قضية فلسطين

جرائم الحرب الإسرائيليّة بين «الفيلسوف الجديد» وناشط حقوق الإنسان العتيد!

عثمان تزغارت*
قضيتُ الأسبوع الأخير من العدوان الإسرائيلي على غزة في رحلة عمل بتونس. هناك، بعيداً عن «فم الذئب» الإعلامي الغربي، كنتُ أتقلّب باستمرار، كحال كثيرين، بين عشرات القنوات التلفزيونية، الغربية والعربية، متابعاً صور الدمار الوحشي والتقتيل الدموي في غزة، بمزيج من الأسى والغضب والإحساس الجارف بالمرارة والعجز. لكنني لم أكن أتصوّر أن المشهد الأكثر إيلاماً من كل صور الحرب، على بشاعتها، كان بانتظاري حين عدتُ إلى باريس، حيث تراكمت على مكتبي الصحف الفرنسية الصادرة على امتداد الأسبوع الذي قضيته بعيداً عن «فم الذئب»!
تناولتُ رزمة الصحف بين يديّ، استعداداً لتصفّحها. فإذا بها تنفجر في وجهي بعنف وبشاعة لا يقلان عدوانية وفتكاً عن صور القذائف الفوسفورية في سماء غزة. فتحتُ «الإكسبرس»، تلك الأسبوعية اليسارية المرموقة التي أُسّست في الخمسينيات، وكانت، آنذاك، الصحيفة الفرنسية الوحيدة التي فضحت جرائم الحرب الفرنسية في الجزائر، وكان بين أشهر كُتّابها: ألبير كامو، وجان بول سارتر، وفرانسواز جيرو، وجان دانييل. فإذا بافتتاحية لرئيس تحريرها الحالي، كريستوف باربييه، بعنوان «حرب عادلة»، يقول فيها: «إن إسرائيل على حق في خوض هذه الحرب في غزة. فهي تفعل ذلك أيضاً من أجل أمننا، ومن العار علينا (أي الأوروبيين) عدم الاعتراف بذلك»!
وفي صدر الصفحة الأولى لصحيفة مرموقة أخرى، هي «جورنال دو ديمانش»، مقالة لنجم «يسار الكافيار» الفرنسي، برنار هنري ليفي. وفيها يسرد «الفيلسوف الجديد» ـــــ كما كان يلقّب نفسه في السبعينيات ـــــ وقائع ومشاهدات أسبوع كامل قضاه بين إسرائيل وغزة والضفة الغربية، لينقل «شهادة ميدانية حيّة» عن الحرب.
هل استمع إلى أصوات الضحايا ونقل فجيعتهم وآلامهم، كما فعل (رغم المآخذ التي كانت تُثار دوماً بسبب ميله المبالغ فيه للمتاجرة بدماء ضحايا الحروب لاستقطاب أضواء النجومية) في البوسنة والشيشان وكوسوفو وأفغانستان؟ إطلاقاً! فـ«الفيلسوف الجديد» لم يكن مشغولاً خلال هذه الرحلة بنقل الوقائع وتصوير بشائع الحرب، بل كان كل همّه تلفيق «شهادة زور» للتستر على جرائم الحرب الإسرائيلية وتبريرها: ها هو يشرب كأساً، في ساعات الفجر الأولى، مع يوفال ديسكن، مدير جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي «شين بيت»، في مكتبه العسكري بتل أبيب. ثم ها هو يستمع، على مائدة العشاء، في القدس، إلى رئيس الحكومة إيهود أولمرت، وهو يشكو له «اللعبة المزدوجة» التي يلعبها الرئيس مبارك للتنصل من مسؤولية ضبط الأنفاق في رفح! وأخيراً، ها هو يلبّي دعوة وزير الدفاع، إيهود باراك، لقضاء السهرة في بيته، بعدما التقيا نهاراً في وزارة الدفاع، حيث قدّمه باراك إلى جنرالاته، أعضاء هيئة الأركان. وها هو جالس، دون أدنى حياء أو تأنيب ضمير، على أريكته الوثيرة، مصغياً بإعجاب إلى صديقه وزير الدفاع وهو يعزف على البيانو، مشيداً بمواهبه الموسيقية، فيما أصوات القنابل في غزة تصمّ آذان العالم!
طوال كل تلك الجلسات الودّية، لم يجد برنار هنري ليفي ما يعترض به على الخطط الحربية لمدير «شين بيت» أو على سياسات أولمرت أو تبريرات باراك بخصوص تحوّله من حمامة سلام في كامب ديفيد إلى صقر دموي في قاعة العمليات بوزارة الدفاع. لكن «الفيلسوف الجديد»، ينتفض فجأة للاعتراض، حين يلتقي في بيت رئيس الدولة، شيمون بيريز، بالكاتب الإسرائيلي الكبير عاموس أوز، مؤسس حركة «السلام الآن»، الذي يُوصف بأنه بمثابة «الضمير الحي للمجتمع المدني الإسرائيلي»، ويستمع إليه وهو يروي بألم ومرارة تلك الواقعة التي بلغته عن طريق نشطاء موثوق فيهم في منظمات غير حكومية غربية، عن تورّط الجيش الإسرائيلي في تجميع نحو مئة من المدنيّين الغزّاويّين في حي الزيتون، وأسرهم في إحدى البنايات ثم الإيعاز للطائرات الحربية بقصف تلك البناية عمداً. حيال غضبة عاموس أوز، التي أطلقها في حضرة رئيس الدولة، يتساءل برنار هنري ليفي كيف أمكن لـ«ألبير كامو الإسرائيلي» أن يقع ضحية الدعاية والشائعة؟ مضيفاً أن الشائعة هي أسطورة حاضرة باستمرار، كصخرة سيزيف، في التاريخ العبري!
وفي ختام «شهادة الزور» هذه، يروي «الفيلسوف الجديد» كيف سُمح له، رغم الحصار الإعلامي الذي منع الصحافيين من دخول غزة، بمرافقة دورية عسكرية إسرائيلية ليلاً إلى خان يونس. ليكتفي بتلك الجولة الليلية القصيرة على متن دبابة إسرائيلية، للقول إنه لم يجد على الأرض شيئاً ممّا كانت تروّج له «الدعاية الإعلاميّة» عن الدمار الكبير الذي أُلحق بغزّة، قائلاً: «ها أنا في شارع خليل الوزير. البنايات غارقة في الظلام، لكنها قائمة. والمتاجر مغلقة، لكنها لم تتعرض لأي نهب أو تدمير. ورغم كل الدعاية الإعلامية، لا شيء هنا يشبه ما رأيته من دمار حربي في غروزني أو سراييفو»!
بعد أربع وعشرين ساعة فقط من نشر هذه «الشهادة»، أُعلن وقف إطلاق النار، ورُفع الحصار الإعلامي الإسرائيلي، لتتكشّف للعالم أجمع صور الدمار البشع الذي لحق بغزّة وسكانها. لكن «الفيلسوف الجديد» لم يرفّ له جفن. بدل أن يراجع نفسه أو يقرّ بأنه لم يتمكّن من رؤية الحقيقة كاملة، تمادى في ذلك التعامي الصهيوني الذي يطبعه، بالرغم من اليسارية التي يتبجّح بها، مبرّراً كلّ الجرائم التي ارتُكبت بحق الغزّاويين العُزّل بأن «السلام سيُولد من وراء الدموع»!
مثل هذه الكتابات الصهيونيّة المسمومة، التي لا تقلّ عنفاً وإجراماً عن طلقات المدافع وقذائف المُقنبلات العسكرية، تلعب دوراً لا يمكن تجاهله في تنمية مشاعر معاداة اليهود، وتزايد حوادث الاعتداء على رموزهم الدينية في أكثر من بلد أوروبي. لكننا، هنا، لسنا على الإطلاق في سياق تبرير مثل هذه الاعتداءات المعادية لليهود. فهذه الأصوات الصهيونية المتطرفة، التي تؤيّد بشكل أعمى جنرالات تل أبيب، بالرغم من الهالة الإعلامية التي تحظى بها في الغرب، ليست سوى أقلية متطرفة غير ذات شأن، إذا قُورنت بالأصوات النزيهة والشجاعة التي تدين جرائم الحرب الإسرائيلية من منطلق انتمائها إلى الضمير اليهودي الحرّ.
فمن بين كل الأصوات، العربية والغربية، التي ارتفعت للمناداة بمقاضاة المتورّطين في جرائم الحرب الإسرائيلية بحق الغزّاوين، هناك صوت يهودي تقدّمي صدح أعلى من الجميع، بما له من ثقل ومصداقية لا يضاهيان: إنه ستيفان هيسل (87 سنة)، آخر الأحياء من بين تلك الحفنة الرائدة من نشطاء حقوق الإنسان الفرنسيين الذين اشتركوا، قبل ستين عاماً، في تحرير «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان»، الذي تبنّته الجمعية العامة للأمم المتحدة في باريس، بتاريخ 10 ديسمبر 1948، ليصبح بمثابة الوثيقة المرجعية العالمية في مجال الدفاع حقوق الإنسان.
وفضلاً عن ذلك، فإن ستيفان هيسل شخصية لا يطاولها التشكيك، ولا يمكن أن تنال منها الدعاية الصهيونية. فهو أحد الناجين من معسكرات الإبادة النازية، حيث التحق بصفوف المقاومة الفرنسية ضد النازية، وهو في سن السابعة عشرة، واعتُقل في محتشد الإبادة النازية في «بوشنفالد»، ولم تُكتب له النجاة سوى بفضل عمليّة فرار شجاعة خطّط لها على مدى أشهر، ونفّذها أثناء نقله إلى «أوشفيتز». وهو، قبل كلّ ذلك، يتحدّر من عائلة يهوديّة ألمانية شهيرة عانت تراجيديا المحرقة النازيّة (خُلّدت قصّة حبّ والدته هيلن غروند ووالده الكاتب الألماني الشهير فرانز هيسل في فيلم فرانسوا تريفو الشهير «جيل وجيم»).
بعد وقف إطلاق النار، طار ستيفان إيسل إلى غزة، رغم تقدمه في السن، ليشاهد رؤية العين آثار «جرائم الحرب» الإسرائيلية، مثلما زار جنوب لبنان بعد حرب تموز، وندّد بالدمار الذي ألحقه العدوان الإسرائيلي بلبنان. وقد عاد من غزة قبل أيام، ليطلق صرخة غضب مدوّية في العدد الأخير من مجلة «نوفيل أوبسرفاتور»، قائلاً: «إن عنف هذه الحرب فاق كل ما عرفته المنطقة من حروب، بما فيها حرب 2006 في لبنان. وبعد وقف إطلاق النار، أصبح بإمكان الجميع الآن أن يرى حجم الدمار الذي لا يُطاق الذي أصاب غزة. وهذا يملي علينا في دول الاتحاد الأوروبي مسؤولية مزدوجة: الإسهام، أوّلاً، في إعادة إعمار هذا القطاع المعذّب الذي تعرّض سكّانه المدنيون الأبرياء لأبشع أنواع المجازر. وثانياً، دفع إسرائيل للعودة إلى التفاوض الدبلوماسي، لا من أجل الهدنة أو التهدئة بين الجيش الإسرائيلي وحماس، بل من أجل إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. فإسرائيل عضو في منظمة الأمم المتحدة، وآن الأوان لإرغامها على تطبيق القرارات الأممية التي تقضي بإقامة دولة فلسطينية داخل حدود الـ 67…».
وبخصوص جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة، يقول ستيفان إيسل: «إن الأسلوب الذي تصرّف به الجيش الإسرائيلي في هذه الحرب، بلجوئه إلى استعمال الأسلحة المحظورة دولياً، مثل القذائف الفوسفورية التي تحظر معاهدة عام 1980 عن الأسلحة غير النظامية استعمالها ضد المدنيين أو ضد أي قوات عسكرية وسط مناطق مأهولة بالسكان المدنيين، هو أسلوب غير مقبول بالنسبة لأي دولة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة الملزمة جميعاً باحترام المعاهدات العسكرية والإنسانية الدولية. وبالتالي، فإن هذا يمثّل «جريمة حرب» يجب مقاضاة المتورّطين فيها…».
وردّاً على الدعاية الصهيونية التي تسعى لتبرير جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة، بالزعم أن الجيش الإسرائيلي لم يكن يقصف المدنيين متعمّداً، بدليل أنه كان يتّصل هاتفياً بسكان البنايات المستهدفة بالقصف لدعوتهم إلى مغادرة المكان، يذكّر ستيفان هيسل بالتعريف القانوني الدقيق لـ«جرائم الحرب» في التشريعات الدولية، قائلاً: «عدم وجود نية مبيتة ومقصودة باستهداف المدنيين لا يغيّر من الأمر شيئاً. فالجيش الإسرائيلي لا يمكن أن يقنع أحداً بأنه لم يكن يعرف سلفاً أن عمليات القصف ستصيب نسباً ضخمة من المدنيين والنساء والأطفال، في مقابل نسبة ضئيلة من المسؤولين العسكريين الحقيقيين الذين يسعون للتخفي وسط المدنيين ليفلتوا من القصف. وهذا الأمر يتنافى مع قوانين الحروب وأخلاقياتها. فالمواثيق الدولية تلزم جيش أي دولة تخوض حرباً باتخاذ قدر أدنى من الاحتياطات، لكي تدور المواجهات فقط بين مسلحين يقاتلون مسلحين آخرين، لا أن تكون حرب إبادة يقوم خلالها جيش نظامي بارتكاب المجازر وتقتيل المدنيين، بحجة أنه لا يستطيع إصابة الخصوم العسكريين دون إصابة الأطفال والنساء والمدنيين الأبرياء. مثل هذا المنطق العسكري في حد ذاته، سواء كان قصف المدنيين متعمداً أم لا، يعد كافياً من وجهة نظر التشريعات الدولية لكي تكون مواصفات «جريمة الحرب» وشروطها مؤسَّسة قانونياً. وهي جريمة لا يجوز أن يسكت عنها الضمير الإنساني. وأضيف، من منطلق كوني أتحدّر من عائلة يهودية، أنها جريمة تمثّل كارثة على القيم والأخلاق اليهودية، وتشوّه صورة اليهود عبر العالم…».
حيال مثل هذه الصرخة الشجاعة، التي تتحدى آلية الدعاية الصهيونية، لا يسع المرء إلا أن يُطمئِن ستيفان هيسل بأنه، مهما تمادت جرائم جنرالات تل أبيب، فإن القيم والأخلاق اليهودية وصورة اليهود عبر العالم لا يمكن أن تتأثر، ما دامت هنالك أصوات يهودية بمثل نزاهته الفكرية.
* كاتب وصحافي جزائري مقيم في باريس
الأخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى