صفحات العالم

عودة روسيّة؟

حازم صاغية
سارع عدد من المراقبين والمعلّقين العرب إلى التهليل لـ”عودة روسيا” إلى منطقة الشرق الأوسط، معتبرين أن صفقة الأسلحة الروسيّة الأخيرة المعقودة مع سوريّا، وبعض الكلام المتشدّد الذي صدر عن الرئيس ميدفيديف هما البرهان على هذه العودة.
ولأنّ نشيدنا الضمنيّ الدائم هو “يا أهلاً بالمعارك”، فإن عودة كهذه  هي ممّا تنشرح له الصدور وتفرح الأفئدة.
والحال أنّ انسداد العمليّة التسوويّة في المنطقة والتشدّد الإسرائيليّ الاستثنائيّ الذي يصعب كثيراً أن تذلّله المفاوضات غير المباشرة برعاية أميركيّة، قد يفسّران الجزء المبرّر من الارتياح العربيّ والإسلاميّ إلى “العودة” الروسيّة. لكنْ يُخشى أن يقودنا الوعي السلاحيّ إلى تغييب عدد من الاعتبارات الأساسيّة التي تعيد إدراج هذه “العودة” في إطار أدقّ وأشدّ واقعيّة.
فنحن نعلم أنّ الاقتصاد الروسيّ المرتكز في صورة أحاديّة على الموادّ الأوليّة، لا سيّما النفط، لا يستطيع الذهاب بعيداً في المنحى الصداميّ هذا. لكنّنا نعلم أيضاً أنّ ما يصدر حاليّاً عن موسكو هو نتاج منافستين: الأولى، مع الولايات المتّحدة في لحظة من ضعفها النسبيّ، بما يتيح لروسيا الرهان على تحسين شروطها التفاوضيّة حيال واشنطن من خلال بعض المواقف التصعيديّة، أو التي تبدو هكذا. بيد أنّ حدود هذه المنافسة سبق أن امتُحنت في المسألة الإيرانيّة، إذ يتبدّى، يوماً بيوم، أنّ الروس يقتربون من الموقف الأميركيّ حيال العقوبات، ولو أنّ هذا الاقتراب يتّخذ أشكالاً ملتوية ومتعثّرة. وغنيّ عن القول إنّ واشنطن، ومعها تلّ أبيب، تعتبران أنّ المحكّ الفعليّ يتّصل بالعلاقات مع طهران، لا مع دمشق.
أمّا المنافسة الثانية فتدور بين ميدفيديف ورئيس حكومته “الرجل القويّ” فلاديمير بوتين. ولئن عبّر الأوّل مراراً عن رغبته في الاستقلال عن نفوذ الثاني، الذي جاء به أصلاً إلى الرئاسة، مطوّراً آراء خاصّة به أشدّ ليبراليّة في ما خصّ الاقتصاد والعلاقة بالغرب، فإنّه لا ينوي ترك ورقة النفوذ والهيبة الروسيّين في العالم لمنافسه وحده. ومعروفٌ أنّ الورقة هذه، معطوفة على التحسّن الاقتصاديّ، هي التي أسّست شعبيّة بوتين بعد التعطّش الروسيّ إليها بنتيجة التردّي الشامل الذي شهده عهد بوريس يلتسن.
لكنْ حتّى لو افترضنا جدلاً أنّ روسيا في صدد عودة سوفياتيّة جبّارة دشّنها الحدث الأخير، وهو ما قد يذكّر البعض بصفقتي السلاح الشهيرتين مع مصر وسوريّا أواسط الخمسينات، فهل تبدو الأمور قابلة للتكرار؟.
واقع الحال أنّ ما حصل آنذاك ترافق مع صعود نجم الناصريّة وتصليبها لمهابة دولتها العسكريّة، فضلاً عن الالتفاف الشعبيّ العربيّ الواسع لها. أمّا الآن فلا تبدو في الأفق أيّة حاضنة مؤسّسيّة وشعبيّة عربيّة قادرة على توفير الاستقبال المطلوب لعودة روسيّة كهذه. آنذاك كانت البدايات التي جُرّبت، والآن نحن أمام النهايات التي يُستحسَن عدم تجريبها مهما بدت طريق السياسة صعبة ومتعثّرة. فكيف وأنّ الطرف الإيرانيّ هو وحده المؤهّل، في حال صحّة الكلام عن عودة روسيّة، لاستقبال ذاك التحوّل، وعلى النحو الذي يجعل منّا، نحن العرب، مجرّد ذرائع لنفوذه؟.
مرّة أخرى، يُستحسَن بالعقل أن يتدخّل لضبط العواطف الجامحة.
Now Lebanon

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى