صفحات الشعر

رحيـل ريمـا كازاكوفـا.. بطريـرك الشـعر الغنائـي السـوفياتي

null
ابراهيم استنبولي
كانت الشاعرة الراحلة ريما كازاكوفا تعتقد أن: »الشاعر الحقيقي هو دوماً امرأة وليس رجلاً… لأن مشاعرها أكثر عمقاً ورهافة، ولأن المرأة أكثر حساسية تجاه كل شيء… كما أن نبرة الرحمة والتضحية والدفاع لديها أشد قوة ووضوحاً…«.
ولدت ريما كازاكوفا في ٢٧ كانون الثاني من عام ١٩٣٢ في مدينة سيفاستوبول، الميناء البحري العسكري السوفياتي سابقاً والروسي حالياً في عائلة ضابط.. ثم انتقلت مع العائلة إلى بيلوروسيا… لكنها أمضت طفولتها في لينينغراد حيث تخرجت من كلية التاريخ في جامعتها لتسافر بعد ذلك إلى الشرق الأقصى.. وهناك قامت بالتدريس وإعطاء المحاضرات، كما راسلت الصحف المحلية وعملت في دار إنتاج سينمائي.
كانت تعتبر الشاعرة ريما كازاكوفا من أكثر الشعراء السوفيات »الستينيين« شعبية.. وقد لقيت قصائدها قبولاً منقطع النظير لدى القراء والملحنين فقاموا بتلحين عدد كبير جداً من قصائدها. وقد صارت أشعارها مقررة للدراسة في المناهج المدرسية وكان الناس يحفظون أغلبها عن ظهر قلب..
استقرت كازاكوفا منذ الستينيات في موسكو حيث عملت منذ أوائل السبعينيات سكرتيراً أول لاتحاد الكتاب السوفيات. وقد لعبت دوراً كبيراً من هذا الموقع في انطلاق مهرجان الشعر بمناسبة ولادة الشاعر الروسي الكبير الكسندر بوشكين »أيام بوشكين«، كما أحيت التقليد القديم الذي كان سائداً أوائل القرن العشرين: الأمسيات الشعرية في معهد البوليتكنيك.. حين كان شعراء الحداثة الروس من أمثال بلوك ومايكوفسكي وبريوسوف ويسينين وأخماتوفا وغيرهم يقيمون مثل تلك النشاطات الأدبية. فكانت تعتبر بالنسبة لمن يشترك فيها من الشعراء الشباب بمثابة بطاقة سفر واعتراف في عالم الشعر.. كما ابتكرت فكرة الاحتفال بيوم بولغاكوف في منطقة باتريارشي (اسم المكان الذي جرت فيه أحداث راوية الكاتب الشهيرة » المعلم ومرغريتا«). وفي العقدين الأخيرين من حياتها قامت بتنظيم قراءات شعرية للشعراء الشباب مع نقاش وحوار طويل ونقدي بعدها.
عاشت الشاعرة في موسكو حتى وفاتها بتواضع الإنسان السوفياتي الكبير، وقد عبّرت عن ذلك مؤخراً بقولها: » أنا لا أريد لنفسي شيئاً.. ليس لدي سيارة ولا أملك فيلا في ضواحي موسكو.. وليس لدي أموال.. وليذهب كل هذا إلى الشيطان.. فأنا عندي الشعر والموسيقى…«.
من بين أهم مجموعاتها الشعرية نذكر: »هناك، حيث أنت« ،١٩٦٥ »أشجار الشوح الخضراء« ،١٩٦٩ »أذكر« ،١٩٧٤ »حبٌّ من طرف واحد« ،٢٠٠٠ »قصائد وأغان« ،٢٠٠٠ »على متاريس الحب« ,,.٢٠٠٢ الخ.
كانت أشعارها تتمحور بشكل خاص حول مواضيع خالدة وأنثوية مثل الحب والصداقة والإخلاص، كالأمومة والطفولة والحنان..
»أما عندي فإن الأمومة هي من أكثر الصفات الأنثوية نمواً ولذلك حتى الأزواج كانوا أطفالاً بالنسبة لي«.
تمتاز بطلة القصيدة عند ريما كازاكوفا بانتمائها لجيلها. إنها ذات شخصية متعددة الجوانب، حيوية وتلبي نداء الواجب وتولي اهتمامها لكل شيء.. وهي قادرة على مشاطرة الآخرين همومهم وحزنهم، كما أنها تجيد الإصغاء والاستماع، لكنها في نفس الوقت واثقة من نفسها ومن رسالتها…
١
أنا أشبهُ الأرضَ،
التي تمَّ إهمالها لقرون.
السماواتُ تعوَّدت عليّ
بصعوبة وببطء شديد.
لقد تعرضتُ لزخات المطر الغزير.
والشمس أحرقتني بالكامل.
والزمن بكل ثقله، كما لو جندٌ،
مرّ عبر جسدي.
لكن لأنني شببت نحو السماء بعناد وبثقة،
فقد أحبّتني الأمطار والرياح الشاردة.
أحبتني في أرضي الخالية الفقيرة.
وسمحت لي بالسير في دروبها المنحدرة.
إني أمشي دون أن أنحني،
ففوقي ما زالت سمائي ذاتها!
إني أغني وأضحك،
حيث الآخرون بُكمٌ بلا حيلة.
أمشي دون أن أنحني ـ
فتحتي أعشابي تلك ذاتها!
لا أخاف شيئاً.
إذ منحتُ الحق لأجل ذلك.
فأنا بين أشجار البتولا واحدة منها،
وبين كومات العشب والجداول المضحكة.
وجميع أحزاني تعالجها »مزامير الراعي « المغبرة.
لستُ بحاجة لأن أطلب لا المبيت، ولا الخبز ولا الضوء ـ
فأنا واحدة منها: الأحراج الصغيرة، خلجان النهر والأغصان.
و إذا ما حدثت مصيبة ـ
فسوف أخطو، وسأصرح باسمي…
فأنا واحدة بين الكل.
وسوف تستقبلني كل شجرة.
٢
أحببني
أحببني بحياء، أحببني بوجل،
كما لو أننا مُكللان من قبل
الله والناس.
أحببني بثقة،
كن قاطع طريق ـ
اقبض علي، اخطفني،
اسرقني!
أحببني بلا تردد،
عنيفاً، حانقاً…
أدرني برصانة، كما لو مجذافاً…
أحببني حباً أبوياً،
قم بتربيتي، بصياغتي..
كما لو في مقالة جيدة.
أحببني بشكل صحيح،
بعيداً عن التربية، بلا تخطيط،
بعيداً عن المنطق…
أحببني بعذرية، إلى الأبد،
وليكن حبك متناقضاً…
فسوف أكون صدى، شيئاً،
وسادة تحت المرفق،
مقعداً في الظلّ…
إذا أردت أن تلمسني ـ
فقط مدّ يديك!
سأكون ملكة ـ
لعند خصرك، عبدةً،
سأكون، aravella
في البحر ! وقد فرش السجاد…


اهزأ برفق،
دافع بحزم،
اغضب،
تفاخر،
تحامق…
فقط أحببني، أحببني…
٣
اسمع النبأ وكلّني غضب وحزن:
ففي الجنوب سخونة، وتزداد السخونة…
أشفق على أهالي الشيشان وعلى نفسي،
و ربما الشيشان أكثر شفقة…

فكم رحل منهم الكثير عن هذه الرحابات!
لذلك واجب أن نعمل شيئاً ما…
فمن هم أولئك »شعب الشيشان«
بزعامة عصابة خطاب؟

و في بيلوروسيا لا أفهم الكثير.
بل ولم يسألني أحد.
روسيا تستحق الشفقة كما هي بيلوروس.
لكن روسيا تستحق الشفقة أكثر.

سنفطس بينما يسمن البعض،
وقد تنزهوا بالمال، أصحاب الوجوه الدميمة…
فالقلب تعب من الحب والشفقة.
ومع ذلك لم ييأس بعد!

كيف يمكن اقتلاعه، الخنجر القفقاسي؟
بل مع السلافيين ثمة فتنة.
أشفق على نفسي وعلى وطني أشفق.
ولسبب ما أستحق الشفقة أكثر.

٤
عجوز تستلقي قرب الجدار:
أهو مرض القلب أم التعب؟
أم ينقصها نَفَسٌ لأجل الحياة؟
أم هي السنون والشيخوخة؟
لقد وهنَت روابطنا،
ولم يعد ثمة دفء لدى الناس.
وأصبحنا نمرّ بمحاذاة بعضنا
كما هم الفرنسيون إزاء بعض.
و في الآماد القريبة ـ
برودة بلا حدود.
هل هو اقتصاد السوق الشيطاني،
يا ترى، مسؤول عن كل هذا؟
و في المعابر ثمة أطفال يمدون أيديهم:
»أريد أن آكل. تصدقوا!«
فما الذي جرى في هذا العالم؟
هيا خمّنوا، أيها الناس.
لكن اللغز تخفيه المدينة.
وحده الكِذب، يُحمل إلى الخارج.
لعله الجوع حقاً،
أو إنه بكل بساطة »البزنس«.
بحيث إني فقدت القدرة على الشفقة.
أمر ليس بمكانه.
وبالتدريج أتحول إلى جزء من لوحة كريهة.
لقد داس الدب على الأذن،
وعلى القلب، كما يبدو…
عجوز تستلقي على الأرض.
والحـياة تجري بمحاذاتها بلا توقف.
تسمع ضربات ساعة الكرملين.
وعاصفة تهز اليابسة.
بينما الموسيقيون العميان
يمزقون شغاف القلب.
(كاتب سوري)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى