صفحات ثقافيةعلي جازو

بــاب الحــارة.. الحقيقــة كخــداع شــامل

null
علي جازو
ما سر هذا المسلسل، لا أحد يضيع حلقة من حلقاته حتى جزئه الثالث، واعداً بما يليه، ومكرراً حكايا البيت والكنة والدرك والعكيد (زعيم الحارة الشجاع والكريم) ملتمين متشابهين، كأنهم أبناء الثبات الحصين! ما سر قوته ونفوذه الجماهيري؟ لكأن السوري كاتباً ومخرجاً وممثلين ـ قطراً من جملة أقطار أشقائه المحبين ـ يعثر فيه على خياله، بلا خدش ولا تبدل ولا تأثير، صافياً صرفاً متماسكاً على نموذج لا يحيد قيد شعرة؟! الحارة هي القلعة، هي الحقيقة أصلية ومنزهة ومجردة مما يخالفها، الحارة هي النموذج يخلق منه أبناؤه وبناته ما يوافق النموذج ويلبي وساعته ويؤبده على صورة لا تعرف من الوجه غير القناع ومن البيت غير (الباب) ومن الذاكرة غير الأمثولة ومن الخيال غير التحجر. تقوّي الحارة من حس التضامن، لكنها في الآن تقفله على كل ما هو متوقع وأثير، ومعروفة طرق معالجته وتدبيره. النخوة حاضرة، والتعاضد كلمة على كل لسان. ما يفتقد من باب الحارة هو الصامت واللامرئي، فالعادات كيفما قضت ونظرت وسمحت، على تصويرها ونسخها تخفي كل شيء تحت ركامها الصوتي، لفظاً يؤيد الشائع والرائج على منوال يجعل من العادة المعيار الكامل والوحيد. من يخرج من العادة يخرج من البيت ومن يخرج من البيت يخرج من الحارة ومن يخرج من الحارة يخرج إلى فضاء اليتم والضياع. فلا يخطرن ببال أحد أن يتجاوز الحارة لأنه بذلك يحرم نفسه من البيت والأمن والراحة. الحارة هي الفضاء الأوحد، يمتص ويخضع وينهي الوقت والأفراد على توافق أو إخضاع بلا نظير. الحارة مغلقة وأهلها (لا يستقبلون من العالم شيئاً ، ولا يوجدون فيه شيئاً، ولا يمتحنهم من العالم شيء). لا إلغاز ولا شبهة ولا خيط أرق آخر. الوضوح تلو الوضوح والنصيحة عين النصيحة والأمثال شواهد تفحم من لا يثق أو لا يؤمن أو لا يهاب الأمثال. عيشي أيتها الحارة ولا تتمدني، اصرخي وغني وتناسلي ولا تخشي شيئاً أبداً. قومي وعودي وتبختري واصنعي، فالحاضر يؤكدك ويثني على ما كنته، الحاضر يتمناك لو كنت حاضره الحالي، يتمناك ويتخيلك لا في الماضي فقط، إنه يريدك ويحبك الآن وعلى الفور دون شرط، وهو لذلك يصرف من وقته وماله وخبراته وذاكرته وصبره ودهائه ـ على حال أنها الذاكرة مزيج من الصبر والإيمان والحنين ـ عليك ما تشائين من الوقت والحظوظ والدعم. أنت الرمز الشمولي، أنت توحدين ولا تضمرين غير الخير. وبما أنك كتبت بهذا الصدق والانفعال الشديدين، فإن إعادة خلقك ـ صورة نقية وكاملة ـ لا تقبل الدحض ولا الشك. وملاحظاتنا حولك ومراقبتنا لك لا تكمن في تأملك ولا تأويلك أو تفسيرك، ما دمت قد خلصت من المشاعر كلها، عرضتها متأججة ومشبعة وكاملة. ما دمت من لحم الذاكرة الحية النابضة، فمن يمكنه تجاوز لحمك إلى روحك، ومن يتخيل ـ مجرد تخيل ـ إن كان لك روح أخرى؟! الحارة تضغط الزمن ولا تعجل في نموه. إنها تحبس المتخيل في الحركة الواحدة، والحركة في النهاية المرجوة الممنوحة؛ فالوقت، كالمعاني، ملك الجميع وطوع نيلهم. وما الداعي إلى تنميته أو تجاوزه أو إلغائه، هو سينمو من تلقائه، فطرة ونباهة وحساً سليماً. الأفضل هو إرجاؤه الدائم، الأفضل هو حبسه واكتنازه وجعله المحور والحلم، التكرار والوهم. أهم كذلك حقاً كانوا أهل الشام. نشعر بالحرج من الوقوف والنظر إلى عمل رديء كهذا. وحال العمل من حال قوة الرمز، وما للرمز من قدرة وحشية وإلغائية على التوحيد الكلي، التوحيد الذي لا يعرف للزمن تأثيراً ولا للرأي تغيراً. لكنه مسلسل حقيقي، وإرادة الحقيقة فيه هنا ، هي أسوأ إرادة للخداع الشامل؟ ذلك أن الحقيقة ثبتت حصينة وينبغي على الدوام الدفاع عنها وإعادة تكوينها وتأبيدها. لكن هل ثمة من حقيقة في الفن؟ وما الخيال حينها إذا كان النموذج قد حذف كل خيال! وإذا كان دأبنا دأب (الحقيقة التاريخية) فلمَ لا نحوّل التلفزيون هنا إلى مدرسة إلزامية أو لمَ لا نعتمد مناهج التدريس الإجبارية الرثة بدل السيناريوهات المفبركة الجاهزة.
(كاتب سوري)
السفير الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى