صفحات العالم

اعادة إطلاق علامة أمريكا السياسية الفارقة

ديفيد إدواردز
أترع الإعلام والصحافة البريطانية في عام 1997 بمقالات وأحاديث عن تغيير “تاريخي”. ويوم فوز توني بلير أطلقت الصحافة العنان للترحاب المبتهج وركبت صحيفة “الغارديان” موجة الغلو في الثناء، فراحت كلمات مقالتها التي واكبت صعوده إلى السلطة تكيل المديح لبلير، وتهدج صوت الصحافي وهو يقول بانفعال: “إنه لزلزال ضرب المشهد السياسي”، وقيل لنا إن النصر “يفتح الباب على مصراعيه أمام نقلة كبرى وتحوّل بريطاني”.
وانبرت جريدة “الأوبزيرفر” لتؤكد للقراء أن حكومة بلير سوف تبتدع “قواعد جديدة على مستوى العالم في مجال حقوق الإنسان”. وسوف تفرض وتضع موضع التنفيذ “قيوداً جديدة صارمة ومشددة على مبيعات الأسلحة”. فهذا، على كل حال، كان بزوغ فجر سياسة بلير الخارجية “الأخلاقية”. فكم هي صارخة اليوم تلك المفارقة الصارخة التي تجثم أشباحها السود أمام أنظارنا ونحن نستحضر في أذهاننا تلك المزاعم والأباطيل التي روّج لها على ضوء المذابح المروعة التي كانت تركة بلير في العراق وأفغانستان.
وكان الصحافي جون بيلجر وحيداً فريداً وبلبلاً يغرد خارج السرب في عام 1997 محذراً من أن بلير لم يكن سوى أفّاق دجال محتال وذئب من ذئاب المحافظين الجدد في إهاب حمل وديع. وكما أشار بيلجر آنذاك كان الإعلام الجماهيري والصحافة يسبحان في دياجير ظلمات جهل دامس: وكان المطلعون يعلمون تمام العلم بما يعتزمه بلير من الإذعان الكامل لواشنطن، وطالما ردد مراراً وتكراراً الدعوة إلى إقامة “نظام جديد” تقوده أمريكا. وحماس بلير الشديد لإمبراطور الإعلام روبرت مردوخ وانبهاره به أشهر من أن يعرّف، كما لم يكن يخفى على أحد دعمه وتأييده للاقتصاديات التاتشرية المتطرفة.
وهذا الأسبوع وبعد انقضاء عقد من الزمان واندلاع العديد من الحروب لا تزال آلة الصحافة والإعلام الجماهيري ذاته يصر على أن يصدح بصوت واحد ليقول إن الرئيس المنتخب باراك أوباما ما هو إلا “فجر جديد” آخر يبزغ. وكتب محرر شؤون أمريكا الشمالية في هيئة ال “بي بي سي” الصحافي جوستين ويب يقول: “لسوف تجتاح رياح التغيير أمريكا بهذه النتيجة على كل الصعد وعلى كل المستويات وسيكون لها من عمق التأثير ما يعيد صياغة هذا البلد صياغة جديدة فلا يرجع كما كان أبداً”.
وعلّق كاتب آخر في جريدة “الغارديان” قائلاً: “اليوم هو يوم الحبور والسرور، يوم الاحتفال والابتهاج، يوم السعد يوم المجد الذي ينبغي أن يزدهي به الإنسان. تذوقوا نكهة وحلاوة هذه الكلمات: فالرئيس باراك أوباما هو أمل أمريكا، إلا أن ما نعقده نحن عليه من آمال أكبر حتى مما ترجوه الولايات المتحدة”.
وعمّ الصحافة والإعلام هرج ومرج وابتهاج عارم ورأينا النسخة ذاتها من الأحداث تتكرر في طول الصحافة والإعلام وعرضها. وفي صحيفة “التايمز” أدلى أحد أبرز من قرعوا طبول الحرب في عهد بوش – بلير، الصحافي جيرارد بيكر بدلوه في هذا المهرجان فعلق قائلاً: “إنه ليوم تاريخي مشهود، فندرة هي الأيام التي سبقها كلّ هذا الدفق من الحيوية الطافرة وشحنت بمثل هذه العظمة والأبهة وهذا القدر من الأهمية التاريخية الذي أترع به هذا اليوم الأغر”.
رالف نادر لديه رؤي مختلفة لعملية الولادة أو البزوغ الجديدة، وفي مقابلة مع قناة “ريال نيوز” يصف نادر ما تعرض له في حملته الانتخابية: “إننا نشاهد أعلى مستويات الاستسلام وعدم الاكتراث والعجز التي لم أر مثلها مطلقاً، نحن لا نتحدث عن الإثارة “السياسية”، نحن لا نتحدث عن الأمل، ولا عن فن الخطابة والبلاغة ولا عن نجم الروك أوباما. نحن نتحدث عن السؤال الذي يطرح في كل مكان أذهب إليه: ما الذي تبقى للأمريكيين لكي يقرروا فيه ما عدا حياتهم الشخصية تحت ظروف وأحوال مقيدة تزيد سنة بعد الأخرى؟ والإجابة في الغالب هي: لا شيء”. وليس مصادفة أن تهب الأجهزة الإعلامية جميعها وتهلل مجدداً لتغيير “تاريخي”. وقد ظلت النخب السياسية الأمريكية والبريطانية تُجلد وتُهاجم بشراسة بسبب الكوارث في العراق وأفغانستان وأيضاً بسبب الفوضى المالية المرتبطة بأزمة الائتمان.
وانكشف جلياً جنون الطمع الذي يغذي ويدفع الروح الحربية التي تفرض حلولاً كارثية، وتوفّرت الاشتراكية للأثرياء والرأسمالية لنا جميعاً.
ونتيجة لذلك أصبح ملزماً وضرورياً أن تولد النخبة السياسية الأمريكية من جديد ويعاد تصنيفها وتغليفها بشكل مبتكر، ويتم إعادة تسويقها وبيعها مجدداً تحت مظلة إدارة جديدة.
بيد أن مرشح الرئاسة الأمريكية المستقل رالف نادر وصف النظام السياسي الأمريكي بأنه “دكتاتورية حزبين أرقاء يعبدان الشركات العملاقة”. وأشار نادر إلى أن أوباما أخذ من أموال الشركات لتمويل حملته أكثر بكثير من جون ماكين. ويعلق نادر على حملة اوباما بقوله “إننا نشاهد مهرجاناً لا مثيل له والنقطة الأساسية فيه أن أوباما غير متلهف للسلطة”.
ووصف نادر كذلك كيف أغلقت وسائل الإعلام الأبواب في وجه حملته الانتخابية، ولم يسمح له بالمشاركة في المناظرات التلفزيونية، وأدى انعدام التغطية الإعلامية إلى ترك حملته الانتخابية في غياهب الظلام والنسيان.
ويرفض جون بيلجر الذي كان محقاً بشأن بلير في عام 1997 والذي أصاب كبد الحقيقة بشأن أوباما الآن يرفض بيلجر كذلك إجماع التيار الإعلامي الجماهيري الرئيسي السائد فيقول: “شأنه شأن كافة مرشحي الرئاسة الجادين في الماضي والحاضر، أوباما صقر وتوسعي فقد أتى من رحم إرث ديمقراطي عتيد متواصل لا تنكسر له شوكة بصفته موقداً لحروب شنّها الرؤساء ترومان وكنيدي وجونسون وكارتر وكلينتون”.
ولا بد لنا في نهاية المطاف أن نتذكر ان أوباما دعم “حق كولومبيا في ضرب الإرهابيين الذين ينشدون ملاذاً آمناً عبر حدودها”. كما وعد أوباما بمواصلة عملية خنق أمريكا الشرس لكوبا اقتصادياً لإخضاعها. ووعد بتقديم كل الدعم “لقدس موحدة غير مقسمة” باعتبارها عاصمة ل”إسرائيل”. وقال في أغسطس/آب إنه سيكون مستعداً وراغباً بشن هجمات داخل باكستان شاءت الحكومة الباكستانية أم أبت. وقال بهذا الصدد “إذا تجمع لدينا من المعلومات الاستخباراتية العملياتية ما يفيد بوجود أهداف إرهابية مهمة ورأينا أن الرئيس الباكستاني لم يتحرك فسوف لن نتوانى نحن عن التحرك والضرب”.
ونرى جوناثان فريدلاند الصحافي في “الجارديان” وهو يعلّق على النصر الذي أحرزه أوباما فيوحي بأنه “أشبه ما يكون بمسرحية من عصر الملكة اليزابيث حيث تتكهن الحوريات والجنيات بمصائر الملوك، فإن الطقس في شيكاغو بدا وكأنه واحد من الدلائل العديدة والبشائر التي تتنبأ بإشراق شمس عهد جديد قادم يتبختر بحلل المجد”. وكتب أوليفر بيركمان في الصحيفة ذاتها يقول: “مجرد أن يكون المرء حياً يرزق ويسمع ويرى ويشهد هذا الصنع المجيد الفريد للتاريخ أمر يسمو بالنفس إلى الذرا فتثمل بنشوة الابتهاج”.
وما هذا بتحليل سياسي وما ينبغي له، بل هو إلى الكتابات التمجيدية أقرب وأشبه بالخوض في سير القديسين والحديث عن الأصفياء الأطهار بلهجة كلها وله وانبهار.
وإنها لحقيقة مذهلة استثنائية تخرج عن كل مألوف ألا وهي أن الصحافيين البريطانيين لا يكتبون قط عن أي نظام سياسي آخر بهذه الطريقة، ولا يحيطون غير رموز وسدنة النظام السياسي الأمريكي بهالات الإكبار والتقديس. ولكن كيف يمكن أن نفسر هذه الظاهرة؟
للطاغوت سطوته وما يبثه من رهبة في النفوس الوجلة وسمة القوة وخاصية الجبروت المهيمن هي التي تفصل أمريكا عن سائر العالم. وتظل الولايات المتحدة المركز العظيم للقوة العسكرية والاقتصادية، وفلاح المرء في حياته ونجاحه في سيرته وازدهار حظوظه غالباً ما يعتمد على دعم حلفاء أصحاب سطوة ونفوذ ولهم جبروت وقوة. إلا أن ثمة شكاً يخامر المرء كذلك في أن كثيراً من الصحافيين إنما اجتاحتهم حمى الإثارة الشديدة التي اكتنفت الحدث وبهرتهم شهب القوة الساطعة وروعهم هول شرورها.
* كاتب صحافي وناقد ومحلل سياسي
*  يشارك في تحرير موقع “ميديا لينس” لرصد التضليل الإعلامي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى