن!
بالتأكيد، هناك من المثقفين من يتمتعون بالنزاهة، وهم كثر لحسن الحظ. خرجوا من المعتقل أكثر توازنا وصلابة مما دخلوا. الأمر يتعلق بقلة تعتقد أن من حقها استثمار هذه الشارة التي حصلت عليها يوما ما، وكأن ما قدموه يوماً هو جواز مرور دائم يضعهم فوق مستوى الشبهات أو المساءلة.
هناك نغمة يرددها البعض تبرر لمثل هؤلاء أفعالهم لأنهم سبق أن ضحوا، ومن الممكن أن يفهم الضعف الإنساني في بعض هذه الحالات، لكن المثقف الذي قدم نفسه على أنه قائد رأي عليه أن يعي قدره؛ فلا يصح أن يذوي ويصبح مجرد رد فعل يتلقى تحولات الاقتصاد والسياسية، باندحار، ويتحول سلوكه إلى استجابة آلية، لمتغيرات المجتمع والسلطة، متخلياً عن قناعات فكرية وإنسانية، ليصبح جندياً يستخدم عن عمد أسلحة الدمار غير المشروعة ثقافيا لتشويه مثقفين آخرين، متسلماً الملف الذي كان سابقا بيد السلطة، التي لم يزل القرار بيدها، ولم تزل تضع الثقافة والمثقف في وضــع المتلقي الذي ينفذ مشيئتها.
السلطة تعرف أهدافها وبقيت مخلصة لدورها الطبيعي، وطورت من آليات قمعها، موسعة من جهود »الاحتواء« لكن دور المثقف كما يلخصه المفكر الراحل ادارود سعيد »مهمته أن يطرح علناً للمناقشة أسئلة محرجة، ويجابه المعتقد التقليدي والتصلب العقائدي، بدلا من أن ينتجهما«.
للأسف أصبح المثقف أحد نتائج التحولات الملحوظة في السنوات الأخيرة، وأهمها اختفاء وتهميش الطبقة الوسطى، التي كانت دائما وعلى مر التاريخ تحمل على عاتقها مهمة التنوير الاجتماعي والسياسي، وأدت خلخلة هذه الطبقة إلى خلخلة البنية الأخلاقية للفرد.
وما صاحب ذلك من تفتيت لطبقة أو لفئة المثقفين أنفسهم ، وتحولها إلى ضفاف صغيرة متفرقة متباعدة، مرتبطة بحبال سرية مع السلطة بأشكال عدة، ولا عمل لها سوى إعادة إنتاج آلية فكرية سائدة قامعة، وقد نجحت السلطة وبكل جدارة، بتحويلها إلى مكان معتم وهامشي، لن يرغب أحد من الأجيال القادمة بالانتماء إليه.
وحقيقة هذا هو التخريب الأكبر الذي شهدناه مؤخراً، وربما القادم أعظم! إن لم تنشأ حركة ثقافية تعيد الالتفاف على هذا التردي، وتسترجع بعــضاً من تماســك البـنية الثقافية.
فهل من الممكن إعادة طرح الأسئلة الأولية عن دور المثقف وأولوياته؟
الإجابـــة يصــعــب تحديدهــا، فــي هـــذا الوقــت الملتـــبس!
(دمشق)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى