صبحي حديديصفحات ثقافية

شهادات سيمون بيتون

null
صبحي حديدي
تنطلق في فرنسا، الشهر القادم، العروض التجارية للشريط الوثائقي ‘راشيل’، الذي أخرجته السينمائية الفرنسية سيمون بيتون، عن واقعة مقتل الصبية الأمريكية راشيل كوري (23 سنة)، دهساً تحت بلدوزر تابع لجيش الإحتلال الإسرائيلي، أثناء تضامنها مع فلسطينيين كانت بيوتهم تُهدم في قطاع غزّة، يوم 13 آذار (مارس) 2003. وبيتون، كما تجدر الإشارة على الفور، مغربية الأصل، ويهودية تسبح دون كلل ضدّ أكثر من تيّار صهيوني؛ يسارية، شجاعة بالمعاني الأخلاقية والفنّية والسياسية، وموهوبة، مرهفة الإحساس تجاه فلسطين والثقافة العربية. لائحة أفلامها الوثائقية تتضمن شريطاً عن أساطين الموسيقى العربية (أم كلثوم، محمد عبد الوهاب، فريد الأطرش)، 1990؛ وآخر عن فلسطين، بعنوان ‘قصة أرض’، 1992؛ وثالث عن اغتيال المناضل والسياسي المغربي المهدي بن بركة، 2001؛ ورابع عن جدار العزل العنصري، 2004…
شريطها عن درويش، 1997، حمل اسم ‘محمود درويش … الأرض كاللغة’، وعرضته القناة الثالثة الفرنسية ضمن سلسلة ‘قرن من الكتّاب’، وفيه تصوّر محطات حياة الشاعر الراحل منذ الطفولة، وحتى الإقامة في العاصمة الأردنية عمّان. ولهذا فإنّ كاميرا بيتون تزور الجليل الفلسطيني، والبحر الميّت، ورام الله، وبلدة ‘الجديدة’ حيث كانت تقيم والدة درويش، وأطلال قرية ‘البروة’، مسقط رأس الشاعر والتي هدمها الإحتلال الصهيوني في عام 1948، ومحاها تماماً عن الخريطة.
شريط ‘تفجير’، 1999، تناول العملية الإنتحارية التي شهدها شارع بن يهودا في القدس، يوم 4 أيلول (سبتمبر) 1997، وكان بحثاً واقعياً معمقاً في سؤال كبير: لماذا ومتى انقلب هؤلاء الشبّان (توفيق ياسين، بشار صوالحة، يوسف شولي، معاوية جرارة) من فتية فلسطينيين ذوي مشاعر وطنية عادية طبيعية، وعقائد سياسية قريبة من اليسار الفلسطيني، إلى متطوّعين في عمليات إنتحارية؟ وكيف تطوّر حجر الإنتفاضة، بوصفه لعبتهم الوحيدة في زمن الطفولة، إلى حزام ناسف في زمن ‘العملية السلمية’؟ وللتنقيب عن الإجابات تذهب سيمون بيتون إلى صفّ الضحية، على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وليس إلى صفّ علماء الإجتماع أو الساسة أو الخبراء أو ضباط الأمن.
إجابة أولى تأتي من السيدة نوريت بيليد الكنعان، إبنة الجنرال الإسرائيلي الشهير ماتي بيليد، التي فقدت ابنتها سمادار (14 سنة) في عملية سوق بن يهودا: ‘حين نقمع شعباً بأكمله خلال 30 سنة، ونهينه باستمرار، فما الذي ننتظره؟ ما الذي نأمله من الأجيال الفلسطينية الشابة؟’. إجابة ثانية تأتي من فاطمة ياسين، والدة توفيق ياسين التي لا تقرّ قتل الأبرياء أيّاً وأينما كانوا، ولكنها تقول: ‘لَمّن أجوا يهدّوا البيت وجابوا جنود معاهم، وجابوا الجرافات والباغر وبلّشوا بالدار هَدّ، ولمّن هدّوا الدار وخلّصوا، هذاك الوكت لو كان إبني معلّمني الحزام، لَكُنتْ تحزّمت ونزلت بين الجنود ونسفتهم، وطلعت خالصة أنا ويّاهم’.
وفي العودة إلى شريطها الأحدث، ‘راشيل’، لم يكن مدهشاً أنّ أولى الحملات المناهضة له، والمحرّضة على منع عرضه نهائياً، جاءت من جهة يهودية ـ صهيونية؛ ليس في فرنسا، بلد الإنتاج، كما قد ينتظر المرء، بل في الولايات المتحدة الأمريكية؛ وليس في أيّ مهرجان سينمائي معتاد، بل في… مهرجان سان فرانسيسكو للفيلم اليهودي! وكانت ‘مؤسسة كوريت’ الشهيرة، وريثة أموال وأعمال الثري اليهودي الروسي الأصل جوزيف كوريت، تشارك سنوياً في دعم هذا المهرجان، اسوة بعشرات الأنشطة والفعاليات الأخرى ذات الصلة بالجالية اليهودية في خليج سان فرانسيسكو. إلى هذا، يُعرف عن المؤسسة دعمها المالي الكثيف، والسياسي والاجتماعي المطلق، للدولة العبرية؛ ومحاربتها، بلا هوادة في الواقع، لكلّ ناقدي سياسات إسرائيل.
ولأنّ إدارة المهرجان قرّرت عرض ‘راشيل’، فقد اتخذت المؤسسة قراراً مضاداً يقضي بحجب الدعم المالي عن المهرجان، وشنّ حملة شعواء ضدّ الشريط، متعللة بذرائع شتى، بينها أنّ المؤسسة ‘في عداد أشدّ مساندي وحلفاء إسرائيل’، كما جاء في بيانها الرسمي، ولا تدعم أية منظمة ‘تنشر أو تستثير مشاعر العداء لإسرائيل’؛ فضلاً عن هذا السبب الأعجب: قيام إدارة المهرجان باستغلال مشاعر أمّ ثكلى (والدة راشيل كوري)، ودعوتها رسمياً إلى المهرجان لمشاهدة الشريط!
لا غرابة البتة، إذاً، في هذا الموقف العدائي الشرس إزاء شريط يبلغ 90 دقيقة، بالغ القوّة، شديد التأثير، مشغول باحتراف فنّي عالٍ، حافل بالوثائق الدامغة والمقابلات الفضاحة والموادّ الفوتوغرافية والسمعية ـ البصرية حول واقعة الإغتيال، استغرق إعداده ثلاث سنوات. ومن المفهوم مقدار الضغينة التي انصبت على بيتون، لأنها فنانة يهودية في المقام الأوّل، وهي بالتالي شاهدة من داخل الأهل؛ ولأنها، ثانياً، ذهبت حتى النهاية في كشف وقائع الجريمة. وفي هذا تقول بيتون: ‘الجريمة التي يعالجها شريطي ليست مقتل راشيل كوري فحسب، بل التدمير الإرادي من جانب الإحتلال الإسرائيلي لمناطق كاملة آهلة بالسكان، دون اكتراث بحقيقة أنّ السكّان الباقين في بيوتهم، أو الذين يحاولون الدفاع عنها، سوف يُقتلون في العملية’.
وهي، بهذا، أماطت اللثام عن المزيد من نزوعات وحشية، دفينة أو فطرية أو تلقائية، كانت تقود أمثال سائق البلدوزر الإسرائيلي الذي توقف عن أيّ اكتراث بمرأى الآدمي الشاخص أمام آلة الإحتلال، فلسطينياً كان أم أجنبياً، بافتراض أنّه ما زال يبصر فيه صفة البشر أصلاً!
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى