جهاد صالحصفحات ثقافية

حين تتوسّد الرّوح رماد الليل

null
جهاد صالح
الليل يحمل في سواده شهوة لأشياء كثيرة ، قد يكون الملتقى والفسحة لتعب طال مسحه بيد متعبة،أو لحظة زمنية لخلوة يفضفض الإنسان عن روحه الهرمة ويحطم سلال الحزن الجارفة. لكن الشاعرة الكويتية \ سعدية مفرّح \ تغازل اليقين في أثوابها السوداء، وتحمل ألوانها الكلامية ما بين ابيض، وما بين اسود دافئ ولزج. تفتح نوافذ القصيدة في شجا الليل وتنتظر الملائكة لتهبط إلى الأرض، على أمل أن تسمع عويلها الأنثوي والألم الإنساني المتعدد الأنجم والأزاهير ، حين تهدأ الأرض ويسكن الكون صمت رهيب وموحش.
تقرع أجراس الكلمة، لتزف الروح نشيدها ، ما بين الموت والحياة، ودمعة واحدة كانت هي أسطورة المرأة ( الجرح) في صرخة الحياة السرابية :
آنتِ أيضا … مثخنة بجراحات النسيان الدامية \ بذاكرة متخمة بالوله المستكين \ وبعينين منطفئتين إلا قليلا \ فلا تأبهين بالضوء \ إذ يتشظى منكسرا في لمعة عينيك الدامعتين \ تكتملين في دائرة المعنى \ تحاولين أن تكوني المرأة الأولى والأخيرة \.
صفحاتها كانت هادئة وهائمة بوجدانيات مضيئة لأمرأة تشع من أصابعها حبر يسيل في مسامات الأعماق النائحة، ليظل كبريائها نارا تحرق حطب السنين، كغيمة تمطر دمعا، وتاريخ معاصر يتمزق في هواء الشمس، تحمل رغم الغبار والأتربة العاصفة مسودات القصائد الأولى والأخيرة، وعلى رائحة القهوة، وذكورية المعاني،حين تفرش كل شيء ، لتنتهي في عيني ومدارات ذلك الرجل الذي ضجت به الكلمات :
في خضم الرجل الأول والأخير \ في ليلها المشغول بالفتنة والأحلام القصوى \ ومصير أي امرأة وحيدة \ في فراغ الكلام الكبير \ تصمتين قليلا \ قبل أن تكملي سحر القصيدة \ على سرير الدهشة والملكوت \ تكتملين بالكتابة والكلمة واللون الأسود \ ثم تقترحين له أجمل قصائده \ قبل أن ترتبي له غيم الكلام \ .
سعدية مفرّح أعلنت عن انكسارات مؤلمة، وعذبة،بدت كأحصنة متلونة تسابق الريح إلى نهاية العدم، ولكن لم تستطع أن تنشرها في وجه الشمس ذات نهار ضاحك ومستهزأ ، فأولجت بحملها وقصائدها وأفكارها في جسد الليل الفاتن، حين يخفي عن العيون كل الأسرار الموسومة بالفرح والحزن معا … وتخبز خبزها الأول على وهج ضوء القمر، وتسير مع قطعان أيائلها الجميلة، وبعينين حالمتين تسرد حكاياتها الإنسانية عبر مساحات الصوت والصمت وملاحقة غزلان الحلم المنكسر في أشرعة ضباب الزمن:
حلولك في جسد اليقين \ سماؤك الأولى \ حيث تبدئين رحلتك السرية في قفر ما \ بذلك القميص الموشى بالزهور الزرقاء \ في متاهات القوافل العابرة للتاريخ \ دون أن تدركي تماما \ من أين تبدأ قافلة النساء رحلتها نحو ارض الأنوثة \ فللنساء حيلهن السرية \ ملفعة بالأسود القاتم  رغم أناقته المستعارة \.
اتسمت لغتها الشعرية وطقوسها في صلاة تمحورت ما بين قصيدة الرجولة، وقصيدة الأنثى التي تجري في هرولة حمراء نحو عوالم الغواية في عيني الرجل الإله ، ولتعبّر بذلك عن الفجوة الهلامية والجوع العاطفي ، ما بين مجتمعات شرقية ذكورية ، ونساء هن قصائد في تخوم الرجال. ورق أصفر وصفحات خريفية غلب فيها الرجل الحلم في طغيانه على كل شيء، لتنصب الحروف في نهاياتها المتأسية على ظلال اللوعة والحب والشهوة المسروقة، والأماني والغايات المنسوجة في أعماق كل امرأة تتجمل وتتغنج بكبريائها العذب، لتكون في البدايات والنهايات وسريالية المعاني داخل دائرة كونية واحدة، حيث الأنثى الأولى والذكر الأول :
في سريالية الشعر \ حيث التوق المتبدي في الهزيع الأول من الليل الأول \ كانت البداية \ أو لعلها البداية المؤجلة \ منذ الأزل \ حيث الأنثى الأولى \ والذكر الأول \ حيث صوت ريح تخفق بين التواريخ \ ونواح حمائم تستشرف الغيب \.
صور شعرية حزينة جدا،وخيالات تهشّمت في صوت الريح وصداه، ليتحول إلى زجاج مكسور لحزن أنثوي لا يتراجع، ولا يختفي، رغم وحشة الليل وسحره المفتون ، لتحكي للعابرين والعابرات في ذلك الطريق المهجور، لكم هو مؤلم واقع المرأة في ظل حطب الحياة المحترق ، وخلف أسوار البيوت الصغيرة. من صمت قبور البراري تخرج الشاعرة عن صمتها الأزلي ولتنفح ما في فيض ذاكرتها ، بشجاعة مؤلمة، تقتنص اللحظات والمساحات الخالية وتوصل بالعدم إلى الحقيقة ، والنهايات الجريحة لنساء الأرض والسماء، حين يتحدث الحلم المنسي عن آلامه الأنثوية خارج حدود الكلام المعلن والمرئي :
في قاع القلب لذاكرتك \ حيث تحملين ذاكرتك \ تعويذة للموت الأتي \ لنزقك البّين \ الشاعري  وحده \ لوجعك المستتر بين الضحكات المتنامية سرّا وعلانية \ لقيامتك المتكررة \ في كل هزيع أول من ليل أخير \ لقيامتك الأبدية \ في كل قميص جديد \ تلبسينه تحت أسودك الأبدي \ درعا ضد القتامة والهواء الجاف \ وجدارا بينك والتاريخ القديم بخرائطه المشوشة \.
عبر أقداح المعاني المتراكمة، وعلى صهوة العمر المتجاذب ، تولول وتصرخ سعدية مفرّح في وجه الزمن الآيل لتمثال مثلج ، عبر ليالي الساحات العامة لتنسج لقرائها عبر قصائدها المتلاطمة، عن وحشة الروح حين تتحدث عن أنثى الحياة، في جماعات ، تبكيهن المعاني والكلمات والعيون المليئة بالآهات وظلم الزمان، حين يفرش كل شيء في سبيل < آدم> ولتتحول إلى أيقونة جميلة تتراكم في أضوائها اللقاءات المقدسة ، لتكون العناوين على جانبي الطريق حكايات أنثوية مؤلمة وشهية معا، في معادلة حياتية لايمكن للمنطق وللعدم معا تغييرها.
الشاعرة الروحانية فسحت بين صفحاتها الحزينة مساحات شاسعة للغة الجسد بكل معانيه الافتراضية، ورموزه ما بين الماء والنار، وما بين البراءة والخطيئة ، وأزالت الورق عن غياهب الجسد والروح ،ليصبح مكشوفا في مواجهة الضوء الأول وشعاع الحكمة المكتمل، لتعلق على هوامش المخيلة صلصال  الجسد واندفاعاته المادية والمعنوية ، ضمن يوميات الحياة ومرآة الزجاج التي تعكس كل لحظة ،وما نحن ، وما ستكون صورنا وظلالنا وحلمنا وتعابير الوجوه الدقيقة :
أجسادنا هي نحن \ إيجازا واسترسالا \ وحدة وتعدادا\ سكونا واندفاعا \ صخبا وهدوءا \ نتوحد بها \ فننتهي إن تلاشت بين تضاعيف الموت \ ونبدأ إن انتعشت بين يوميات الحياة \ ولكننا ننفصل عنها أيضا \ فننظر إليها في المرآة \ لنكتشفها عبر تفاصيل الوجه \ في ملامحه المتغيرة \ يوما بعد يوم \  في فيض الصورة المحبوسة بين أضلاعه\ ينهض جسدك من هدوئه إذا \ بل ينهض من موته\ عبر بيت شعر جميل\ أو ربما عبر صورة غائمة الألوان .
هكذا كانت الشاعرة حلما وجسدا وروحا ،تنزف جرحها في خيالات الليل المنسوج بالفتنة ، لينصهر كل شيء في حمأة الأحزان الروحية والجسدية، حين يتعثر الكون في فيض المعاني وانكسارات الإنسان،عبر وجع جماعي وحلم يتحرك باكيا في غمار الدهشة.
ورغم اللوحة الجريحة لأنثى الكلام والقصيدة، لم تستطع هي أن تخرج عن نزيف التعابير ،في إسقاطات لغوية أنهت كل شيء في حرير مرقط بريبة الحزن واليأس، والعطش للحب والأمل رغم كينونة سراب الماء، لتظل هي الشاعرة في شعرها وقصائدها المنثورة كالورد والرمل الذهبي، مأخوذة بابتسامة أخيرة، هي الجرح والحزن والألم والدهشة الأنثوية المعلقة على مقصلة السؤال الخجول،بين موت هو حياة،وموت آخر يخفي في ثوبه قلبا ينبض بالقيامة حين عويل الروح والجسد الفياض بجمر الذاكرة :
تغامرين بالسكينة والسكون \ فتهاجمك طيور جارحة \ نهشا لبقاياك \ تروحين وتجيئين \ تروحين \ تموتين لعلك تموتين \ مدججة بقلب حي .
ليل مشغول بالفتنة \ شعر \
المؤلفة: سعدية مفرّح
إصدارات: دار ” مسعى” في الكويت بالاشتراك مع الدار العربية للعلوم ناشرون. بيروت
طبعة أولى 2008 \  .
صحفي وشاعر
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى