صفحات سورية

مهارات سوريا وتوازنات المنطقة: هل يغادر اللاعب المصري موقع المتفرّج ؟

null
مصطفى اللباد
عادت سوريا لتتموضع من جديد في بؤرة المشهد الإقليمي بعد القمة الرباعية التي شهدتها دمشق، وضمت بالإضافة إلى الرئيس السوري كل من أمير قطر ورئيس الوزراء التركي والرئيس الفرنسي. وعكست القمة الرباعية المذكورة الحالة الراهنة في المنطقة، بكل ما تحمله من توازنات إقليمية وتقاطعات في المصالح بين دولها، بعدما كرّست سوريا “رمانة ميزان” القوى الإقليمية المختلفة و”مايسترو الإيقاع” في المشرق العربي.
وهكذا لم تظهّر القمة الرباعية الأهمية الاستثنائية للموقع الجغرافي السوري فحسب، باعتباره مفتاحاً رئيسياً للنفاذ إلى معادلات المشرق العربي، بل إنها قامت بتظهير الإفلاس المدوي لما يسمى “محور الاعتدال” في المنطقة. ويقود تقليب النظر في القمة الرباعية أنها تترجم بكامل الدقة التوازنات الإقليمية والدولية، إذ أن مشاركة قطر رئيسة مجلس التعاون الخليجي بتحالفاتها الأميركية وروابطها الإيرانية المعلومة، بالإضافة إلى تركيا الدولة الإقليمية الوازنة بروابطها الأميركية، وفرنسا بثقلها الدولي المعروف، تعني بوضوح أن العزلة العربية والدولية التي فرضت على دمشق، منذ اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، قد أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الماضي.
مهارات سورية
كانت سوريا وما زالت جزءاً أساسياً من التصعيد والتهدئة الإقليمية بصفتها واسطة العقد في التحالف الذي تقوده إيران، حيث تنظّم سوريا النفوذ الإيراني في العراق وتربطه بمثيله في لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة بكيفية تتسق مع مركزية جغرافيتها في خريطة المنطقة. وبالرغم من تحالفها مع إيران، فقد نجحت دمشق في جمع تناقضات التصادم الإقليمي بين المشروعات المختلفة ووظفته لمصلحتها. ويبدو ذلك واضحاً في تقويم التحالفات السياسية لسوريا في المنطقة مع الدولتين الإقليميتين الأهم: إيران وتركيا، إذ أن سوريا المتحالفة مع إيران ضمن المحور الإيراني – السوري هي في الوقت نفسه الدولة العربية الأقرب إلى المصالح التركية عما سواها. وسوريا المتحالفة مع طهران، والقريبة إلى قلب وعقل أنقرة، هي التي تفاوض تل أبيب الآن، وبشكل يجعل بإمكانها ترجيح كفة مشروعات على أخرى في المنطقة. وهكذا أصبح النظام السياسي السوري، الذي لا يتمتع بإمكانات اقتصادية ومالية خاصة، هو نقطة التوازن لكل القوى غير العربية في المنطقة. وتنجلي قدرات المساومة العالية لسوريا إذا ما عقدت المقارنة بينها وبين مثيلاتها لدى السعودية، حيث لم تستطع الأخيرة برغم الفورة الهائلة في أسعار النفط (أكثر من مليار دولار يومياً) والتحالف الراسخ مع الولايات المتحدة الأميركية، أن تستمر في سياستها الإقليمية المحاصرة لسوريا. وهكذا وبمرور الوقت تفكك الاصطفاف الإقليمي والدولي المواجه لسوريا، حيث اقتربت فرنسا بالأصالة عن نفسها وبالوكالة عن الاتحاد الأوروبي من المواقف السورية وشقت جدار العزلة الدولية التي فرضت على دمشق. يبقى هنا ملاحظة أن دمشق البارعة تكتيكياً والواعية لأهميتها لدى الأطراف الإقليمية المختلفة لم تكتف بمهاراتها العالية في المساومة لتحسين مواقعها السياسية، بل قدّمت بالإضافة إلى ذلك مثالاً عميقاً على استيعابها للغة المصالح وتأثيرها الكبير على السياسة الدولية. وتمثّل ذلك في إبرام دمشق عقود تنقيب عن النفط مع شركة “توتال” النفطية، وهي الشركة العملاقة التي تجسد النواة الصلبة للرأسمالية الصناعية في فرنسا.
توازنات المنطقة
تختزل الجمهورية العربية السورية في طياتها فسيفساء المشرق العربي، عرقياً وطائفياً، كما تكثف في موقعها الجيوسياسي كل توازناته. حيث تتمثل في سوريا كل الأقليات الدينية والعرقية الموجودة في الشرق الأوسط، وبالتالي لا يبدو صدفة أن تكون سوريا هي لبّ ومحتوى معاهدة سايكس – بيكو، التي رسمت حدود وأقدار المشرق العربي منذ قرن من الزمان، أي منذ العام 1916 وحتى الآن. تمنع سوريا تركيا عن عمق شبه الجزيرة العربية، مثلما تحبس العراق عن شرق المتوسط، وسوريا في الوقت عينه هي متنفس لبنان الجغرافي الذي يعطيه معناه المَدَوي، كما تتجاور سوريا مع فلسطين بحيث تشكل عبر جنوبها الغربي رئتها الجغرافية والتاريخية. ولذلك لا ينطبق حتى مفهوم الدولة – الأمة على الحالة السورية إلا قليلا، بسبب غياب الجذر التاريخي للدولة السورية الحديثة في حدودها الراهنة. وهذه الحقيقة التكوينية ألزمت سوريا تاريخياً بهوية عربية للحفاظ على كيانها المادي المجرد، وبحيث لم تعد العروبة خياراً سياسياً سورياً مقارنة بمصر مثلاً، بقدر ما هي قدر جغرافي وتاريخي. وتقود هذه الحقيقة إلى نتيجة جيوبوليتيكية فائقة الأهمية مفادها أن سوريا كانت ومازالت الرافع الحصري للأدوار الإقليمية في المشرق العربي، وهي نتيجة يمكن التثبت من صوابها بتطبيقها تاريخياً على الأدوار الإقليمية لمصر منذ عصر محمد علي باشا وحتى اليوم.
وفي النهاية واتساقاً مع منطق الأسوياء الذي يقول: شجع اللعبة الحلوة إن كنت لا تلعب!، يقتضي الإنصاف رؤية الدور السوري المجتهد ومهاراته العالية في المناورة على توازنات المنطقة ومداورة أقطابها الإقليمية لتحقيق أهداف الحفاظ على النظام السياسي ومراوغة الضغوط الدولية. ومن يدري فربما يقود استيعاب ما يجري الآن في المنطقة والمساومات الكبرى التي تتربص بها، أن تغادر القاهرة مواقع المتفرجين، لتنخرط من جديد في توزيع أكثر توازناً لأوراق اللعب الإقليمية!
(مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والإستراتيجية – القاهرة)
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى