صفحات ثقافية

الروائي السوري فواز حداد نعيش عالما منافقا وجائرا يمعن في الابتعاد عنا

null
أنور بدر
فواز حداد كاتب متميز له مجموعة قصصية واحدة وثماني روايات، لم تمر أي منها بصمت، مع أنه من أقل الكتاب بحثاً عن الأضواء أو سعياً وراء شللية تسوّقه، إذ يترك لإبداعه مهمة نسج العلاقة مع القارئ الذي لم يخيب ظنه قط، فأعماله الأولى أعيدت طباعتها ما بين 2004- 2007 .
يبدو فواز حداد في إبداعه كما في حياته أميل إلى الهدوء والصرامة في تعامله مع حرفة الكتابة، لا يكرر نفسه أو موضوعاته، رغم أنها تبدو في تسلسل حبات العقد المعلقة على جيد فتاة حسناء، لجأ إلى التاريخ ليضيء الحاضر، وكتب عن مدينته التي أترعت بالفساد والمؤامرات لكنها ما زالت قادرة على احتضان الجميع. فلمدينة دمشق حضور في روايات حداد ينداح من الذاكرة والوجدان إلى تفاصيل الواقع المعاش منذ بدايات الحرب العالمية الثانية وحتى اللحظة الراهنة، حضور يتشظّى في علاقتها بالزمن والشخصيات، دون أن يتخلى عن إيمانه بموضوعه ولغته وذاته كروائي، قد يخاتل قارئه بحبكة بوليسية، قد تتعدد سويات الخطاب لديه، قد يتداخل الزمن، قد تتوالد القصة من أحشاء أخرى، لكنه في كل ما يكتب هو الفنان المبدع الذي يدأب على مزج ألوانه بحرفية عالية، واستخدام أدواته بمهارة أهلته أخيراً ليكون أحد ستة روائيين عرب يتنافسون هذا العام على جائزة ‘بوكر’ العربية.
على هامش هذا الترشيح التقت ‘القدس العربي’ بالروائي فواز حداد في حوار نعتقد أنه مشوّق ويضيء جوانب من شخصية الكاتب وإبداعه:
منذ بداياتك الأولى في ‘موزاييك دمشق 39′ و’تياترو 1949’ كان التاريخ السوري المعاصر، السياسي والاجتماعي، حاضراً بقوة في نصك السردي.
يبدو أنني كنت أبحث عن نقطة بداية، لم يخطر لي هذا اعتباطاً. ما يجري من حولنا يملي علينا أن ندرك أين نقف، والتساؤل: إلى أين نحن متجهون؟ وهذا ما استدعى أسئلة: ما الذي جرى من قبل، لماذا وصلنا إلى هنا، ماذا يعني هذا ‘الآن’ الذي نحن فيه ونعاني منه؟ لم اذهب بعيداً، عدت إلى سورية عشية الحرب العالمية الثانية عام 1939، الانتداب يترنح، الغليان الوطني، الخلافات بين الأحزاب، الآمال كبيرة والخيبات أكبر، مع الكثير من الأحلام. تلك سنوات ما قبل الاستقلال، سورية تستعد للنهوض. من خلال هذا المشهد في روايتي الأولى ‘موزاييك’ نشهد بدايات نشوء العسكرتاريا من جيش الشرق، جيش الانتداب الفرنسي، المهد الحقيقي لقائد الانقلاب الأول حسني الزعيم.
من هذا المشهد، قفزت إلى المرحلة التالية، عام 1949، المفصل المؤسس في التاريخ السوري المعاصر، إثر هزيمة عام 48: الانقلاب على الاستقلال والديمقراطية الوليدة، وانعكاسه على المجتمع والسياسة والثقافة والفن. وسرعان ما اكتشفت الأحزاب هذه المعجزة الدراماتيكية في التغيير، وأصبحت روتيناً في حرق الزمن، فأخذ الساسة يتجيشون ضد بعضهم بعضاً، والعسكر يتسيسون على حساب الأحزاب.
في روايتي الثالثة ‘صورة الروائي’، يقف الروائي ليشهد ما آلت إليه الأحوال في سورية وانعكاسها أيضاً في الوطن العربي، الانقلاب تداعى إلى انقلابات، والهزيمة إلى هزائم، ثم ظهور المقاومة الفلسطينية ومحاولات القضاء عليها، مترافقاً مع انهيار المكان، وانتشار القمع…
سواء كان التاريخ يدور في الخلفية أو يتربع في واجهة الأحداث، كان تأثيره الظاهر والخفي جلياً على الأفراد والجماعات؛ السياسة تتلاعب بالفن والضمائر، وتذهب بالأخلاق إلى دائرة التنازلات. أما القوة فهي العنصر الحاسم في تقرير المصير والمستقبل.
رصدت في هذه الروايات ظهور العسكر وتحولات المثقف، من خلال تاريخ لم يتكرر بشكل هزلي، بالعكس كان يتكرر بصورة أكثر ارتجالاً ومأساوية وتطرفاً ودموية.
مع أن الرواية المعاصرة قلبت المعادلة بين الهامش والمتن، إلا أن القضايا الكبيرة ما زالت تحتل مساحة واسعة لديك.
يتجه كتاب الرواية اليوم إلى الذاتية، بدعوى تكريس الرواية للقضايا الصغيرة الألصق بالإنسان، فتجعله المتن، وتفرد لهمومه ومغامراته الصغيرة مساحات واسعة. وهو رد فعل على استئثار القضايا الكبيرة بالرواية وتهميش الإنسان، كأنه قضية فقط لا غير. هذا الزعم يحتاج إلى الكثير من الإيضاح، لكن اعتاد مطلقوه إلقاءه على عواهنه. إن أية رواية يغيب عنها الإنسان، تسقط عنها أهم عناصرها، الأحداث والأشياء لا تصنع رواية، يصنعها الإنسان من خلال أموره الصغيرة، على ألا تغيب عنه القضايا الكبيرة، لا تعارض بينهما، بل هذه تأخذنا إلى هذه وبالعكس. إن عمل الروائي يتحدد بالربط بينهما في نسيج واحد. أحياناً تأخذ هذه القضايا حيزاً كبيراً، كما في ‘صورة الروائي’، حين كان المثقف يعتبر الوحدة والحرية والاشتراكية، قضايا حياته كلها. في ذلك الوقت كانت مبادئ الأحزاب (الشيوعية والبعثية والقومية) تهيمن على تفكير الباحثين عن وسائل للتغيير، فاختلط العمل السياسي بالحياة الشخصية، وسلبها فرديتها ، وأحياناً كان يمسحها لحساب الحزب.
غالباً يأخذني المشهد البانورامي والبشر في داخله، لا أرى الناس خارج منظر ما، يعج ليس فقط بما هو آني، وإنما بما مضى، وبما هو قادم، وبما يجري هناك خفية في الكواليس. نحن لا نتحرك في فراغ، حتى لو كنا راضين ومطمئنين إلى عزلتنا، فنحن داخل جدران وأسوار وهمية … وعندما تحركنا طموحاتنا الشخصية وعقدنا ووساوسنا وشهواتنا… فإلى أين، وداخل ماذا، ولماذا؟!
المؤسف اليوم أن القضايا الكبرى تتهافت، في الواقع وفي الرواية معاً، هل نتخفف منها؟ ومثالها الجنس، هل في الكتابة عنه طبقاً لوصفة غربية منفلشة حداثة مطلوبة؟ نعرف، لا تصح الرواية من دونه، وندرك أن الجنس قضية كبرى، لكنه لم يُكتشف حديثاً، هذا ما يجب فهمه، ومثلما لا ينبغي مقاربته بتجهم، لا يجوز استغلاله لمآرب تافهة.
القضايا الكبرى باتت تابو، والسأم يحدد مزاجية الحداثيين الجدد منها. إن أي رواية تحذف جزءاً من الصورة هي رواية زائفة. وإذا كان ثمة تجاهل أو إهمال تتعرض له قضايا إنسانية ومصيرية فعلاً، فعلينا ألا نتنازل منها، وأن نحرك هذا الواقع المؤلم، وإن كان نحو ما هو أكثر إيلاماً، وألا تأخذنا حيوية الصرعات العابرة إلى سياقاتها.
ألهذا اعتُبر فواز حداد باستمرار كاتباً مشاغباً، ومنعت رواياتك في معرض الكتاب الأخير؟
لا أدري ماذا يعتبرونني، ولا أقصد أن أكون مشاغباً، منعت روايتي ‘صورة الروائي’ منذ عشر سنوات وهناك الروايتان الأخيرتان، في وضع هو بمثابة بالمنع، فهما موقوفتان تحت الدراسة، أو لا أدري ماذا ؟! لم يسمح بهما ولم تمنعا، الأولى مضى عليها أكثر من عام على هذه الحالة، والثانية قاربت السنة.
أنا كاتب مشغول بأمور صغيرة وأحياناً كبيرة، قد تكون مهمة وقد لا تكون، لا طموحات سوى كتابة الروايات، هذا هو عملي، وحياة واحدة لا تكفي لإنجاز ما أتمنى فعله. أبحث عن الهدوء، كما أنا هادئ إلى حد ما، أتأمل ما يدور من حولي، وأتابع ما يجري مثل غيري، ثم أكتب، يبدو أن غيري لا يتأمل، أو لا يريد أن يكتب. لا يؤرقني ما الذي سأكتبه. مسألة التعبير هي التي تقلقني. أبذل أقصى جهدي كي أقبض على المعنى، وأجهد كي أؤدي ما يدور في ذهني بدقة. هل هذه هي الكتابة؟ يبدو هذا، أي أن نحسن توصيل ما نفكر فيه، على أن يكون لدينا ما نريد قوله فعلاً.
ما علاقة الرواية بالمدينة كفضاء برجوازي، والتباس العلاقة بين المدينة والسياسة، وبالتالي بين الرواية والسياسة؟
ثمة تصور لمدينة دمشق يعجبني، دمشق عبارة عن مسرح يؤمه القادمون من أنحاء البلاد كافة، كي يلعبوا أدوارهم على خشباته؛ مؤامرات، انقلابات، صفقات، استثمارات، سلب، نهب… وهناك أيضاً من يأتي كي يلعب أدواراً عظيمة الشأن، ثقافية وإنسانية واجتماعية، فمثلما استقبلت دمشق الانقلابيين والانتهازيين والنهابين، استقبلت أيضاً رموز الحركات القومية والعلمية والثقافية، كزكي الأرسوزي، وبدوي الجبل، وعبد السلام العجيلي، وصدقي إسماعيل، وحنا مينة وغيرهم. لم يأتوا بمنطق الغزاة، جاؤوا كي يقدموا للمدينة أفضل ما لديهم ويشاركوها مصائرها. دمشق أسوة بالمدن الكبرى شهدت مسارحها الكثير من مآثر الصعود ومآسي الانحدار. في الأطراف والمناطق البعيدة لا تبلغ هذه الأدوار أهدافها، لا بد أن تأخذ مجراها في دمشق المسرح الحقيقي للجشع والاستئثار…وأيضاً رفع رايات المثالية والأخلاق والدفاع عن المبادئ.
لذلك يقال لا رواية خارج المدينة، بسبب الصراعات المعقدة التي تجري داخلها وعلى أرضها، وإن كانت لا تعنيها أحياناًُ، مجرد تصفية حسابات بين أطراف يحسمها وجودهم في العاصمة، وعليها تتحدد أقدارهم، لكن على المدينة دفع الثمن أيضاً. إنها رواية الأدوار الكبيرة تدور على مستوى البلد والمنطقة وقد تلامس العالم.
أما روايات الأدوار الصغيرة، وهي رواية عميقة، تتصل بالإنسان والحياة والموت. فتأخذ مجراها بشكل ضيق بين الجماعات والأفراد في المناطق البعيدة والنائية، حيث حتى الجريمة غير معقدة، بواعثها معروفة ومؤلمة، الشرف مثلاً. بينما في المدينة يضيع الشرفاء مع غير الشرفاء، يهتمون أكثر بالطموحات المكلفة والمال والمناصب.
إذاً، بخصوص الأدب علينا ألا نبالغ كثيراً، الأدب العظيم يأتي من الريف، لهذا قليلاً ما تكون حصة أبناء المدن قليلة في الأدب، ومثالنا نجيب محفوظ في الرواية، فمنذ زمن غير بعيد كان القاهري الوحيد من كتاب الرواية في مصر.
جميع أبطالك مثقفون: صحافي، روائي، كاتب، نحات، مسرحي، مترجم، فنان… هل تعتقد أنهم الأقدر على إضاءة الزوايا المظلمة في حياتنا وفي مجتمعاتنا؟
لنكن أكثر دقة، تحتوي رواياتي على مختلف أنواع البشر، لكن النصيب الأكبر فيها للمتعلمين خصوصاً المثقفين منهم والفنانين، دون ريب لأنني الأقرب إليهم. وأعتقد أن سلوكياتهم تساعد على إضاءة مجتمعاتنا.
شخصية المثقف مركبة، لديه على الأقل شخصيتان، الأولى عادية ويتعامل بها مع محيطه، الذي يكون عادة بسيطاً، فيضطر إلى أن يكون سلوكه أكثر صدقاً معهم ولو ترفع عليهم. والثانية، شخصية صاحب الأفكار الكبيرة، إصلاحي أو متشدد، تقدمي أو حداثي، يعمل تحت راية علمانية أو دينية، فيلعب دور الموجه أو الداعية، التنويري أو المحرض، بما يمتلكه من نظرات عميقة نحو الحياة والمجتمع والوطن والصراعات المحلية والعالمية. قد تكون نظرات صحيحة، أو انتهازية نفعية، تدور في حقيقتها حول كيف يتسلق هذه القضايا ويحولها إلى نفوذ ومناصب.
المثقفون هم الوجه الأمثل للتعبير عن قدرة الأفكار على التحرك على الأرض ولمحاولات التأثير. ولرؤية أن المثقف هو الأقدر أيضاً على المتاجرة بالمثل والقيم، والأكثر براعة على التفلت من قيودها.
يرى البعض أن فواز حداد يكتب روايته الوحيدة عن دمشق وما حلَّ بها من فساد وخراب، ما زالت تعيش نتائجه، حتى أن بعض الشخصيات قد تستمر وإن بأسماء جديدة.
رواياتي لم تكن عن دمشق فحسب، هناك أيضاً بيروت والقاهرة وباريس والقدس… لكن دمشق استأثرت بالنصيب الأكبر، الشق الأعظم من الأحداث يدور فيها، ولا غرابة، دمشق مكاني الشخصي الواقعي، ومن الطبيعي أن تصبح مكاني التخييلي.
أعتقد أنني واحد من هؤلاء الذين أعادوا إحياءها في رواياتهم، بواسطة ذكرياتي عنها، وبالاستعانة بالكتب والصور والتاريخ والوثائق. وبما أنني عاصرتها فترة طويلة من الزمن، فقد أتيح لي الكتابة عما طرأ عليها من متغيرات، فكتبت عن التشويه والتدمير اللذين حلا بها، كذلك عن هذا الفساد العريض الذي ينخرها.
دمشق اليوم بالكاد تشبه المدينة التي كنت أعرفها، ثمة بعض المعالم الباقية، ما زالت بعض تلك الحارات والأزقة الضيقة قائمة، لكنها أفرغت من روحها، تسللت إليها المطاعم الراقية، وأصبحت تجذب السياح والطبقات الجديدة. والبيت الشامي ابتذل في المسلسلات التلفزيونية، بات ما يربطني معها الذكريات فحسب أكثر من الواقع. وقد أتعامل معها كصديق قديم، لكنها في الحقيقة شخص آخر، أحاول أن أعقد معه صداقة حذرة، بلا عواطف، لا أريد لأية مشاعر التدخل بيننا، لا الزمن يسمح، ولا المكان الذي أصبح غريباً عني، إلا إذا أردت افتعال شيء ما.
عموما، أنا لا أتحسر، وإن كنت لا أخفي حنيني إلى الماضي، هذا حال المدن، إذ تتوسع وتكبر، لا سيما دمشق التي لا يغنيها شيء قدر اتساعها لاستقبال الجميع وإحالتهم إلى شيء منها. هذه الميزة أجمل ما بقي منها، وأكثر ما تتجلى فيها.
يخاتل فواز حداد قارئه كثيراً حين يمرر كثيراً من رسائله في نسيج الأحداث اليومية والحوارات العادية. كي يأخذنا بأسلوب بوليسي إلى ظلال المعاني والدلالات في الحدث؟
العمل الروائي ليس كتيماً، ولا منغلقاً، انه مفتوح لإرسال الإشارات، وأعتقد أن أي كاتب لا يتأخر عن تحميل أبطاله ما يدور في رأسه من آراء، ولا يترك نفسه نهباً لأحداث الرواية دون أن يعلق عليها، على أن تكون الفرصة مواتية أو تتطلب.
الرواية هي الجنس الأدبي الأكثر مرونة للقولبة في كافة الاتجاهات، ولا يمتنع عليه شيء. إنه جنس ديمقراطي حر، نستطيع أن نبث من خلاله مختلف الآراء، سواء كانت سلبية أو إيجابية، رفيعة أو منحطة… ميدان رحب يتسع للشيء وعكسه. بالنسبة إليَّ، أتحسس هذه الإمكانية، واستغلها بكل حرص وبمختلف أبعادها، كما اشتهي من غير تعنت، ولا يهمني أسلوب التعبير إن كان مباشراً أو غير مباشر، على أن يؤدي الغرض منه.
وإذا كان الأسلوب الذي استعمله لا يخلو من شبهة بوليسية، لكنه باعتقادي يتعداها، من حيث الفكرة. أما التشويق، فأنا بحاجة إليه شخصياً، على الفكرة أن تجذبني طوال الزمن الذي أقضيه في كتابة الرواية، وقد تأخذ عدة سنوات. كيف بوسعي جذب القارئ إلى روايتي، إذا لم تحافظ الرواية على جاذبيتها بالنسبة إليَّ سواء من حيث ما أريد قوله، أو الشخصيات، والحبكة والأحداث…الخ؟
تميل الرواية المعاصرة باتجاه استخدام اللغة اليومية، لكن فواز حداد ما زال يتكئ على لغة أنيقة موحية.
العنصر الجلي والأوضح في الرواية هو اللغة، إنها وسيلة الكاتب الرئيسية للتعبير. لا أميل على الإطلاق لجعل اللغة اليومية، لغة الشارع (العامية) لغة السرد والحوار في الرواية، إلا إذا كان هناك موجب قوي، يستحيل تأدية المعنى من دونه، وعلى أن يكون بشكل محدود ومعبر جداً.
لا أدعي أنني أكتب بلغة أنيقة، أسعى لكي أكتب بلغة دقيقة، كثيفة ومتعددة الإيحاءات. مشكلتي مع اللغة أنني مقصر عنها، أحاول استيعابها بقدر استطاعتي. وألجأ في الرواية الواحدة إلى عدة مستويات من اللغة. فمثلاً في ‘الضغينة والهوى’ تراوحت اللغة بين السياسي والشاعري والتقريري والدبلوماسي والعلمي والديني والروحي… بينما في ‘مرسال الغرام’ استعملت لغة فنية عالية المستوى، إلى جوار لغة أقل من عادية، مع تراكيب عامية. وفي جميع الحالات، كان استعمال اللغة على هذا النحو أو غيره يمليه السرد والحدث والشخصية. لا ينبغي استعمال لغة تفيض عن الموقف مهما كانت جميلة ومؤثرة. وإنما كل شيء بمقدار. أنا حريص من هذه الناحية، لا يرضيني الكثير، إذا كان القليل يفي بالغرض.
في روايتك الأخيرة ‘المترجم الخائن’ كسر لقواعد التغريب، وعودة بالقارئ إلى مساحات الإيهام، واللعب بين الواقع والمتخيل، ومساحة الشخصيات فيما بينها.
الحياة نفسها خاضعة لأسوأ أنواع الوهم، وما لعبة الإيهام سوى تقريب لما يحدث في الواقع. نحن في عالم منافق وجائر، يمعن في الغربة عنا، ويقودنا إلى تبعيض أنفسنا، الواحد أكثر من واحد، فنمارس أكثر من دور، ونلعب أكثر من شخصية، نحن لا نستطيع أن نكون نحن فعلاً، نتصرف كي نرضي الآخرين، نتصرف ضد ضمائرنا، ونكتب خلاف ما نريد، ونفعل ما لا نريد فعله. أليس هذا درجة منحطة من السلوك، لكنه الواقع، واقع يتجاوز الخيال مهما كان جارفاً. نلعب هذه اللعبة كي تجعلنا أكثر قدرة على تحمل واقع مخجل.
الخيال ليس أقل وطأة، لكنه أكثر حرية.
باعتبارك وصلت لمرحلة الترشيحات الستة الأخيرة لجائزة ‘بوكر’ العربية، كيف ترى موضوع الجائزة وعلاقته بالإبداع؟
فكرة الجائزة وجديتها تشجع الروائيين على أن يبذلوا أفضل ما عندهم. من جهة يعتبر تقديراً لجهد الكاتب. ومن جانب آخر، يمنحه الاعتراف به الثقة بنفسه، بأنه كتب عملاً لافتاً وربما متميزاً. صحيح أنها اعتراف بالكِتاب فقط، ولا تمنح الكاتب رخصة دائمة على الجودة، لكنها مقابل معقول.
كما أن الجائزة تشكل إفلاتاً من سطوة جهات ثقافية رسمية وشللية، لا تعترف إلا بالأسماء المعروفة التي كرسها الزمن دون تمحيص لمجرد تواجدها في الوسط الثقافي، دون امتحان حقيقي لقدراتها.

من مؤلفات فواز حداد:
1- موزاييك دمشق 39 /طبعة أولى 1991- دار الأهالي،
طبعة ثانية 2007 دار التكوين
2- تياترو 1949 / طبعة أولى 1994 – إصدار خاص
طبعة ثانية2007 دار التكوين
3- صورة الروائي / طبعة أولى دار عطية 1998
طبعة ثانية 2007 دار التكوين
4- الولد الجاهل /دار الكنوز ، طبعة أولى 2000 طبعة ثانية2004
5- الضغينة والهوى دار كنعان ، طبعة أولى 2001 طبعة ثانية2004
6- مرسال الغرام /دار الريس، طبعة أولى2004 طبعة ثانية2007 دار الريس
7- مشهد عابر /دار الريس، طبعة أولى 2007
8- المترجم الخائن /دار الريس، طبعة أولى 2008
وله مجموعة قصصية وحيدة ‘الرسالة الأخيرة’ طبعت أول مرة عام 1994 عن وزارة الثقافة، وطبعت طبعة ثانية عام 2007 عن دار التكوين.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى