صبحي حديديصفحات العالم

عراق المالكي: هاوية، وفساد و… مزاد!

null
صبحي حديدي
على نقيض تسعة أعشار الساسة الأجانب الذين تكتنف السرّية التامة زياراتهم إلى العراق، ثمة ضيوف ـ بارزون بدورهم، وإنْ على صعيد اقتصادي ومالي واستثماري ـ يجازفون بالسفر إلى العاصمة العراقية في وضح النهار، بل يدخلون في مزادات علنية من عيار ثقيل، تُنقل أحياناً على الهواء مباشرة! هذه كانت حال ممثّلي 44 من شركات النفط العملاقة، تقاطروا إلى بغداد مؤخراً للمشاركة في مزاد لعقود تطوير واستثمار، وأغمضوا الأعين مثلما صمّوا الآذان عن العمليات الإنتحارية الإرهابية المتكررة التي استأنفت حصد أرواح المئات من الأبرياء.
وسواء صدّق هؤلاء ما يُنشر من بيانات حول مسؤولية ‘القاعدة’ عن هذه التفجيرات، أو منحوا أيّ مقدار من المصداقية لتصريحات رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي حول مسؤولية النظام السوري عن تلك العمليات، فإنّ الـ’بزنس’ هو الـ’بزنس’ كالمعتاد بالنسبة إلى هؤلاء. يحدوهم، لا ريب، اليقين بأنّ العراق يمتلك مخزوناً من النفط ينافس مخزون المملكة العربية السعودية، ظلّ بمنأى عن أي استكشاف أو استخراج طيلة 30 سنة من الحرب والحصار، خاصة في جنوب شرق العراق حيث يقدّر الخبراء وجود أضخم تجمّع لآبار النفط في العالم.
15 بئراً منها سوف تكون محلّ مزادات عالمية، بينها حقل ‘مجنون’ مثلاً، الذي يُقدّر احتياطيه بـ 12.58 مليار برميل ولا ينتج حالياً إلا 45 ألف برميل، فاز بعقد تطويره إتحاد شركة ‘شيل’ العملاقة و’بتروناس’ الماليزية، حيث من المتوقع أن يرتفع إنتاج البئر إلى 1.8 مليون برميل يومياً. في المقابل، سوف يحصل الإتحاد هذا على أجر مالي، وليس حصة نفطية، بقيمة 1.39 دولار أمريكي عن كلّ برميل؛ مقابل عرض شركة ‘توتال’ الفرنسية وCNPC الصينية باستخراج 1.405 مليون برميل يومياً، لقاء 1.75 دولار للبرميل.
ومن حيث المبدأ، هذه هي الخطوة الأولى على طريق إخراج البلد من ‘لعنة’ تصدير كمية نفط يومية تقارب المليونَيْ برميل، وتقلّ عن الكمية التي كان العراق يصدّرها في عهد صدّام حسين. بيد أنّ المغزى السياسي للمزاد، الذي أسفر عملياً عن فوز الشركات الأوروبية والصينية بحصّة الأسد، كان توجيه صفعة جديدة إلى واحدة من أهمّ ستراتيجيات غزو العراق كما عبّر عنها، في صيغة أو أخرى، أمثال جورج بوش الابن ونائبه ديك شيني ووزير دفاعه دونالد رمسفيلد ورهط المحافظين الجدد في الإدارة السابقة وخارجها. تلك الستراتيجية كانت تستهدف وضع النفط العراقي في القبضة الأمريكية، أو تحت وصايتها شبه التامة، بما يعيد صياغة القسط الأعظم من شروط اللعبة الجديدة لإدارة حروب الطاقة، على الجبهة الأورو ـ آسيوية بأسرها، وبرصيد لا يقلّ عن 115 مليار برميل من المخزون العراقي المؤكد.
المغزى السياسي الآخر هو دحر النظرية التي بشّر بها أمثال بول ولفوفيتز وريشارد بيرل، من أقطاب البنتاغون خلال حقبة الغزو، حول قدرة العراق على تمويل مشروعات إعمار البلد ذاتياً، واعتماداً على الثروة النفطية، ودون اللجوء إلى مصادر تمويل واستثمار خارجية. والحال أنّ معظم الوقائع لا تكذّب هذه النبوءة الزائفة فحسب، بل ثمة معطيات متزايدة تشير إلى مأساوية الحال التي بلغتها طرائق توظيف عائدات النفط العراقية، في خدمة نزر يسير من احتياجات العراقيين الماسة. ومن المعروف أنّ مقدار الـ 60 مليار دولار من عائدات النفط السنوية لا تكفي سداد رواتب بعض مستخدمي الدولة، وعلى رأسهم الـ 750 ألف عامل في سلك الشرطة وأجهزة الأمن.
المزيد من المغزى، في شطره الأمريكي تحديداً، توفّره التقارير ربع السنوية التي يصدرها ريشارد بوين، الذي يشغل منصب ‘المفتش الخاص لإعادة إعمار العراق’ بموجب قرار من الكونغرس الأمريكي صدر في خريف 2004، بعد حلّ السلطة الائتلافية المؤقتة التي كان يقودها بول بريمر. وكانت مهمة مكتب التفتيش هذا هي الإشراف على ‘صندوق تنمية العراق’، الذي أنشأه مجلس الأمن الدولي سنة 2003، ثمّ آلت مسؤوليته إلى العراق أواخر سنة 2007، بناء على طلب الحكومة العراقية، لتحقيق الاهداف التالية: 1) إعادة الإعمار الاقتصادي للعراق؛ و2) النزع المتواصل للسلاح؛ و3) الإنفاق على الإدارة المدنية العراقية؛ و4) الإنفاق على أغراض أخرى لصالح الشعب العراقي.
والإنصاف يقتضي القول إنّ بوين لم يكن يشاطر إدارة بوش الابن، ولا إدارة الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما، توصيف أحوال العراق الإدارية، أي: المالية والإستثمارية والتعاقدية. هنالك وقائع مذهلة ساقها المفتش الخاصّ، تروي فضائح واختلاسات وهدر أموال عراقية، على يد بعض ممثلي سلطة التحالف، وبمشاركة أو بعلم أو بتشجيع أو بإغماض العين من جانب السلطات الأمريكية. وفي كلّ تقرير جديد، ثمة اقاصيص تبزّ ما قبلها في النهب والسلب واللصوصية المفتوحة، وكانت خلاصات الرجل وتوصياته ستمرّ مألوفة عادية، على هدي ما يجري من فساد هنا وهناك في العالم شرقاً وغرباً، لولا أنّ التفاصيل تظلّ مذهلة في جانبين جوهريين على الأقلّ: أنّ الفضائح تدخل في سياقات منهجية منتظمة تجعلها أقرب إلى النسق الدائم وليس المظاهر العابرة، وأنها تتمّ في شروط احتلال عسكري تمارسه ديمقراطية عريقة يحدث أنها أيضاً القوّة الكونية الأعظم، الساعية إلى إرساء نظام ديمقراطي ودولة قانون في العراق.
تقريره الأحدث عهداً، والذي حمل العنوان اللافت التالي: ‘من الإندفاعة في عدد القوات الأمريكية المقاتلة إلى السيادة’، يسرد تحقيقات في 80 ملفّ فساد وإفساد، بينها النماذج التالية: مقاول مدني دفع أكثر من 2.8 مليون دولار من الرشاوى لضابط في الجيش الأمريكي، برتبة رائد، يعمل مسؤولاً عن العقود؛ أقرار من شركة أمريكية كبرى بارتكاب مخالفات جنائية للحصول على عقد بقيمة 8.5 مليون دولار، لتوريد عربات أمنية؛ إدانة عقيد سابق في الجيش الامريكي، والحكم عليه بالسجن لمدّة 30 شهراً، لمشاركته في صفقة احتيال؛ الحكم على موظف عقود في وزارة الدفاع، بالسجن لمدة 50 شهراً بسبب قبول الرشوة وارتكاب سلسلة مخالفات قانونية…
وهذه حال صارت شبه مستقرّة، شبه دائمة، شبه اعتيادية، تستدعي تلك الأسئلة الشائكة عن عائدات النفط العراقي: ما قيمتها؟ أين تذهب؟ مَن يتحكّم بها؟ وهل توضع في خدمة العراقيين، حقاً؟ ذلك لأنّ ما يتوفر من معلومات رسمية يشير إلى إنّ كامل عائدات مبيع النفط والغاز، بالإضافة إلى مليار دولار اقتُطعت من ‘برنامج النفط مقابل الغذاء’، ذهبت إلى ‘صندوق تنمية العراق’، دون سواه. ونعلم أنّ ذلك القرار نصّ على وضع الصندوق في عهدة الإحتلال، بغرض استخدام الأموال على نحو شفاف لتلبية الحاجات الإنسانية للشعب العراقي. كذلك نصّ على أن يعيّن العراق هيئة محاسبة تتابع أوجه صرف تلك الأموال، بما في ذلك قانونية العقود التي تبرمها سلطات الإحتلال مع مختلف المتعاقدين.
في المقابل، ما لا يعرفه الكثيرون كان أمثال غازي الياور وإياد علاوي وإبراهيم الجعفري يعرفونه حقّ المعرفة، ويعرفه اليوم جلال الطالباني ونوري المالكي، حول عرقلة أيّ تدقيق لعقود الإحتلال مع الشركة العملاقة ‘هاليبرتن’، ذات الارتباطات الوثيقة القديمة والمتجددة مع نائب الرئيس الأمريكي السابق ديك شيني. وهذا يستولد أسئلة جديدة من الاسئلة العتيقة حول أنساق النهب، وهل مردّها أشباح الحرب الأهلية، واقتتال السنة والشيعة، وانقلاب العراق إلى مرتع للإسلاميين المتشددين من كلّ حدب وصوب، وإلى مختلف صنوف الإرهاب والإرهاب المضادّ؟ أم أنّ المسؤولية تقع على عاتق حكومة المالكي، لأنّ الأخير إما جاهل أو محدود القدرات؟ أم هي طبائع الإحتلال ومآلاته، وبينها ثقافة النهب المنظّم لثروات العراق؟ وهل يدهشنا أن نقرأ هذه الأيام تحليلات باذخة، يوقعها كبار متقاعدي الدبلوماسية الأمريكية، تتحدّث عن الحرب الأهلية في العراق، ليس بوصفها بعض عواقب الاحتلال، بل لأنها قدر استشراقي وتحصيل حاصل مجتمعي لا مهرب منه؟
وللمرء أن يضيف، هنا، سياقاً طريفاً وخاصاً، صنعته المذكرة السرية التي سطّرها ستيفن هادلي، مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق، وأثار فيها الكثير من الشكوك حول كفاءة المالكي. ومن الصعب أن يتخيّل المرء سبباً، أو سلسلة اسباب، تدعو هادلي إلى التحامل على المالكي، ليس لأنّ الأخير كان ويظلّ رجل الإحتلال المفضّل في منصب رئيس الوزراء فحسب؛ بل لأنّ الأوّل يسوق جملة من الحقائق البسيطة عن الرجل، بينها هذه مثلاً: ‘صحيح أنّ نواياه تبدو طيبة حين يتحدث مع الأمريكيين، وثمة تقارير حساسة تشير إلى أنه يحاول مواجهة التسلسل الهرمي الشيعي وفرض التغيير الإيجابي، إلا أنّ الواقع في شوارع بغداد يوحي بأنّ المالكي إما جاهل لما يجري، وبالتالي فهو يسيء تقديم نواياه، أو أنّ قدراته ليست بعد كافية لتحويل نواياه الطيبة إلى فعل’.
ألا يستعيد طارق الهاشمي، نائب رئيس الجمهورية، في حديثه عن مسؤولية المالكي إزاء التدهور الأمني واستئناف العمليات الإرهابية، خطاب لوم مشابهاً لذاك الذي اعتمده هادلي؟ ألا يدعو رئيس الوزراء إلى تقديم استقالته، لعجزه عن إدارة البلد وحماية ارواح الأبرياء: ‘المسؤولية الأدبية والشرعية والدستورية تقتضي على المالكي ترك منصبه لغيره إذا كان لايستطيع تأدية مهامه في إدارة الدولة’؛ وكذلك: ‘الحكومة التي لا تستطيع حماية مؤسساتها ووزارتها من الأعمال الارهابية، لاخير فيها’؛ وأخيراً، في إحالة إلى ملفّ الفساد: ‘التفجيرات التي شهدتها العاصمة بغداد كان سببها دمج عناصر المليشيات في الأجهزة الأمنية، ومن السهل اختراق هذه العناصر من خلال الرشوة’.
وكما قيل من قبل، وينبغي أن يُقال اليوم: إذا كانت هذه حال رئيس الوزراء الممثل لكتلة الاغلبية البرلمانية المنتخَبة ديمقراطياً، تحت الإحتلال بالطبع، فما الذي يمكن أن تسير إليه قدرات الإرهابيين الذي يقودون مفارز الخطف والإعدام على الهوية، أو قدرات الإرهابيين الذين يمارسون الجرائم ذاتها على الطرف الآخر من الإنقسام المذهبي؟ وكيف يمكن للساسة، الذين يتغنى المالكي بقدراتهم على الحلّ والربط متناسياً أنه يقف على رأسهم، جامعاً تمثيل السلطة التشريعية (بوصفه رجل الأغلبية البرلمانية) والسلطة التنفيذية في آن، أن ينجحوا في تربيع دائرة الدم الجهنمية هذه، إذا كانت الحال بأسرها تسير حثيثاً إلى الهاوية؟
وكيف لمعجزة كهذه أن تقع إذا كانت الحال الراهنة في العراق، حيث البون شاسع بين النوايا في القلوب وعلى الألسن، والجثث في الشوارع والقبور الجماعية، ليست طارئة ونتاج العنف غير المسبوق في الشهرين الماضيين (كما يحاول البيت الأبيض الإيحاء، وكما تردد بعده حكومة المالكي)، بل هي سيرورة متصلة مترابطة كما سيفكر أيّ عاقل. والمرء، سيما إذا مارس رياضة الربط بين الظواهر سنة بعد سنة وشهراً بعد شهر، لكي لا نقول أسبوعاً بعد أسبوع، سوف يبلغ خلاصات جلية حول بدء تلك الحال ومسيرها ومآلاتها الراهنة، دون كبير عناء للأسف الشديد، ورغم مأساوية ما يجري ويتفاقم، ويتطوّر ويتفجّر.

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى