صفحات سورية

النظام الإقليمي العربي.. إلى أين؟

null

عبدالله تركماني (*)

في عالم اليوم لم تعد النظم الإقليمية تعبيراً عن مصالح إقليمية فحسب، بل هي استجابة لتطور العلاقات الدولية. فإذا كان المضمون السياسي والعسكري والاستراتيجي قد حكم علاقات وتفاعلات النظم الإقليمية التقليدية، فإنّ المحتوى الاقتصادي ـ الاجتماعي ـ الثقافي، على الخصوص،
يحكم علاقات وتفاعلات التكتلات الإقليمية الجديدة. وأياً كان نوع الاختيار ودرجة تكيّف الدول والنظم الإقليمية مع التكتلات والشراكات الإقليمية والدولية الجديدة، فإنها مطالبة بإجراء مراجعات دقيقة لأهدافها وهيكليتها وطبيعة علاقاتها مع بيئة عالمية جديدة.

إنّ النظام الإقليمي العربي في لحظة سياسية بالغة الدقة: تمزق وتنافر، خلافات بينية، ضعف وترهل بلغ في بعض دوله حد الإنهاك وفي أخرى حد الدول الفاشلة. وبلغ التفكك والتنافر، رغم انتظام عقد القمة العادية بشكل دوري منذ العام 2000، في السياسات والمصالح درجة غير مسبوقة، تقلص معها العمل العربي المشترك إلى حدود دنيا، وبدأ التركيز على مصلحة الأنظمة الخاصة. وقد تجلى هذا السلوك بوضوح في الموقف من القضية الفلسطينية، حيث تراجع مستوى التعاطي معها إلى حدوده الدنيا. كما تجلى في تعثر المبادرة العربية بشأن انتخاب الرئيس التوافقي الجنرال ميشال سليمان رئيساً للبنان، بفعل التعطيل الذي مارسته القوى المساندة للنظام السوري، اعتقاداً منه أنّ هذا التعطيل يخدم مصالحه.

لقد أثّرت مجموعة عوامل في إضعاف أداء النظام الإقليمي العربي، ومن أهمها: غياب التمثيل الشعبي في أجهزة الجامعة ومؤسساتها، وعدم وجود آلية لمتابعة مدى التزام الدول بقرارات الجامعة، والتمسك بقاعدة الإجماع في القرارات، وعدم الأخذ بالمنهج الوظيفي لتحقيق الأهداف المشتركة المقرة في إطار الجامعة.

إلا أنّ الإشكالية الرئيسية التي تواجه العالم العربي اليوم فهي تتمثل بإيجاد صيغة لنوع من السيادة القومية الجماعية في بعض المجالات، من دون التفريط بجوهر السيادة الوطنية لكل دولة عربية. خاصة بعد أن زاد التطور الذي حدث في العلاقات الدولية، لجهة قبول التدخل في الشؤون الداخلية للدول لاعتبارات إنسانية وانعكاس العولمة على طبيعة السيادة الوطنية، الوضع العربي هشاشة، وجعله أكثر انكشافاً على الصعد السياسية والاقتصادية والثقافية وأكثر قابلية للاستتباع.

ومن هنا، تبدو الحاجة ماسة لإعادة صياغة النظام الإقليمي العربي بما يتوافق مع الأوضاع الجديدة التي فرضتها المعادلات الجيو ­ استراتيجية في المنطقة والعالم، يستند إلى دول عربية عصرية تقوم على أسس الحق والقانون والديمقراطية وحقوق الإنسان، ويدرك عناصر القوة الكامنة لدى الدول العربية ويفعّلها لما يخدم الأهداف المشتركة. وعليه، يصعب إطلاق ديناميكية مضادة مؤثرة إن لم تكن ديناميكية ناضجة، تتعاطى مع التحديات بعقلانية في سياق التحرر الديموقراطي وإعادة بناء الدول والمجتمعات العربية على قواعد احترام الكرامة الإنسانية وسيادة القانون وحماية الضعفاء وحرية الرأي.

إنّ الحكومات العربية التي تتصدر الجامعة، هي التي بحاجة إلى إصلاحات عميقة في أنظمتها السياسية وبناها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإدارية، وهي التي تواجه مطالب متصاعدة من قبل شعوبها. فالمطلوب أولاً أن تتجاوب أنظمة الحكم العربية مع مطالب الإصلاح الداخلية، وتعيد ترتيب بيتها على أسس ديمقراطية سليمة. فالجامعة ـ في نهاية المطاف ـ هي جامعة حكومات عربية، وليست جامعة شعوب، وهي انعكاس صادق لأحوال هذه الحكومات وسياساتها، وبما أنّ جوهرها يقوم على الفساد والمحسوبية و”أهل الولاء” ومصادرة الحريات العامة وانتهاك حقوق الإنسان، فإنّ من غير المفيد إصلاح المرآة وإبقاء الأصل على حاله.

هناك حاجة إلى إعادة الصياغة والبناء والتركيب للحياة والمجتمعات العربية والعمل العربي المشترك على أسس جديدة، باستثمار الطاقات المعطلة والانخراط في إعمال المفاهيم والقيم والنظم المجدية، التي تثمر معرفة وثروة وقدرة وقوة، بها نحسّن سمعة الأمة ونستعيد الكرامة العربية المهدورة.

(*) كاتب وباحث سوري مقيم في تونس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى