صفحات مختارة

الخطاب الليبرالي المغالي إذ ينافي الفلسفة الليبرالية الحقيقية

null


صالح بشير

هل استوت الرأسمالية لاهوتا أو، على الأقل أيديولوجيا من ذلك النوع الثقيل والمحكم، الذي يُخضع الاجتماع البشري إلى مبدأ أوحد من قبيل ما كان سائداً أثناء الحقبة الشيوعية، والذي كانت الرأسمالية، لدى انتصارها عليه في معاقله السوفياتية وفي سوى ذلك من أنحاء العالم، قد زعمت عتق البشرية من ربقته وأعادت إرساء مبدأ الحرية من جديد أفقاً لكل تطور كوني، على ما كان يقول، في أعقاب الحرب الباردة، تفاؤل اشتط حتى بلغ مبلغ اليوتوبيا؟

في خطابِ وفي مقال الليبرالية الموغلة والتي استحكمت أقنوماً ما يوحي بذلك وما ينذر به. فإذا كان من سمات الإيديولوجيات التوتاليتارية أو ذات المنزع التوتاليتاري سعيها إلى تأكيد مبدأ ناظم، منطلقاً ومصادرة أو مآلاً ومنتهى، تزعمه ساريا على كل منحى من مناحي الحياة وحاوياً لها، فإن في هذه الليبرالية الجديدة، أو الفائقة، من مثل تلك السمات ما لا تخطئه العين.

أولها، على الصعيد «المعرفي»، أو ما يقوم مقامه من باب التجاوز الرامي إلى انتحال ما يُنسب إلى العلم من صحّة من أجل محض الإيمان، وإضفاء الشرعية استطراداً. ومن زاوية النظر هذه، يمكن القول إن مبدأ «اليد الخفية للسوق» يضاهي من حيث الوظيفة في يقينيات الرأسمالية المحدثة، ما كان يتولاه مبدأ «الصراع الطبقي» في نظيرتها الشيوعية الآفلة. إذ يُتوَسم في ذاك ما كان يُتوسم في هذا الأخير: «فضيلة» الباراديغم التفسيري الشامل، الكلّي النفاذ والمعبّر عن المنحى الحقيقي لمسار الأمور وعن جوهرها، والمكتسب بذلك صفة الفعل، تضفيها عليه حتمية لا فكاك منها.

قد لا يكون مبتدعو مثل تلك المفاهيم، من كارل ماركس إلى فريديريك هايك أو سواهما، من يتحمل مسؤولية ذلك الشطط، وقد لا تكون تلك المفاهيم عديمة العلْمية، ليس لها من جدوى غير تلك التي تسبغها عليها الإيديولوجيا، إذ لا غرو أن «الصراع الطبقي» كان مفهوماً خصباً في فهم مجتمعات الثورة الصناعية في الحقبة الرأسمالية الكلاسيكية وأن مفهوم «اليد الخفية للسوق»، وما ينُسب إليها من قدرة على استخلاص النظام من الفوضى، أي على إحلال الانتظام التلقائي، إن جازت العبارة، في عمل السوق الحرة، فاعل بدوره في تفسير «آليات» اشتغال تلك السوق، وأن المفهومين لا يمكن دحضهما أو الاستخفاف بهما بخفة ويسر، ولكن المشكلة، المفضية بهما إلى التوتاليتارية، أن المفهومين اقتُطعا من المجال القطاعي لكفاءة كل منهما، وفُرضا، من خلال أدلجتهما، مبدأ تفسيريا، وأداة فعل في التاريخ وفي المجتمع، واعتُبرا، بواسطة فعل إيمان، شاملين، جامعين غير مانعين (طالما أنهما لا يقران بوجود وجه أو منحى من وجوه ومناحي اجتماع البشر خارج «صلاحياتهما»).

والأمر ذاك معلوم في ما يتعلق بالشيوعية، قُتل تحليلاً ونقداً، وما عاد يتطلب إسهاباً، ولكنه قد لا يتبدى بقدر من الجلاء مماثل في ما يتعلق بخطاب الليبرالية الاقتصادية المغالية، لما لذلك الخطاب من قدرة لا تكاد تُضاهى على إنكار طبيعته الإيديولوجية وعلى التستر عليها، خصوصاً أنه قدم انتصاره على الأنموذج الشيوعي على أنه تجاوز للإيديولوجيا، كل إيديولوجيا، اجتثها وجبّها جبّاً مبرماً، حتى حُبِّر في تسعينات القرن الماضي ما لا يستوفيه إحصاء من الكتب والمقالات، العالِمة أو المتعالمة، حول «نهاية الإيديولوجيات».

ومع ذلك فإن المتمعن في منطق وطريقة فعل الخطاب الليبرالي المغالي، كما أرسته فترة ثاتشر – ريغان، وتمكن من بعدهما «فكراً وحيداً»، يجدهما من قبيل إيديولوجي سافر لا لبس فيه. من آيات ذلك أن اقتصاد السوق و «يده الخفية»، استويا أقنوماً أسمى، يعلو على كل ما عداه ويستتبعه ويخضعه إلى مشيئته. السوق متحكمة في كل شيء وهي مثال كل شيء. هي المولجة تحقيق الرخاء، لفضيلة فيها أصلية وملازمة، وهي لحريتها، صانعة كل حرية، إلى أي مجال انتمت، وهي ضمانتها. وهي إلى ذلك، الأنموذج الذي يجب أن يتشبه به كل شيء، إن نشد الجدوى وطلب الفاعلية، فكل إبداع، فكرياً كان أو فنياً، هو منتَج، يتم الترويج له كما يتم الترويج للمنتجات، يوجه إلى مستهلك وليس إلى طالب متعة أو انفعال فنييْن أو إلى صاحب فضول أو حاجة فكرييْن، والأحزاب ما عادت تدعو لمرشحيها بل أضحت «تسوّقهم» وباتت «الصورة»، بمعناها الأوسع، أهم من البرامج ما دامت هذه الأخيرة كفّت عن أن تكون محل خلاف يتعدى بعض التفاصيل، حتى الكنائس والأديان، خصوصاً في الغرب، لا سيما الأميركي، اكتسبت أدوات وتقنيات المنافسة التي فرضها السوق وأضحت تلجأ إليها لكسب الأنصار أو للحفاظ عليهم.

وتبعاً لكل ذلك، لعل أكثر ما يفضح الطبيعة الإيديولوجية للخطاب الليبرالي المغالي، أنه ينافي، في العمق، الفلسفة الليبرالية الأصلية في ما يمثل جوهرها المؤسس وكنهها الفارق. إذ قامت الليبرالية الكلاسيكية، واستقت فعلها التاريخي المتميز والثوري (بمعنى القاطع مع ما سبقه لا بذلك المعنى العنفي الدارج عندنا)، وأسست الحداثة على الفصل بين مختلف أوجه النشاط البشري وحقوله، من سياسة واقتصاد وأدب وثقافة ودين، وأنكرت إلحاق أي منها بأحدها، وكان ذلك أكبر مآخذ المعترضين عليها، من دعاة الإيديولوجيات الثورية، ممن سعوا إلى الأخذ بأقنوم إيديولوجي صلب، ينفي تلك الاستقلالية ويلغيها، إلى عدد من كبار المفكرين «الرجعيين» أو المعادين للحداثة الليبرالية، شأن الألماني كارل شميت، الذي كان من أشد ومن أبرز، ومن أعمق المعترضين على استقلالية القطاعات تلك، إذ رأى أنها أنهت السياسي، فسعى إلى أن يعيد إحلاله مبدأ ناظماً لسائر أوجه حياة الشعوب والمجتمعات.

وبديهي أن الخطاب الليبرالي المغالي، إذ أحل اقتصاد السوق مثل تلك المكانة وجعله محتكماً في كل ما عداه أو راجحاً وسابقاً عليه، ونجح في ذلك إلى حد كبير على ما أشرنا سابقاً، قد أخل بأبرز إنجازات الليبرالية الكلاسيكية والتحررية… والأنكى أنه قد فعل كل ذلك باسم ادعاء الوفاء لها والتشبث بها.

ثم إن هناك سمة أخرى من أوكد السمات التي تميز الآخذين بالإيديولوجيات الصلبة، هي تلك المتمثلة في إيلاء الأولوية لـ «الفكرة» على حساب الواقع، واعتبار الإنسان خادماً لها. إذ أن التعاليم، لدى الإيديولوجيين، أهم من الإنسان، وهو ما لا يشذ عنه دعاة الليبرالية المغالية. فعندما فرضت المؤسسات النقدية الدولية على بلدان العالم الأفقر، سياسات بعينها اهتمت بما اعتبرته تقيداً بالمقاربة الاقتصادية الأمثل والقويمة، ولم تعبأ بكلفتها الاجتماعية والبشرية، حتى إذا ما تبين خطأها، تم التراجع عنها دون إقرارٍ بخطئها، على ما هو ديدن الإيديولوجيين، ولأن الإيديولوجيات غير قابلة للتخطيء على ما ادعى الفيلسوف كارل بوبر.

كما تبين ذلك على نحو أفدح في الأزمة الغذائية الراهنة. فما دام من مقتضيات الإيديولوجيا الليبرالية المغالية التعاطي مع كل شيء على أنه مجرد منتَج لا تتحكم فيه سوى آليات السوق، فهي لا تميز الغذاء، كمادة أساسية للوجود البشري، فتجعلها محل مضاربة، مثلها في ذلك مثل مصنوعات الموضة أو الأقراص المدمجة أو كل منتج سواها، فلا تقيم تراتبا بينها غير ذلك تحدده الخطوط البيانية لكومبيوترات البورصات ولا تقوّم إلا وفق التقويم التقنوي المتعامي عن كل حاجة بشرية ملموسة.

لكل ذلك، قد لا يوجد من خلاص أو من وسيلة يُعتد بها، غير تلك المتمثلة في التصدي لتلك الإيديولوجيا، التي يتعين أن تُعامل على نحو ما تُعامل سائر الإيديولوجيات، وهو ما لا يمكن أن تفي به مؤتمرات كذلك الذي انعقد في روما، حول أزمة الغذاء العالمية، والذي قد تنحصر أهميته في اتخاذ إجراءات لمواجهة وضع ملحّ، وقد لا تتعدى جدواها ذلك على المدى الطويل.

الحياة – 08/06/08


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى