صفحات مختارة

صفات الكاتب … صفات المثقّف

دلال البزري
“لماذا لا يقرأ العرب؟” سؤال مكرّر منذ عهود. ولأجله إنعقدت ندوات ومهرجانات، ومعها فعاليات صاخبة متفجّعة، لا تكلّ ولا تملّ: التلفزيون، الأمية، الكسل الخ. وهوَس لفظي بالسؤال وبالإجابة المهرجانية، كالمطرقة… تمنع الأسئلة الاخرى. مثلا، من قبيل: لماذا، لو كان القارىء يتّقن لغة أجنبية، يفضّل عموماً قراءة ما كُتب بالأجنبية على ما كُتب بالعربية؟ ولماذا هذا الدافع للقراءة بالأجنبية تجده قوياً لدى الأطفال والمراهقين، ببراءة، وبلا خجل ولا تعال؟ كما يفعل “الكبار” في الصالونات أو الاجتماعيات؟ الذين يغمرهم الخجل من عدم قراءة كتاب ذكره احد روادها، أو الذين يفخرون برطانة العنوان او الاسم الاجنبي وسط هؤلاء الرواد. اذن هؤلاء الأطفال الذين يتْقنون لغة أجنبية يفضلون، عندما يقرأون، القراءة بالأجنبية لا العربية.
الجواب المحزن، اذا وضعنا بعض النصوص المعدودة، الاستثناءات التي تؤكد القاعدة المعمول بها… ان غالبية النصوص العربية أقل جاذبية من الأجنبية بالرغم من جماليتها الانشائية، وأقل اصالة بالرغم من تلطيّها خلف التراث، وأقل نداوة بالرغم من راهنيتها الشديدة، وأقل نفعاً بالرغم من “ينبغياتها”، “ينبغي…”، ومن حمولتها المثقلة بالحلول الشاملة والناجزة.
وبعد ذلك، ينتقل السؤال: لماذا النص العربي المعاصر، الممْتد من الأدب الى البحث الى الاعلام، لا يتمكّن جذْبنا اليه؟ ويخطفنا منه النص الغربي، الاجنبي؟ لماذا نقرأ بالعربي كمن يقوم بواجب معرفة أهل الدار؟ لا كمن يستمتع بكلمة تلخص عوالم، أو تفتحها على الأفق، أو تبعث السرور الذهني، أو تسبح في الجمال المجرَّد أو الملموس؟ ومتعة لا تنتهي، تخرج منها كما كان يقول الأديب الروسي ليون تلستوي :”أكثر تعلّقاً بالحياة، أكثر حبا لهاً”؟
ولكن هذا موضوع آخر. فنحن الآن بصدد سؤال: لماذا يتفوّق النص الأجنبي على النص العربي؟ أو اذا شئت، المزيد من السؤال: لماذا يتفوّق المثقف أو الكاتب الاجنبي على المثقف أو الكاتب العربي، من ناحية نوعية انتاجه أو نصه؟ هنا يفتح الباب واسعا أمام الإجابات المتعاطفة، الباكية على المثقف: المثقف والسلطة، والمثقف والدين، والمثقف والرقابة والحرية الفردية والابداع… وكلها عناوين عريضة أشبعها المثقفون بدورهم مؤتمرات وفعاليات؛ وكانت نتيجتها رضا بالغاً عن ذات المثقف، الذات الضحية، ضحية الدين والسلطة والقمع، مما سمح للضمير أن ينْبسط، فيتراخى الكاتب عن مسعاه الاعلامي أو البحثي أو الادبي. تماما مثل ما هو المجتمع بأسره: ضحية الامبريالية والصهيونية والدولة الخ. ليس مسؤولا بالتالي عن انفعالاته أو تشنّجاته أو كسله “الذكي” الممْتع. المثقف-الضحية مثل المجتمع-الضحية، يتراخى. وأول التراخي يطال القراءة نفسها.
لماذا لا يقرأ المثقفون؟ قبل السؤال: لماذا لا يقرأ المواطن العربي؟ المثقفون العرب في غالبيتهم العظمى، ودائما مع الاستثناءت… لا يقرأون. بعضهم دشَن صراحة عهد التوقّف عن القراءة، بإعلانه بفخر عن “ممانعته” للقراءة. أديب عربي كبير في مقابلة صحافية، يعتزّ بعدم الرغبة بالقراءة، أو الاهتمام بما يكتبه الآخرون بغية التأكيد ربما على ندْرة تجربته الأدبية وخلوّها من أي تأثير، غير موهبته الفذّة. كاتب آخر يكتب محرّضا على الثقافة. وعندما يقوم ببعض الواجب، فيقرأ ويدلي أمامنا بما قرأ، لا تحضر في جعبته غير ترجمات ملخصات لأعمال أجنبية بائتة منذ دهر. أكثر من ذلك: الكاتب الذي يعلو شأنه وتقوى شكيمته لا يستغني عن القراءة فحسب، بل عن الكتابة ايضاً. يصير مثل الرؤساء او الزعماء الذين يستكتبون “عبيدا” يكتبون خطبهم ومداخلاتهم أو مذكراتهم. هكذا يصيرون: أشبه برؤساء فاعلين أو متقاعدين، يوظّفون او يكلّفون من يكتب بإسمهم. والنكتة الذائعة عن احد رؤساء تحرير صحيفة عربية كبرى: عدد كتابه أعلى من عدد قرائه! هذه أمثلة ظاهرة، تحفل بها “الساحة” الثقافية؛ وتمتلىء بالمطوّلات…
الكاتب العربي ودّع “الهامشية” المحرِّرة والمتحرِّرة من الأطر والمواقع والحسابات والتصنيفات… ودّعها قبل ان يقطف حريته منها. الآن لا يطيق الهامشية التي باتت تعني له عدم الظهور بالصورة او بالاسم؛ أي عدم الاعتراف اولا، ومن ثم العزلة والعوز… وهو، أي الكاتب العربي، لم يتسنّ له أيضا إختبار صيغة “العضوية” مع مجتمعه أو محيطه، “المثقف العضوي” (العزيز على قلب الفيلسوف الايطالي انطونيو غرامشي)؛ كان في حقبة ما مثقفاً “عضوياً” بحالة جنينية، وقد تحول مع الوقت الى مثقف حزبي، أوشبه حزبي، متفرّغ براتب وعطاءت وامتيازات واعترافات وحمايات. ولا هو بطبيعة الحال خلُص من تجربته الفاشلة مع صيغة المثقف” الملتزم”: كأن يشذّبها من السياسة المباشرة ويحولها بكيمياء الاجتهاد الى صيغة المثقف الملتزم وجودياً أو إنسانياً، بمعنى التزامه بكتابة نص من دون غشّ، من دون إنتحال، من دون تزوير.
خذْ مثلا الأدب الخاص بالسير الذاتية، او بما يستوحى منها. باستثناء النوادر، هو في الواقع للحجب المنهجي لكل ما يمسّ هذه السيرة من إنعدام الدور أو الموقع أو العيب أو الخطيئة أو الخجل. اعترافات كاذبة في غالب الاحيان، مغرورة، يجنح صاحبها نحو عشق نفسه؛ وتكون سيرته في هذه الحالة عبارة عن تعداد مواقع التفوّق على الآخرين، وأمجاد الخوض في الأدوار التاريخية المشتهاة. لماذا لا تفصح السيرة عن صاحبها؟ ألف حساب وحساب، ألف رقابة ورقابة، يبدو وسطها الرقيب الشرطي حملا وديعا لو قورنت رقابته بالرقابات الاخرى. وقراءة النصوص المكتوبة بهكذا أقلام تكون فعل ملَل. والملَل كما هو معروف عكس المتعة، التي ما من أحد إلا ويرغب بأن تدوم، خاصة اذا كانت روحية… اما السيَر “الجذابة” من بين هذا النوع من “الأدب”، فهي تلك التي “تبوح” بأسرار، هي أقرب الى النميمة. والنميمة جذابة، لأنها تفصح عما هو ممنوع شيوعه. ولكن، هل تحتاج مكتبتنا الى نصوص من النميمة؟ ونحن متخمو نميمة؟
أكثر ما هو شائع بين الكتاب، في شفاهتهم خاصة، هو هذا الفصل الذي تجده مطبوعا في أخبار فناني العصر: المطرب “الذكي”، و المطرب “الساذج”، (أو بلغة أقل تهذيبا المطرب “الأبله”). الفرق بين الفنانَين، ان الاول عرف كيف ينتج ما يجذب العدد الأكبر من الجمهور؛ بنوع الاغنية أو بطريقة التسويق لها؛ الذي “فهم” مزاج الجمهور وقدم له ما يدغْدغ أحاسيسه الفنية، وتبحّر في ُطُرق الانتشار لنفسه ولصورته. اما الثاني، “الساذج”، فتكْمن بلاهته في انه يبقى ماضيا في مشروعه أو اسلوبه أو تطوره، فلم يفهم تمام ما يريده الجمهور الواسع ولا كيف يجعله يبتلع انتاجه الفني. الصيغة البيانية في الفصل بين “الذكي” و”الساذج” من الفنانين، تنطبق على الفصل إياه المعتمد لدى الكتاب والمثقفين. “الذكي” من بينهم هو الذي نجح في إنتاج نص يرضي جميع الاطراف التي تؤثر على عمله أو ترقيته أو إنتشاره أو إجتماعياته أو تمويلاته الخ. “ذكي” بمعنى جمعه بين اطراف هذا الجمهور غير العريض من “الداعمين” وكتابة رسائل الإطراء الأنيق. أما “الساذج”، فهو الذي يكتب على هواه، لا يرى في ما يكتب غير موضوع ما يكتب، الذي يعتقده كذا او كيت، بالذي يحيَره أو الذي يحثه على اليقين. اي أنه يوظف قواه العقلية والذهنية كلها في الاتجاهات المتعددة التي تسمح له بالنطق الكتابي… و”السذاجة” في هذا المطهر، هي فعل حرية الضمير، قبل حرية التفكير، وقبل الحرية النسبية التي تمنحها لنا أوضاع الكتابة، كل موقع بموقعه. غالبية كتاب نصوصنا العربية من “الاذكياء”. شخصيتهم أكثر جاذبية من إنتاجهم.
هذه زاوية نظر من الأسباب التي تجعل القراءة بالعربية تحديداً عملية مهجورة من غالبية منتجيها، القراء الأول المفترضين: “لماذا لا يقرأ الكاتب العربي؟”. ومن بعدها نطرح السؤال على المواطنين.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى