صفحات العالم

جرأة القول… وصعوبة المسار

عبد الوهاب بدرخان
بدا خطاب أوباما كأنه تأسيسي، وكأن صاحبه يقول: انسوا أميركا التي تعرفونها ولنبدأ الآن. خطاب مهم، لهجة غير متعالية، لغة مختلفة، مفاهيم واقعية، رغبة ملموسة في إزالة الخلافات والتوترات. كل ذلك لاشك فيه، ويستحق الترحيب، ويستدعي المراهنة والأمل، لكن لا مجال للأحلام في السياسة.
فالتوترات لها تاريخ وإرث، متسع وسقيم، وهي التي – كما قال – جاءت بأوباما إلى القاهرة، لا ليعتذر عن الماضي وإنما ليقول إنه يشارك العرب والمسلمين عدم الرضا عما كان – ولا يزال – ويطلب مشاركتهم في فتح صفحة جديدة قوامها الحوار والشراكة. فهل هذا طلب معقول. العرب يقولون للأميركيين أنتم عاديتمونا وآذيتمونا وأفسدتم ما بعد استقلالاتنا ووضعتم الاستعمار هنا وهناك لكنكم انتخبتمونا لتزرعوا كياناً عنصرياً استعمارياً في قلب منطقتنا. والأميركيون لم يكونوا ليبالوا بما يقول العرب، لكنهم يقولون اليوم بلسان أوباما ساعدونا يا عرب حتى لا نعاديكم ولا نؤذيكم، ساعدونا بقبول إسرائيل بكل عدوانيتها وعنصريتها، اقبلوا إسرائيل حتى لو لم تقبل هي بكم وبالفلسطينيين الموجودين أصلاً على أرضهم.
ينبغي عدم إنكار الإيجابية العميقة في مبادرة أوباما، ينبغي الإقرار بجرأته في مقاربة الإسلام الذي يعتقد الكثير من مواطنيه الأميركيين أنه مسؤول عن الإرهاب وعن هجمات 11 سبتمبر. ينبغي عدم نسيان أنه رئيس لـ “نظام” ولـ “مؤسسة” معجونين بغطرسة القوة والتفوق أكثر مما هما مدفوعان إلى إعلاء شأن مبادئ الحوار والسلام والاعتراف بحقائق الشعوب. لدى أوباما معركة لم يتحدث عنها، معركة لم تبدأ بعد مع نظامه ومؤسسته، لكنه دخلها باكراً بمجرد أنه وضع الشرق الأوسط في أولويات “التغيير” الذي جعل منه عنواناً وشعاراً لمروره في البيت الأبيض. لابد في المرحلة المقبلة من مراقبة ردود فعل “السيستم” على سياسات الرئيس. وربما لذلك هو يحتاج إلى مساعدة من العرب والمسلمين والآخرين، مساعدة يسميها تقنياً “تحمل المسؤولية”.
لكن كيف يمكن صنع مستقبل زاهر من دون التصالح مع الماضي ومن دون القدرة (الأميركية) حتى على وضع حد لآلام الحاضر.
وكيف يمكن الولايات المتحدة أن تحصل على/ أو تحقق هذه الأماني “الأوبامية” من دون تغيير جذري وجوهري لا يقتصر على الرئيس وحده. وكيف يمكن هذا الكلام الجميل أن يصبح واقعاً ووقائع، من دون أن يخرج أوباما من ثوب الداعية المبشر إلى ثوب السياسي صانع القرارات الصعبة.
زمان طويل مرّ والشعوب – ومنها العرب والمسلمون – تتلقى الأذى ولا يسمح لها بالعيش الهادئ الكريم على أرضها، وقلما استطاعت أن تصدّ الأذى بالأذى لذا كانت ولا تزال تلعق عجزها ومرارتها منتظرة بل مطالبة بـ “تغيير” عند الآخرين الأقوياء، ومنذ أصبحت الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة باتت وحدها أيضاً مطالبة بـ “التغيير” لتتكيف عالمياً وعملياً مع القيم الإنسانية المحسوبة أنها رائدتها والمؤتمنة عليها.
ماسمّاه أوباما مصادر للخلاف والتوتر بين أميركا والعالمين العربي والإسلامي، هي في الواقع صراعات لعبت فيها الولايات المتحدة أدواراً سلبية في معظم الأحيان، وساهمت انحيازاتها أو تعنتاتها الايديولوجية في تأجيجها وتعقيدها إلى حد استعصائها على الحل. ولا يعقل أن ترتسم الحلول مستقبلاً إلا بعد فتح الملفات والتصارح حولها، وربما يصعب إيجاد حلول صحيحة إلا بعد إعادة الاعتبار لقيم العدل، وأن تكون أميركا نفسها ضامنة هذا العدل، لأن حلول الأمر الواقع ستكون بالضرورة مشاريع نزاعات لاحقة. إذا كانت الفكرة “الأوبامية” تستند إلى أن السياسة الأميركية تبدأ معه ولا علاقة لها بالماضي، فالأرجح أنها ستتعثر بل سيسهل على الآخرين داخل أميركا من “يمين محافظ” وجماعات ضغط وأصحاب مصالح في الكونجرس، أو خارجها في إسرائيل مثلاً، وضع العراقيل أمامه.
التطرف مشكلة طبعاً، لكن ماذا عن جذورها؟ وما دور أميركا في تأسيس الجماعات التي غدت فيما بعد عصابات إرهابية؟ أفغانستان بؤرة توتر بالتأكيد لكن حملات التقتيل وحدها لن تجعلها واحة مستقرة، ولابد من السؤال عن العبث الأميركي المباشر وغير المباشر الذي ساهم في صنع هذه البؤرة. مثال العراق واضح جداً، وينبغي السؤال لماذا حرص الأميركيون على تخريب البلد على هذا النحو المهوّل. الديمقراطية عقدة أكيدة، فلماذا لم تتنبه أميركا إليها إلا بعد ما ضربها الإرهاب في صميمها. الكل مسؤول، لكن المسؤولية الأميركية أساسية، أوباما أعطى القدوة في القول، وإذا لم يعط القدوة في الفعل فإن خطاب القاهرة سيبقى محطة كلام في كلام.
الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى