الأزمة المالية العالمية

الأيام السوداء في تاريخ الاقتصاد العالمي

كمال حميدة
التكاليف الباهظة التي أنفقتها الولايات المتحدة المتحدة خارج أراضيها في حربين متتاليتين ضد كل من أفغانستان والعراق لم توصد الأبواب نهائياً أمام الاستنجاد بالخزينة المالية أو المؤسسة البنكية الفدرالية لصرف مبالغ اضافية طائلة جرّاء الكوارث المناخية والهزات المالية العنيفة. بدا ذلك أشبه بناقوس الخطر يدق على الامبراطورية العظمى من الداخل، خلافاً لما جرى تداوله عن أن الاجهاد الأميركي في شن حروب عسكرية سيشكل الانحدار الحقيقي لبداية نهاية القطبية الأحادية بسبب السياسة الخارجية الاستقوائية. وفي الاطار ذاته، لا يمكن التغاضي عن أزمة الغذاء العالمية وتراجع أسعار النفط في المدة الأخيرة المعدودة بما خلفته من تأثيرات انعكاسية في أرجاء العالم، لا سيما في الولايات المتحدة. فبعض المصادر أشارت الى أن الأزمة الغذائية التي أضرت كثيراً بحياة الملايين في العالم الثالث كان لها تأثير فج أثناء النكسة المالية التي مني بها أحد البنوك الكبيرة في الولايات المتحدة يوم الرابع عشر من أيلول والذي اشتهر بيوم الأحد الأسود، بحيث يذكر أن افلاس “ليمان براذرز” وبيع “ميريل لينش” ناجم عن الرهونات العقارية في قطاع التسليف جراء انعدام القدرة على تسديد قروض لبيوت سكنية على خلفية غلاء الضرورات والمنافع الحياتية. أما سر عدم تأثر أسعار النفط بالافلاس المالي، وما تعرضت له من قبل الهجمات على التجهيزات النفطية في دلتا النيجر وكذلك الانقطاع المؤقت في انتاج نفط التكساس، فترجح بعض المصادر أن المصارف المالية تمول عمليات مضاربة في سوق النفط وراء شارة أعمال تجارية، علماً أن أسواق النفط تزايدت في المصارف الاستثمارية، هذه الأخيرة تحولت متعاملاً قوي النفوذ في أسواق الصفقات. والجدير بالاحاطة ان مصرف “ليمان” يمتلك 60% من أسهمه في أسواق الطاقة. وعلى صعيد الأزمة، وعن ماهية الأسباب الحقيقية وراءها تكمن في عمليات المضاربة الخفية في الأسواق التي غالباً ما تضر بسوق المال بسبب فقدان مردود انتاجها الاقتصادي، وذلك على غرار ما شهدته بعض الأزمات المالية السابقة.
بينما ترى الأوساط الخبيرة في القطاع المالي ان ثمة سببين قد يكونا مباشرين في تفجير الأزمة، أولاً: سوء التقدير في التعامل بأسهم المؤسسة المالية، إذ ان صناديق سيادية ومستثمرين كوريين عرضوا منذ حوالي الشهرين على “ليمان” شراء أسهمها بسعر 25 دولاراً للسهم، لكنها رفضت على أساس أن سعر سهمها هو 40 دولاراً؛ ثانياً: غياب الشفافية التامة في ملف الديون، بحيث يشاع أن إدارة المصرف العقاري أخفت بعض الحقائق عن الأرقام الفعلية للالتزامات المستحقة منذ أشهر.
هذا التهاون أدى الى إرباك مذهل بخسارة مقابل ما تمتلكه المؤسسة من أصول بقيمة 639 مليار دولار، فيما المطلوبات هي بقيمة 613 ملياراً. بالاضافة الى الخطة الانقاذية التي اقترحها الرئيس الأميركي جورج بوش، لإسعاف النظام المالي الأميركي بقيمة 700 بليون دولار التي ستكون أكبر من إجمالي تكاليف الحرب على العراق المقدرة بنحو 648 بليون دولار. مع أن هذه الخطة الانقاذية ستساعد أو تحد من الأزمة الناشبة آجلاً أم عاجلاً فقد تلقت مسبقاً ضربتين، أولاهما تمثلت بانهيار مصرف “واشنطن ميوتشوال”، وثانيتهما تعثر المشاورات بين الديموقراطيين والجمهوريين حول خطة التأمين على الأوراق المالية. وفي مطلق الأحوال أن الاتعاظ من الأزمات الاقتصادية العالمية من القرن الماضي لعلها تجنب العالم تكرارها والتركيز على الاستفادة منها.
الأزمة الاقتصادية الكبرى 1929:
تعرف بالانهيار الاقتصادي العظيم الذي شهده النظام الرأسمالي على مدى تاريخه. وهي في الأصل بدأت بانهيار في سوق الأوراق المالية في نيويورك. ففي 29 تشرين الأول من ذلك العام انهارت قيمة 16 مليون سهم نتيجة ركود أدى الى عرضها للبيع، ووصل الانهيار الى درجة أن بلغت بالدولارات 15 مليار دولار حتى نهاية العام. بلغت الخسائر في الأرصدة والودائع خلال سنوات الأزمة، أي حتى عام 1931، الى ما يصل الى 50 مليار دولار. علماً أن أسباب الأزمة ترجع الى ما يعرف بالدورة الاقتصادية في النظام الرأسمالي الذي تعرض لأزمات دورية حادة، ولكن مرد تلك الأزمة بالذات الى الجوانب القيمية في المجتمع الأميركي وانتشار الفساد. فقبل بداية الأزمة بأيام على سبيل المثال اتهم وزير الداخلية الأميركية “ألبرت نول” بحصوله على رشوة قيمتها 100 ألف دولار، وقد أدين فعلاً وحكم عليه برد الرشوة والسجن لسنة واحدة. كما أن الدوائر المصرفية كانت تتلاعب باقتصاد الدولة لحسابها بتهريب الأموال للخارج والمضاربات وغير ذلك. وفي هذا الصدد يرى بعض الخبراء في تلك الأزمة أن دواءها يكمن في تقليص السيولة. غيران هذا الاجراء أدى الى عكس النتيجة المرجوة وهي خنق الحياة الاقتصادية. أما بشأن تطبيق سياسة التوقف عن تصدير رؤوس الأموال الأميركية في خريف 1929، ما أدى الى تعميم خطورة الأزمة في الدول الأوروبية، إذ نتج عن هذه السياسة فقدان الأرصدة الكافية للوفاء بديون الدول المدينة للولايات المتحدة، ما لا يضطرها الى الالتجاء الى الاحتياطات الذهبية لتعويض النقص نتيجة تسرّب الذهب الى الولايات المتحدة إلا عبر استدعاء استثماراتها التي تملكها في الخارج. لكن هذا الاجراء لم يحد من خطورة الوضع المتأزم، إذ انتشرت بموجبه انكماشية في جميع أجزاء الجهاز الاقتصادي الأوروبي، فكانت أهم مظاهرها انهيار مستويات الأسعار وحجم التوظيف وإعلان حالات افلاس.
خلاصة الأزمة تبرز مساوئها في توقف الولايات المتحدة عن تصدير رؤوس الأموال الى أوروبا، ثم تبع ذلك خروج انكلترا عن قاعدة الذهب وخروج كل من كندا والهند ومصر والنرويج والسويد والدانمارك وفنلندا والبرتغال واليابان. ولم تحافظ الولايات المتحدة على نظام الذهب فخرجت عنه في 1934، ثم أعقبتها فرنسا 1936 وتلتها مباشرة هولندا وبلجيكا.
أزمة الطاقة:
شاع استخدام هذا التعبير بعد مطالبة الجماهير العربية باستخدام النفط كسلاح في المعركة مع العدو الصهيوني، قبل حرب تشرين الأول أكتوبر 1973 وإبانها، وقيام الحكومات العربية بالاعلان عن قطع إمدادات النفط عن الدول التي تساند العدو الصهيوني. وقد ساهمت تلك الحرب بتصحيح أولي لأسعار النفط بعد أن شكل تسعير الشركات الغربية لها أكبر سرقة استعمارية في التاريخ. وللاحاطة لم يكن الاعلان عن قطع النفط، أو رفع الأسعار، المحرك الرئيسي لأزمة الطاقة. فالى جانب هذين العاملين كانت هناك ظاهرة تناقص الانتاج النفطي لدى أكبر منتج ومستهلك لهذه السلعة وهو الولايات المتحدة. فخفض الانتاج وتصاعد الاستهلاك في آن واحد، بالاضافة الى الاعتبارات التكنولوجية، أدت كلها الى تفاقم الأزمة.
الاثنين الأسود 1987:
احد الادعاءات التي سادت إبان أزمة يوم الاثنين الموافق 19 أكتوبر عام 1987، أن الأزمة نشأت أساساً في أسواق رأس المال في الولايات المتحدة الأميركية، ثم انتقلت عدواها الى أسواق رأس المال في باقي دول العالم. ولقد أشير بأن حدوث خلل في التوازن بين العرض والطلب ليس في الأسواق الحاضرة فقط بل وأيضاً في سوق العقود المستقبلية. مرد هذا الخلل يرجع الى سيل متدفق من أوامر البيع لم يسبق لها مثيل. أما رد فعل السوقين فقد اختلف باختلاف أنظمة العمل في كل منهما. وباختصار، انتهى الأمر بهبوط الأسعار في السوقين رغم تباين الأنظمة المعمول بها في كل منهما. ففي بورصة نيويورك انخفضت أسعار الافتتاح التي بدأ التعامل عليها يوم الاثنين الأسود 19 أكتوبر 1987 بحوالي 10% عما كانت عليه عند الاقفال في يوم الجمعة 16 أكتوبر. وفي حوالي الساعة الحادية عشرة من صباح الاثنين بتوقيت نيويورك وصل التدهور في وول ستريت الى حدود الانهيار، بالرغم من أن السوقين استطاعا بنجاح مواجهة الخلل في التوازن، والتخلص من الكم الهائل من أوامر البيع التي تجمعت حتى لحظة الافتتاح. غير أن الامكانيات المالية لصناع السوق في كل السوقين قد نضبت أو كادت. وفي هذا الشأن انخفض في ذلك اليوم مؤشر “داو جونز” للمواد الصناعية بمقدار أفقد الجميع رباطة جأشهم، فقد تدنى المؤشر الى حدود 508 نقاط لتصل الخسائر الى 500 مليار دولار في يوم واحد. وذلك دون أية مبررات أو أسباب معروفة.
أزمة النقد الأوروبي 1992:
اتفقت الحكومات الأوروبية عام 1979 على ربط جميع عملات دول المجموعة الأوروبية ببعضها البعض عبر سعيها لإيجاد بديل ناجع، فتعهدت المصارف المركزية بحماية أسعار الصرف والاستعداد لتحويل الليرة الايطالية والجنيه الاسترليني والبيزيتا الاسبانية الى ماركات ألمانية بأسعار صرف ثابتة وفي كل الأوقات. لكن في أعقاب الوحدة الألمانية تصدع هذا النظام، بسبب اضطلاع ألمانيا بدعمها شقها الشرقي المفلس وعملت على توحيد العملة، فتوسع تداول العملة الألمانية الواحدة دون أن يقابل ذلك زيادة في المعروض السلعي والطاقات الانتاجية، مما زاد الضغوط التضخمية على الاقتصاد الألماني. فاضطرت لذلك المصارف المركزية الأوروبية الى رفع أسعار الفائدة من أجل تقليل التضخم، ومع ذلك لم تحل الأزمة إلا بعد سنوات. وفي عام 1992 تسربت معلومات مفادها أن المصارف المركزية في الدول الأوروبية التي لا تحظى عملاتها بثقة الجمهور قد استغلت قروضاً بالمارك الألماني لتعزز احتياطها من العملات القوية. تركزت الاهتمامات على الاقتراض بالجنيه الاسترليني مما أدى الى تزايد الطلب عليه يوماً بعد يوم، الأمر الذي دفع هذه البنوك الى شراء تلك الماركات من البنك المركزي البريطاني. وفي جميع الحالات بقي المضاربون على استراتيجيتهم في اقتراض الجنيهات وتحويلها الى ماركات حتى استنفد البنك المركزي البريطاني نصف احتياطه واستسلم للهزيمة. أما الفرنك الفرنسي فلم يقاوم طويلاً رغم الاعلان المشترك الفرنسي الألماني بأنهما سيحافظان على سعر الصرف لعملتيهما، إلا أن البنك كان يفقد حوالى مائة مليون دولار في الدقيقة الواحدة، وقد وصل إنفاقه الى 50 مليار دولار نصفها ديون. فاستسلم البنك الفرنسي للأمر الواقع، محملاً، الى جانب بريطانيا، المسؤولية لألمانيا.
أزمة المكسيك (البيزو) 1994:
قبل أيام من الاحتفال بأعياد الميلاد عام 1994 أعلنت حكومة المكسيك تخفيض عملتها البيزو بمعدل 10% من القيمة الجارية، الأمر الذي أثار نوعاً من الذعر المالي على مستوى أسواق المال العالمية. ثم باشر المستثمرون الأجانب والمحليون بسحب رؤوس أموالهم خوفاً من فقدان قيمة تلك العملة وتهريبها خارج حدود المكسيك مما أفقد البيزو 30% من قيمته خلال ثلاثة أيام. ونظراً لتخوف الولايات المتحدة من فقدان آلاف فرص العمل التي ترتبط بتبادلها التجاري، أعلن الرئيس كلينتون أن حكومته تساعد جارتها المكسيك لتخطي الأزمة، لضمان قروض بقيمة 40 مليار دولار. رغم ذلك تابع البيزو انخفاضه يوماً بعد يوم. ولما أعلن الرئيس المكسيكي أن بلاده أصبحت على حافة الهاوية باستنفاد كل الاحتياط بالدولار واستمرار هروب الأموال، مما اضطر الرئيس الأميركي التصرف بصندوق الطوارئ البالغة 20 مليار دولار، إلا أن هذا المبلغ غير كاف ما جعل الرئيس كلينتون يناشد صندوق النقد الدولي الذي وافق على منح المكسيك 7.7 مليارات دولار وهو مبلغ لم يكن كافياً لانقاذ المكسيك، وبعد جهود شاقة تم تأمين الباقي عبر مخاطرات إدارية بنكية بلغت حد 50 مليار دولار.
الانهيار المالي في جنوب شرق آسيا 1997:
لقد أجبرت حكومات نمور شرق آسيا من قبل الولايات المتحدة، وعبر سيطرتها على صندوق النقد الدولي، باتخاذ اجراءات تقشفية أثرت على الخدمات الاجتماعية، ما اضطر هذه الدول الى الاقتراض بمعدلات فائدة مرتفعة من البنوك الأوروبية واليابانية والأميركية، وقد أثر ذلك على أسعار العملات، وأدى الى افلاس واسع للشركات الآسيوية التي سارعت الشركات الأميركية عابرة القارات الى شراء ملكياتها بأسعار بخسة. وفي هذا المجال كشفت بعض الدراسات الآسيوية أن الدوافع المسببة للأزمة هي، أولاً: استغلال القوة العاملة التي تعرضت لاجراءات تقشفية صارمة عبر تطبيق برامج الاصلاح التي تبناها البنك الدولي، ثانياً: عاقبة الصراع بين الدول الرأسمالية تحملتها الدول الآسيوية عبر النهب المنظم التي تقوم به الشركات العابرة للقارات، وعن طريق محاولاتها لتعويض أي نوع من الاستقلال الاقتصادي، خاصة أن الولايات المتحدة عمدت الى تقاسم السيطرة على آسيا مع اليابان، ثالثاً: المديونية الخارجية التي تصاعدت في السنوات السابقة للأزمة والتي لم تستخدم لبناء الطاقة الانتاجية وإنما استخدمت في المضاربات العقارية والأوراق المالية.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى