صفحات الناس

الصحفي العاري في البلد العاري

null
علي ديوب
الصحفي عار، كعري كل أحد آخر، و كل شيء، في سورية، أمام سلطة عارية هي الأخرى أمام خوفها، الذي عكست صورته في شهوة مذعورة للتحكم الاستبدادي، حتى بالأموات. و صلف و عنف موجهين إلى مظاهر الحيوية في المجتمع. سلطة تؤمن أن ثباتها و استمرارها، يتحققان على الضد من نمو مكونات المجتمع و الوطن معا. فقضت على الحقوق الفردية و الجماعية، بقانون الحرب( قانون الطوارئ). و لكي تؤبد سلطانها و غلبتها، حشرت الجميع في قمقم الخوف.
هل يمثل الصحفي معن عاقل، و أمثاله، و قبلهم سجناء الرأي، في سورية، أي تهديد على المجتمع، من قبيل التهم التي استحدثها النظام ضد من لم تفلح معهم أساليب التخويف، و التي منها “إضعاف الشعور القومي”، و ” إنهاك روح الأمة”؛ ما لم يكن هذا الشعور، و تلك الروح، هما روح و شعور سلطة مثلومان برهاب الكلمة الحرة و الرأي الآخر؟ و هل سيكرًّم معن عاقل بتفصيل تهمة قانونية خاصة، أم سيلقى إليه بواحدة بالية، ألبست لزملاء سابقين؟
تقول الأخبار أن الصحفي معن عاقل، لم يعد صحفيا( نعم هكذا)، تزامنا مع، و نزولا عند جريمة اعتقاله التعسفي، من قبل جهاز مخابرات أمن الدولة. لماذا يفصل من عمله- و هي سابقة، حتى في تاريخ الاعتقال التعسفي في سورية؟ لقد درج النظام، منذ عقود، على ترديد اسطوانة، لفّقها، تقول بأنه لا يوجد في سورية صحفي سجين. مع أنه كان يسجنهم لسنين، و لعقود، من جملة سجناء سياسيين آخرين، و لكن من غير أن يفصلهم من عملهم. بل يعوض على من تم اعتقاله و هو على رأس عمله، تعويضا ماليا عن مدة الاعتقال. أما اليوم، فهو عرضة لخسارة عمله، من غير تعويضات؛ و فوق هذا، و قبله، يمنع من السفر إلى الخارج. و لقد عرف سجناء السياسة في سورية تجريدا من الحقوق المدنية، و السياسية بالطبع، منعت بعضهم حتى من الزواج!
و قد سبق لزميلنا معن عاقل، نفسه، أن اعتقل و هو طالب جامعي في سنته الأولى، ليخرج بعد تسع سنوات، و يستأنف دراسته- لكن في اختصاص آخر( الصحافة)، ثم ليعمل بعد تخرجه محررا في جريدة الثورة. طبعا كان هذا قبل أن يقونن الاعتقال، و يصبح سجنا نافذا بحكم محاكم، اجتهدت في تلفيق اتهامات ما كان لها أن تنحطّ إليها، لولا أن تمّ تحطيم مؤسسة القضاء بصورة عميقة، مسبقا. هذا لا يعني أنها كانت سليمة فاعلة، أو مستقلة، فيما مضى. لا. بل إن النظام لم يكن في حاجة حتى إلى استخدامها، و لو صوريا، قبل أن يجد نفسه معنيا بالتساوق الشكلي مع المتغيرات العولمية، التي راحت تضغط عليه لكي يخرج من الحالة الشاذّة التي يقبض فيها على المجتمع و الدولة، متجاهلا كل القوانين و المعاهدات الدولية، التي وقّع عليها، و منها ما يتعلق بحقوق الإنسان.
الآن يصبح معن عاقل معتقلا بتهمة غير سياسية. و لا هي تهمة تتعلق بحرية الرأي( فالديمقراطية و حرية الرأي و حكم الشعب.. أمور متاحة في سورية، كما في ليبيا- حدّ الابتذال- و على نحو يملي على الغرب أن يتعلم منه)؛ بل هي تهمة جنائية- على حد تعبير الزميل مصطفى المقداد، نائب رئيس اتحاد الصحفيين في سورية، و مدير تحرير الجريدة نفسها، في وقت معا، تبريرا لفصل الزميل معن عاقل!
بل إن الزميل المقداد- إقرأوا بعناية، أرجوكم: “يأسف لاعتقال أي صحافي لان مهنة الصحافة من اشرف المهن التي يمكن ان يعمل بها الانسان، ولكنه في نفس الوقت أكد ان لا علاقة لأية مقالة كتبها عاقل باعتقاله .
وأشار المقداد انه لم يتم إقال عاقل كما قالت بعض البيانات والأخبار ، ولكن قد يصدر قرار في وقت لاحق بكف يده عن العمل .
هذا وتناقلت بعض المصادر أنباء عن تسجيل مكالمات صوتية لعاقل كمستند على اتهامه الذي سيصدر لاحقا .
وكانت أنباء قد تحدثت عن اعتقال عاقل من مبنى جريدة الثورة وعن مصادرة كمبيوتره الخاص وانه تم استدعائه لمكتب المدير العام قبل اعتقاله، ثم تمت عملية الاعتقال.. الخ.”- موقع كلنا شركاء، تاريخ 3-12-2009
من جهتي، لم أتشرف طوال ربع قرن من عملي في جريدة الثورة، بطلب من أي مدير عام يتعلق بتطوير المهنة؛ لكن يشهد للمدراء السابقين أن عناصر المخابرات لم تكن لتقدم في عهدهم على خطوة سافرة، مثل اعتقال أحد من الزملاء من داخل مكاتبهم( صارت هذه الآن إيجابية- للأسف). بل إن العناصر الذين اقتادوني يوما، إلى المعتقل، دخل اثنان منهم إلى مبنى الجريدة منتحلين صفة مواطنين، يروجان مني إنقاذهما بالشهادة لهما ضد آخرين، اتهموهما بحمل بطاقات مراسلة شعبية مزورة.. و أن شهادتي، في الأمن الجنائي ستنقذهما.( كانت الصحيفة اعتمدت مراسلين شعبيين متطوعين- و كنت محررا في القسم)؛ لأترك مكتبي، مبادرا إلى نجدتهما، قبل أن أجد نفسي أمام آخر مشهد، خارج عتمة أقبية فرع فلسطين، لعدة أيام: سيارة يعرفها اللبيب و غير اللبيب من الإشارة، تقف خارج المبنى، يجلس فيها رجلان، أحدهما السائق؛ تعجلوا جميعهم في استقبالي، خطفا، و دفعي إلى أسفل، كي لا أُرى. و تطميش عيني، كي لا أًرى.
و من جهته، لم يقف اتحاد الصحفيين، في سورية، يوما مع حقوق الصحفي، خاصة فيما يتعلق بالرأي- و هو قوام عمل الصحفي، و مهنة الصحافة- بل إنه في قضية سجن ميشيل كيلو، ساهم في تشويه صورته، و الحرب عليه، عبر فتح صدر جريدة الثورة لحملة افتراءات على صحفي عريق، ناضل طوال عمره، و لا يزال، لرفعة البلد، و حرية المواطن. و منع، بالمقابل أي كلمة حق تقال لإنصافه، في أي من وسائل إعلامه الرسمية. بل و حتى في أية وسيلة أخرى تصدر في سورية، و تدعي الاستقلالية. و اتحاد الصحفيين، في سورية، يتفرد عن أمثاله، في المعمورة، بأن أعضاءه يشغلون مناصب إدارية في الصحف- كما الزميل مصطفى المقداد- مما يجعل منهم الخصم و الحكم!؟ و الاتحاد المذكور- على قدم المساواة مع كافة منظمات المجتمع الملحقة بالنظام- يقتصر جهده، على مستوى المنظمة، بتبرير الإجراءات التي يتخذها النظام بحق أي صحفي، ثم يستكمل من جانبه الترتيبات العقابية المطلوبة، متظاهرا بأنه يؤدي دوره بموجب قوانينه الداخلية؛ ثم يلتهم الفتات عن الطاولة، قبل أن يتوجه إلى مخدعه. أما على المستوى الخارجي، فيستهبل في تسويق سياسة النظام، عبر أبواق تحاول أن تصدق نفسها.
و لكن متى كانت التهمة الجنائية سببا لفصل عامل من عمله؛ حتى قبل أن ينظر فيها أمام المحاكم التي يرتضيها المواطن مرغما؟ ثم متى كانت للتهمة الجنائية كل هذه السرّية، في أي مكان في العالم؟ بالتأكيد ليس من الصعب، في حال، أن يتم تلبيس أي شخص أية تهمة في سورية. ما دامت مهمة القضاء المستحدثة لم تعد الصمت، بل المشاركة الفعالة في قوننة التهم، التي كانت تقتصر على جهاز الأمن. و لم تعد ذرائع تدني أجور القضاة في سورية، عذرا لسلبيتهم؛ بل صارت منّة مدفوعة الأجر- تحت طائلة قطع التيار.
ثمة مثل دارج في سورية، يقول: ” قطع الأعناق، و لا قطع الأرزاق”؛ و لكن ثمة قول آخر أكثر جريانا، يقول: ” مئة أم تبكي، ولا أمي”. و هي ثقافة أنتجت شعبا ميتا، و بلدا ثكلى.
معن عاقل زميل عمل لعدة سنوات- في القسم الثقافي بجريدة الثورة- نشر خلالها مجموعتين قصصيتين، على حسابه الخاص، و ترجم الوصايا المغدورة لكونديرا( أتقن الفرنسية، في المعتقل، و الترجمة أصدر). ثم ليعهد إيه بقسم التحقيقات، و يعمل بهمة عالية، رغم نحول جسمه، فنالت التحقيقات التي راحت تنشرها صفحته اهتماما واسعا، في فترة وجيزة، واكبت انفتحا نسبيا في المادة التي سمح بنشرها في وسائل الإعلام الرسمية، فكانت مناسبة لمعن مثلما كان هو مناسبا لها؛ لولا أن ضاقت فسحة الأمل. و تمّ كفّ يد معن عن القسم، و التضييق عليه، حتى لم يعد يجد متّسعا إلا في الصحافة الخاصة، على ندرتها، و في المواقع الألكترونية- حيث نشر تحقيقات مميزة، و ذات مردود وطني عالي القيمة- لمن يهمه الاستثمار الوطني الحقيقي. معن عاقل شخص، لمن يريد أن يكون نزيها، منصفا، أو حتى حياديا؛ حاد الذهن، حريصا على التفرد برؤيته، مهما كلفه الأمر( نالت صداقتنا ضربات موجعة جرّاء هذا). و هو يملك قدرة نادرة في القراءة بوفرة، و بتركيز و سرعة لماحة في التقاط جوهر الموضوع، و دفعه إلى أمداء لم تكن متيسرة لمعظمنا.
لن أدعي جرأة كاذبة، فأقول أنني كان يمكنني أن أكتب عن معن مثل هذا الكلام، ولا أقل منه بكثير، لو كنت لا أزال على رأس عملي. حيث يوجد، بلا شك، من يرغب من الزملاء أن يقول فيه أكثر، لولا أن الخوف يعطّل قدرة الشخص- مهما كان موقعه- حتى على التضامن مع معتقل سياسي، على الأقل ما دام رهن الاعتقال. بل إنني لم أستعد الشعور بالطمأنينة على مدى هذه المسافة التي تفصلني عن بلدي. إذ أصبح الخوف صفة مضافة إلى صفاتي الخُلْقيّة، بل و الخُلُقيّة- نعم، هذا هو السلاح الذي زودني به بلدي، في رحلتي عبر هذا العالم الكبير.
(*) صحفي سوري مقيم في بريطانيا
انفورمر سيريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى