صفحات ثقافية

غضْبة الصّحرَاء

null
محمد بنيـس
كان سَالم يتكلم بهدوء وهو يسوق سيارة جيبّ قديمة. أرضُ الصحراء يعرفها. فيها كبُر وفيها تعلم الدروسَ الأولى للحياة. صحراءُ في أقصى الصحراء، تطل على الخليج العربي. في عجْمان، تحديداً. سالم يسوق السيارة ويتكلم عن جمال الأرض الصحراوية، بشغف مَن اهتدى إلى أعْماقها. حسّه لا تشوّش عليه حياة المدينة الصناعية الحديثة ولا مدينة البنايات الحديثة. ومعرفته تنفذ إلى أشدّ المظاهر خفاءً في الصحراء.
هناك تعرفتُ عليه. في إقامته خارج المدينة وعلى حافة طريق سيّار، حيث يعيش بطريقة تختلف عن حياة البدو الرحل القدماء. هناك اختار أن ينشئ واحة لاستقبال الراغبين في الدخول إلى فضاء الصحراء المفتوح على اللامحْدود. شمّ أنفاس الرمال ونباتاتها، ترْكُ البصر ضائعاً تحت لانهاية النجوم، تتبعُ آثار نهر جفّ ماؤه بين الحلفاء والطلح. هو صاحب واحة سياحية. يريد من خلالها ممارسة صنعة تكفل له الحياة، ويريد لها كذلكَ أن تعبّر عن حبه للصحراء وانشغاله بما آلت إليه في عصر التحولات المدنية الأخيرة في بلدان الخليج العربي. يعيش في الواحة وعينه على ما يصيب عالم الصحراء من تدهور.
عندما سألني صديقي إبراهيم سعيد الظاهري عم أريد أن نزور، إيزابيلا كيكاييني وبرنار نويل وأنا، أجبت على الفور: ‘الصحراء’. كنت أعلم أن تلك كانت رغبتنا.
زيارة الصحراء ولو لقسط من يوم. ما الذي يمكننا أنْ نراه أجملَ من هذا المدى الذي لا ينحدّ؟ لكنه مدى يحمله لنا الشعر الجاهلي ببذخ يصعب أن ينازعه فيه أدب إنساني آخر. وصورة الصحراء في الشعر الجاهلي هي ما يعيدني إلى ما لا أفهمُ كلما كنت مسافراً إلى بلد عربي. أنظرُ إلى هذه البلاد فإذا بالصحراء تسكنها، من نشأتها الأولى.
زيارة الصحراء، في أي بلد عربي. مع ذلك فهي هناك، في عجمان، على مشارف الربع الخالي. مرة وأنا في قطر، قال لي صديق، خلال حديثنا عن الصحراء: ‘من يريد أن يرى الله، يخرج في منتصف ليلة مقمرة إلى الربع الخالي ويقيم خيمته في وسط الرمال.
يجلس ويصمت، حتى يري ما نحن عادة لا نراه في المدينة أو في الجبال والسهول. ضوء كاشف لا تعرف من أين يأتيك ولا إلى حيث يذهب.’ وفي كل مرة لي الرغبة نفسها. هي رغبة من له شوْق المتاهات في جمال أرض لا يفارقه مداها. بل إن كلمة ‘المدى’ هناك تراها مجسّدة. اللانهاية تحيط بك. لا ترى إلا المدى البعيد، الأبعد.
بهذا استعْجلتُ زيارة طرف من الصحراء. زيارة بدون شروط. وهناك، في المنطقة التي تتداخل فيها أراضي الإمارات مع بعضها البعض، التقيتُ سالم، سيّـدَ الصحراء. بعد أن تبادلنا كلمات قليلة اقتنعْتُ أنه فهم جيداً قصدي. لستُ من أولئك الزوار الذين يقبلون على الصحراء بنظرة تحـقيرية ولا اسشتراقية. بينها وبيني عهدٌ. من هناك لي الكلماتُ العربية الأولى. ومن هناك عشقُ ما لا يفنى.
على بعد من الحدود الفاصلة بين الواحة وبين الصحراء كان أطفال يسوقون دراجات نارية ذات العجلات الضخمة، المصنوعة للسير في الرمال. رياضة سيارات الرمال يسمونها. يتوقف ويتوجه إليهم بكلمات يذكرهم فيها بأن المنطقة لم تعد تحتمل عبث عجلات الدراجات النارية. يستجيبون لكلماته ويرجعون. تتقدم السيارة بمهارة سائقها الخبير بالشعاب. أراه وكأنه الراحل القديم عبر الطرق الصحراوية التي لا يقدم على متاهاتها ومخاوفها إلا المطّلعون على أسرار الصحراء، المتعودون على اقتحام المجاهل.
سالم دقيق الملاحظة. ‘إنهم لا يحترمون الصحراء، ولا تعنيهم البيئة. يقولون إن وزارة البيئة تحافظ على الصحراء. ولكن أصحاب المال لا يتوقفون عن زيارة جميع مناطق ‘البر’ للاستيلاء عليها وتحويلها إلى منشآت وعمارات. المال يأكل الصحراء’. ثم يوقف السيارة ويضيف:’ انظر إلى ما يفعل سائقو السيارات هنا. كل شيء يدوسونه بالعجلات. كل النبات هنا مهددة بالموات.’ هي أكبر من ملاحظات. عاشق الرمال ينتقي كلماته لينقل لنا غضْبة الصحراء. لا يتنازل عن البوح بكلمات متألمة، معذبة. وأنا أوافقه على ما يقول. لا أجامله. ينظر سالم إلى السيارات والحافلات في الطريق المتواري عن أنظارنا بغمّ في نفسه. يقول لي ‘ اسمعْ هذا الضجيج وانتبه إلى التلوث المنبعث من المحركات.’ ثم يعود بعد قليل من صمته: ‘هذه الأزمة المالية العالمية خير وبركة على الصحراء. منذ مدة لم يعد أحد يزور المنطقة حاملاً آليات المسح. الأحوال هدأت هذه الأيام. الصحراء أعز علي من جميع أموالهم.’
لماذا المال يستولي على كل شيء في الطبيعة؟ لم لا يترك الحياة حرة في الصحراء؟ ومن يفهم أن كل واحد منا يعثر في الصحراء على ما تسكن إليه العين، أو ما تستريح به النفس.
فضاءٌ مفتوح على ما يكلمنا ونحن لا ندري كيف نجيب. تدفقُ شلال من الحالات تجذب الشخص إلى صمت تنفجر فيه طاقات لا حصر لها.
وسالم يقود السيارة لمسافة قصيرة ثم يتوقف فوق رأس تل. هنا الفضاء واسعٌ والعين تسافر إلى حيث ألوان الغروب تنعكس بدرجاتها على كتيبة الرمال. تموّجات تسرق الأنفاس. والصديق الذي كان وافقاً بجواري، يكلمني برزانة عن طفولته، قد انطلق. يجري بقدمين حافيتين.
هذا الطفل ينادي علينا ‘اخلعوا أحذيتكم واجروا فوق الرمال’. أسمعه. وأترك سالم والسيارة. أمشى بخطوات منتشية بموسيقى يختلط فيها صمت الرمال بهُبوب هواء منعش من جهة البحر. والأفق رمال تمحى فوقها آثار العابرين قبلي. هواء الغروب. رائحة الشيح. والرمال التي تنتظر النجوم.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى