أكرم شلغينصفحات سورية

إنه عبثنا … لا غدر السنين!

null
أكرم شلغين
تبدو كلمات المعايدة التي نرددها (أي السوريون، وفي الحقيقة مثلنا عموم العرب)، عند بداية كل عام وكأنها تستحضر حوار وأجواء مسرحيات صاموئيل بيكيت، وبشكل خاص “بانتظار غودو”. شخوص بيكيت تبدأ كلامها بما يدل على استمرارية لحديث بدأته من قبل، وتنتهي بما يشبه ما بدأت به وتدع مجالاً لتخميننا أن الحديث، أو الحوار، سيتكرر ويلاك مراراً، فلا البداية جديدة ولا النهاية تشير إلى ما يسدل الستار على ما بعد البداية؛ أما حركاتها ومضمون حواراتها فليست إلا عبثية فهي تتفوه بالكثير وفي المحصلة النهائية تبدو وكأنها لا تنطق شيئاً، وأما هدفها فيبدو بلا معنى أمام محدودية مقدراتها وأمام افتقارها إلى استنباط الجديد بفعل توضّعها داخل دوامة لاهي تعرف ما بخارجها ولا هي تستدل على ما يخرجها منها، فتنحصر اهتماماتها وتضل طريقها وتعجز سبلها، تتحدث بادئة بما انتهت به ومنتهية بما بدأت به…تحلم بالجديد وتبقى قديمة، تنتظر ولكن المنتظَر(بفتح الظاء) لا يحضر فتنتظر وتنتظر حتى نسيت لماذا تنتظر بل وأصبح الانتظار يبدو هدفاً بحد ذاته لديها. هذا هو حالنا كسوريين بالضبط. أمنياتنا في بداية كل سنة تبدو تكراراً لأمنيات نطقنا بها قبل دزينة أشهر مضت، نقول إن العام الماضي لم يجلب لنا ما يسرنا ونتمنى أن “يحمل” “العام الجديد” ما فيه الخير لنا ولبلدنا وننسى أن ما سيأتي به العام الجديد هو ما سنصنعه أو، بالأدق، ما لن نصنعه بسلبيتنا وغيابنا؛ نتمنى زوال المستبد من بلدنا وتنتهي أمانينا بكلام يتلاشى فور نطقنا به؛ نتمنى التغيير ويبقى ذلك حلماً لن يتحقق بفضل وسائل عملنا؛ فننتظر وننتظر إلى ما لانهاية ونعبث بكلامنا مثل شخوص بيكيت، بل نتفوق عليها في العبث ونوغل أكثر منها في السلبية لأن حركتها وحواراتها ومحدودية أفقها ودوّامتها تبقى، ببساطة، حصيلة هندسة وتصميم كاتبها وأما ما يناظر ذلك لدينا فهو من داخلنا وليس بفعل كاتب يضبط خطواتنا وتفكيرنا، فالعقم يبقى، إلى أبعد الحدود، مسؤوليتنا، ونساهم أكثر من غيرنا بخلق “حبسنا” الذي نعجز ليس فقط عن كسر جدرانه والخطو بعيداً عنه بل وأيضاً نفشل في رؤية أو تخيّل ما يجري خارجه. لقد حصرنا أنفسنا في دوامة تبدو أبدية مادمنا ننشد التغيير الذي قد تجيء به رياح الآخرين؛ فتارة ينتظر بعضنا إصلاحات يَعِد بها النظام الحاكم وهم يعرفون أن تلك الوعود ليست إلا لضمان تثبيت أقدام وريث الرئاسة والسلطة وأخرى ينتظر بعضنا التغيير الذي وعدت به الولايات المتحدة “المجروحة” بهجمات الحادي عشر من سبتمبر في المنطقة مع أن الوقت لم يأخذنا طويلاً حتى بانت هشاشة الوعد بأدلة ليس أولها استمرار التعاون الاستخباراتي بين الولايات المتحدة والنظام السوري (وعلاقات الأقنية السرية تشير إلى عكس ظاهر ما ينقله الإعلام) ولا آخرها اتضاح أن التغيير الأمريكي في المنطقة لن يكون إلا انتقائياً حين تحول زعيم أحد الأنظمة العربية فجأة من “الكلب المسعور” إلى الرجل القادم من البرد ويمكن الشروع بعمل، وإبرام صفقات، معه، وتارة أخرى ينتظر البعض أن تتفهم الولايات المتحدة ومعها أوربا أن مسلمي سوريا يمثلون الاعتدال والانفتاح علّها توجد لهم الاستثناء المناسب فتضعهم خارج الصورة النمطية للإسلام السياسي (النشط كان أم النائم!) فتدعمهم وهم يعرفون أن المجهر الأمريكي، والعالمي، ما برح يرصد حتى من حصر إسلامه بعلاقة مع ربه المُسَالِم (وليس فقط من كان ربه راديكالياً ومن النوع الذي يقاتل ويقتل ـ بفتح التاء في المرتين ـ في سبيله)؛ وأخرى ينتظر البعض ما ستتمخض عنه “المحكمة الدولية” بقضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري وهم يعرفون أن سياسة الدول تحركها المصالح ويرون ما يقوم به الاتحاد الأوربي وأمريكا من اتفاقيات وتقارب وعمل (وما تقوم به إسرائيل من مباحثات) مع نظام الأسد؛ وتارة أخرى تتفتح قريحة البعض بإصدار بيان الدعم لمفاوضات الأسد مع إسرائيل في رسالة غير مباشرة إلى إسرائيل والعالم بأن هذا الفصيل السوري الذي يدعم مباحثات ومفاوضات الأسد مع إسرائيل ليس معاديا لأحد ويمكن أن يشكل النواة البديلة إن تم دعمه، وهم يعرفون أن إسرائيل، ومعها العالم، تفضل النظام الحالي لأسباب عديدة؛ وأخرى يعتقدون أن أوربا ستدعم من المعارضة السورية هذا أو ذاك وهم يتناسون أن السياسة الأوربية المعلنة تركز على “تشجيع” ودعم نظام الأسد على القيام بـ”الإصلاحات” ويتعامون عما تسير به أوربا من تقارب مع النظام السوري، ويتناسون كذلك أيضاً أن قضايا حقوق الإنسان في سوريا وغيرها لن يعنى بها بشكل جدي إلا السوريين أنفسهم، ولنا في دروس التاريخ عِبر ولم ننس بعد أن مذابح نظام الأسد في سوريا لم تتحدث عنها في حينها لا وسائل إعلام العالم ولا منظماته الحقوقية والقانونية .. وهكذا يبدو كلامنا أجوفاً وخطواتنا لا معنى لها وأمنياتنا خاوية وكلماتنا ضرباً من العبث في بداية العام وفي كل يوم منه حين ننتظر خطوات الآخرين وسنتخبط أكثر مادمنا لا نمتلك الأسس الواضحة للعمل والتي تركز أولا على حقنا في الحياة بما يتناسب وعالم اليوم وهي قضيتنا المركزية كسوريين، بصرف النظر عن كل المؤثرات الأخرى أو عن انتظار دعم الآخرين. خلاف ذلك، لن نتكلم ولن نتحرك إلا بشكل عبثي يكرر نفسه ويتحشرج في آلام تبدو لانهائية؛ ومالم تبدو خطواتنا صحيحة فإن أحداً لن يتعرف علينا العالم كأصحاب حق؛ بل سيستمر الأسد وأبواقه في وصف من يسعى لكسب حقوقه بالخائن، وسيستمر الجزار بمطالبة من يتكلم منا بحقوق الإنسان أو يتطلع إلى الحرية والديمقراطية بالاعتراف بجريمته لأن ما فعله ـ بمقاييس الأسد طبعاً ـ يمثل “الخيانة” التي يستحق عليها الموت ولكن بفضل “تساهل الأسد” و”تسامحه” خُفّضَت العقوبة إلى السجن…
نعرف أن مشكلتنا مستعصية أكثر من أن نحيط بها وبأسبابها في مقال، وحبسنا أشد إحكاماً مما نتصور أو أن نتمكن من أن نبحث به بشكل عجول ولكن لا بأس في طرح بعض الأسئلة على أنفسنا بهذا الخصوص. لماذا نختلف عن بقية شعوب العالم فنخاف من كسر قيودنا!؟ و لماذا نتلكأ في البحث عن سبل كسرها؟ بل، والأمرّ من ذلك، لماذا نخاف عندما نسمع كلمة تغيير إلى حد يبدو معه وكأننا تطبّعنا مع حالة الاحتجاز والحبس وألفنا قيودنا وأصبحنا لا نتصور الحياة من دونها؟ وما الذي يجعلنا نختلف عن بقية الشعوب؟ لماذا الناس تخرج إلى الشوارع في اليونان وليس في دمشق وحلب واللاذقية؟ لماذا تتظاهر الناس في العالم احتجاجا على أي شيء مهما صغر حتى ولو كان بسبب ارتفاع السلع ولا تتظاهر الناس في بلدنا عندما يُسترخص ويُستباح الإنسان؟ لماذا تخرج الناس في العالم إلى الشوارع متحدية بينما يكفي في بلدنا وضع بضعة أكياس من الرمل على مدخل أي مدينة كي تختبئ الناس في بيوتها مرتعدة متسائلة متضرعة لربها أن لا يكون القادم مريعاً…!؟ لماذا استطاع مدني يحمل بيده كيس تبضعه أن يوقف رتل دبابات مدججة بالسلاح وجاهزة للقتال والقتل في بكين ولا يوجد مثله في بلدنا؟ بل لماذا وجد شخص بعقل وبحرص قائد الدبابة الأولى في رتل الدبابات في بكين ولا يوجد من يحمل مثل عقليته بين عسكر بلدنا؟ لماذا قُتِلت فينا روح التمرد؟ لماذا فقدنا الاستعداد لدفع ما نستطيع من أجل الحياة الحرة الكريمة!؟ هل نجحت عملية إعادة قولبة أدمغة الكثير منا إلى درجة أصبح معها الخوف سيدنا؟ لماذا فقدنا بوصلتنا السياسية؟ لماذا نخطئ دائماً في فهمنا لآليات عمل النظام الحاكم؟ لماذا لا ندرك أن المراد لسوريا الآن ليس انتظار أحد ليقوم بعملنا بل إعداد الجياع والمقموعين والمستلبين ليكونوا جند التغيير؟ لماذا يبرز بين دعاة حقوق الإنسان في سوريا من يخفف من هول العملية عندما تختطف المخابرات واحداً منا؟ لماذا يوجد بين “المعارضة” السورية من يبرر لنظام المافيات قتل السوريين بالدم البارد؟ لماذا يوجد بين السوريين من يبدو ليدافع عن توريث الرئاسة والسلطة في سوريا أسوة بأمكنة أخرى؟ لماذا يبرز بين السوريين من يروج لـ”ممانعة الأسد” بينما الأخير يعرض سوريا للبيع في سوق النخاسة؟ أسئلة نطرحها على أنفسنا وعلى كل من تبدو كبرى أمانيه في العام الجديد هو ألا يضطر لقول ما أرحم العام الماضي! ولكل من ينتظر إذ عليه أن يعي أن الغد بعيد ما مكثنا هكذا، والجديد سيبقى عتيقاً، ومن، وما، ننتظره لن يحضر مادمنا لا نغير من تفكيرنا وطرائق عملنا ولانقف بصدق مع الذات وننتقد أنفسنا! وأخيراً نتمنى ألا يأتي اليوم الذي لم يعد فيه لنا قضية ونستمر في ندب السنين وتعيش وتموت بعدنا الأجيال في عهد حافظ الثاني وبشار الثاني والثالث، من يدري!؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى