صفحات مختارة

تحديدات أولية في العلمانية

معتز حيسو
تُعبّر العلمانية عن جملة قوى وتحولات وتصورات تاريخية تستغرق في سياق تطورها السياسي والاجتماعي والمفاهيمي جملة القوانين العلمية الدالة عليها وفق منظور تحليلي علمي للواقع الاجتماعي المحدد على المستويين الاجتماعي والطبيعي . وبذلك تدلل العلمانية على ضرورة إعمال العقل النقدي في التحولات الاجتماعية والطبيعية وغيرها ،وعلى ضرورة التجدد والتجديد في سياق التطور التاريخي بعيداً عن الثبات والركود والركون للماضي وللموروث الثقافي بأشكاله ومستوياته السلبية .
وتنعكس العلمانية في أشكال الحكم والسلطة السياسية من خلال علمنة المكان والزمان والتحولات القانونية والدستورية المواكبة والمعبرة عن المتغيرات المجتمعية . وعلى هذا فالعلمانية متساوقة ومحايثة لحركة المجتمع والفكر الذي يميل إلى تنحية الأشكال والأنماط الفكرية القائمة على الخرافة والنقل والتسليم .. مكرسة فصل السلطة الدينية ورموزها عن السلطة السياسة بعيداً عن مفهوم الإلحاد وتكفير المجتمع ونفي التدين بكونه ظاهرة اجتماعية موضوعية .
فالعلمانية بذلك ليست وصفة أو صيغة جاهزة تختارها جماعة معينة في لحظة تاريخية معينة لتطبيقها إرادوياً بقدر ما هي آليات وأشكال تفكير وممارسة وتحليل تجب الواقع في سياق تجاوزه الموضوعي .
لكن وكما هو ملاحظ بأن الأشكال والتعبيرات السياسية التي سيطرت بوصفها علمانية لم تتجاوز الأنماط الثقافية السائدة بل اعتمدت عليها وساهمت في تنمية بعض التشكيلات العشائرية والطائفية والدينية لضمان استمرار سيطرتها السياسية . وقد نمت في أحضانها بعض التشكيلات الدينية المسيسة التي تعتمد الأشكال الانقلابية في ممارستها السياسية. لنصل إلى لحظة يتزايد فيها المد الأصولي بأشكاله السلفية والجهادية على حساب التدين الموضوعي والدين المتنور.
إن المجتمعات الإنسانية تعبر في صيرورة تطورها ، عن مكنوناتها الداخلية ومفاعيلها المتنوعة والمتعددة.بالتالي يكون المحقق واقعياً تعبيراً وتجلياً موضوعياً عن فاعلية البنى الاجتماعية في سياق تطورها الموضوعي .
لقد استطاعت الكثير من المجتمعات التي شهدت ثورات معرفية ، فلسفية ،علمية من إيجاد إمكانيات حقيقية في بناء أشكال وأنماط ثقافية تقطع مع أساليب وأشكال التفكير الأصولي السلفي .ولن نجافي الحقيقة عندما نؤكد بأن معظم المجتمعات التي حققت تطوراً واضحاً كان للعامل العلمي و الثقافي والفلسفي الدور الأساس في إنجاز القطع المعرفي المتجاوز للماضي والمتحررة من السيطرة الذهنية السلفية وآليات التحليل والممارسة الفكرية الأصولية ، والتأسيس لأشكال وأنماط فكرية تقوم على نقد ونقض البناء المعرفي الأصولي .
هذا يقودنا إلى القول بأن أنساق التطور المعرفي مفتوحة دائماً على التطور والتغير .ويمكننا التأكيد أيضاً بأن المفتاح الرئيسي والبوابة الحقيقية لتجاوز الإستنقاع والركود المعرفي والذهني يتمثل في إقامة الحد على المفهوم وإقامة الفصل والقطع المعرفي مع عوامل وأسباب التخلف لتكوين وتأسيس آليات إدراك وتحليل علمي يساهم في بناء آليات تفكير موضوعية وعقلانية تساهم في تحطيم التابوات والذهنيات الأصولية المتزمتة التي مازلت تتحكم بمفاعيل التطور الثقافي وتقيم الحواجز في وجه التطورات والمتغيرات العلمية .
لقد خضعت المجتمعات العربية بشكل عام إلى أشكال من السلطات السياسية التي عمقت الوعي الديني على مدار عدة قرون ، لينعكس هذا لاحقاً في استمرار الوعي الديني وسيطرته على آليات التفكير وأساليب الحياة الراهنة . بخلاف المجتمعات التي أسست لوعي علمي كان من نتائجه انحسار الوعي والإدراك الديني إلى المستوى الذاتي للإنسان، وعلى ممارسة الطقوس الإيمانية بعيداً عن الحياة السياسية ، و إقامة الفصل بين الدين والسياسة بخلاف ما نلاحظه في بلداننا العربية حتى الآن من سيطرة الفكر الديني على آليات التفكير والممارسة النظرية والسياسية لبعض النظم العلمانية الشكلانية ، ومحاولة الكثير من الأطراف التوفيق و المصالحة بين الفكر العلماني و الفكر الديني . إضافة إلى أن بعض رموز الفكر الديني الأصولي السلفي يعملون على تسييس الفكر الديني لتكريس شكل دولة دينية يتماهى مع نموذج الدولة الإسلامية التي كانت سائدة في صدر الإسلام ، وكأن عجلة التاريخ وصيرورة تطوره توقفت، أو أن التاريخ يعود القهقرى .
ونلاحظ حتى اللحظة سيادة الفكر المطلق الذي يتجلى في بعض من جوانب شخصية الحاكم المتماهى بالصفات الألوهية المكرَّسة بالممارسة السياسية . وقد ساهمت التجربة السوفيتية في تعزيز سيادة الفكر الشمولي والنظم الاستبدادية التي قادت إلى تغييب الفرد في الأنا الجمعية المتمحورة حول الحاكم المطلق المعبر عن المجتمع والناطق باسمه.. . لنلاحظ بأن ما هو سائد حالياً ليس وليد اللحظة الراهنة، بل يعود إلى سيرورة تاريخية طويلة ساهمت فيها الممارسات العامة لسلطة الدولة المركزية لفترات زمنية طويلة لأسباب (مناخية ،اجتماعية، سياسية، سيكولوجية ، اقتصادية ….) . وهذا لايعني مطلقاً بأن نظمنا الحالية تحكم باسم الدين أو تمثل سلطة دينية ،أو تسعى إلى إقامة دولة دينية ، باستثناء بعض الدول ، لكنها تستفيد وبشكل واضح وملموس من مزاوجة الوعي الديني مع منظومتها المعرفية، و مع نمط الدولة العلمانية الشكلانية .
وهذا يفترض العمل على تدقيق آليات ممارستنا النظرية وأدواتنا المعرفية ، وآليات العمل السياسي . و تعميق وتوسيع الإنتاج النظري والمعرفي القائم على نقد ونقض المنظومات والأنماط المعرفية الأصولية التي ما زالت تؤثر على ممارستنا السياسية ، والعمل على إنتاج هوية معرفية تقوم على ترسيخ فكرة الفرد الديمقراطي الحر. والتأكيد على ضرورة المساهمة النظرية لتجسيد فكرة الدولة الحديثة القائمة على الفكر العلماني الديمقراطي.
لقد أدى تقاطع الفكر الماركسي / الشيوعي في البلدان العربية مع الفكر الديني وبعض مستويات الفكر العروبي المتخلف في الممارسة السياسية لبعض الأحزاب الشيوعية الرسمية إلى تكريس السلطة الفردية المطلقة المتمثلة في شخص الأمين العام ، وإلى تحويل الماركسية إلى عقيدة ومذهب ونص مقدس يتحول فيها النسبي إلى مطلق .
و قد جرى العمل من قبل بعض الأحزاب الشيوعية على تكييف الواقع مع معايير المنظومة المعرفية الماركسية بأشكال دوغمائية حولت المنظومة الماركسية العلمية إلى نص معرفي جامد .
إن الماركسية تمثل فكراً علمياً يتجاوز الفكر الغيبي نقدياً ، وأيضاً تمثل الماركسية فكراً مواكباً للتطور ومتجاوزاً له ومستغرقاً للمعارف العلمية التي يتطور على أساسها ، و تشكل أداة معرفية علمية تساهم في تحليل الواقع الموضوعي الملموس لتغييره وتجاوزه في سياق بناء مجتمع علماني ديمقراطي ، لكنها تحولت بفعل دوغمائية وجمود بعض الأحزاب الشيوعية العربية إلى أداة ثلمه لا تعكس مجريات اللحظة الراهنة التي تتسم بالتشظي والتحلل المجتمعي وتراجع القدرات الوطنية والملكات الثقافية ، وغير قادرة على تغيير الواقع الراهن لما يسود العمل الاجتماعي والسياسي والثقافي من تأزم وانسداد للآفاق …. ويتساوق استنهاض العلمانية مع تزايد المد الأصولي وتنامي آثاره الاجتماعية و استمرار السيطرة لأنظمة سياسية حكمت وما تزال باسم العلمانية ، لكنها أسست بفعل ممارستها السياسية لأشكال متنوعة من الشمولية والاستبداد ، وآل فشلها التنموي والسياسي إلى تفاقم الأزمات الاجتماعية . وعليه فمن الضروري التنبيه لأهمية التربية التي تكرس مفاهيم التحرر والإنعتاق من سطوة المفاهيم الغيبية والتسليمية ، و العمل على تكريس وتطوير آليات تفكير وإدراك وتحليل وممارسة اجتماعية علمانية بعيداً عن الفكر التكفيري أو الإلحادي .
الحوار المتمدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى