قضية فلسطين

ضاحية فقيرة في المدينة الكونية

null

أدونيس
(تحية الى نضال غزة)
– 1 –
< يبدو العالم العربي، أكثر من أي وقت مضى، في هذه السنة الجديدة 2009، كأنه ضاحية فقيرة في المدينة الكونية، مدينة العِلْم والتقدم والحرية.
– 2 –
في القرنين الماضيين، ركّزت الثقافة العربية، بمختلف وجوهها السياسية والفكرية والاقتصادية، على الأعداء – في الخارج. لكنها أهملت أو تجاهلت حلفاء هؤلاء الأعداء في الداخل – في السياسة، والاقتصاد، والثقافة نفسها، إضافة الى بنية المجتمع العربي – مؤسسات، وتقاليد، ومشروعات.
أهناك ما يدعو للأمل في أن يخطوَ العرب الى أبعدَ وأعلى، كما فعلت الصين والهند واليابان وكوريا، تمثيلاً لا حصراً؟
ويعني هذا الأمل أن يبدأ العرب بالتركيز على مشكلاتهم الداخلية، بحصر المعنى، مشكلات الفقر والبطالة والأمية، والحرية، واحترام الإنسان وحقوقه، رجلاً وامرأة، لا بعقلية التسامح، بل بعقلية المساواة؟
هل سيدركون، إذاً، أن تجرّؤهم على مواجهة أنفسهم شرطٌ أول لتجرؤهم على مواجهة الخارج وأعدائهم في الخارج؟ وهي مواجهةٌ تقتضي، بشكليها، أن يبتكر العالم العربي نفسه وحياته من جديد.
– 3 –
هل سيُتاح لنا، في هذا القرن الحادي والعشرين، وفي ضوء القرنين الماضيين أن نستخدم كلمة «عربي» لنصف بها هذا العالم الذي يتكلّم اللغة العربية؟
وهل سيحقّ لنا أن نحلم بأن يعمل هذا العالم للوقوف على مستوى واحد مع العالم الغربي – الأميركي، كما فعلت شعوبٌ كثيرة ليست أعظم من العرب، لا على صعيد القدرات والطاقات البشرية، ولا على صعيد التجربة التاريخية؟
لكن، دون ذلك، ألن يكون من المُحال أن يتحوّل العالم جميع «ألعابها» – سياسة، واقتصاداً، وثقافة.
هل سيجرؤ العالم العربي على رفض التسلح العسكري، إلا بعد أن يتم تسلحه البشري في جميع الميادين غير العسكرية – أي بناء الإنسان والمجتمع، أولاً، بناء مدنياً.
دون ذلك لن يكون للعرب في خريطة العالم الجديدة، غير الموقع إياه: الخضوع والتبعية.
– 3 –
ما الذي يحول دون أن يأخذ العرب، عبرة ودرساً من حدثين غيّرا نظرة الدول «القوية» الى نفسها، والى العالم؟ هذان الحدثان يتمثلان:
أولاً، في العراق. فقد انهار الجيش العراقي الضخم، عدداً وعدّة، في أيام قليلة (ربيع 2003). وسقط العراق في القبضة الأميركية. لكن، وهنا مجال العبرة والدرس، لم تستطع القوة الأميركية حتى الآن، بدايات 2009، أن تُقيم الأمن على أرض العراق.
ثانياً، في لبنان. لم تستطع القوة الإسرائيلية الضخمة أن تنتصر في حربها على لبنان 2006. بل فشلت، كما تعترف إسرائيل نفسها.
وما المعنى العميق، إذاً، في هذين الحدثين؟
يحتاج العربي الى قوة، كما نقول: القوة الأوروبية، أو القوة الأميركية، أو القوة الصينية، أو القوة اليابانية، أو حتى القوة الإسرائيلية؟
لكن، دون ذلك، سيبقى العالم العربي، كما هو اليوم، ساحة مفتوحة لهذه القوى ولغيرها، تمارس فيها ألعابها، وخططها، سياسة، واقتصاداً، وثقافة. ولن يكون للعرب، تبعاً لذلك، دورٌ في خريطة العالم الجديدة، إلا دور الخضوع والتبعية.
– 4 –
هناك حدثان عربيان غيّرا نظرة الدول «القوية» الى نفسها، والى العالم هما: الغزو الأميركي للعراق، ربيع 2003، والحرب الإسرائيلية على لبنان، صيف 2006.
في الحدث الأول، انهار الجيش العراقي «الضخم»، في أيام قليلة، لكن الشعب العراقي قاومَ القوة الغازية، وهي حتى الآن عاجزة عن إقامة الأمن على الأرض العراقية.
وفي الحدث الثاني، فشلت القوة الإسرائيلية «الضخمة» في حربها، كما تعترف إسرائيل نفسها.
ويثبت الحدثان «عجز القوة»، كما يعبّر ريمون آرون. يُثبتان أيضاً أن مقاومة الغزو تتمثل، أساسياً، في الشعب. فقد تُغلب الجيوش، لكن الشعب لا يُغلَب.
ما الذي يحول، إذاً، دون أن يأخذ أهل السلطة العربية، عبرة وخبرة من هذين الحدثين، كما فعلت السلطة الأجنبية الغازية وجيوشها؟
لا أتهم. ولا أحب لغة الاتهام.
غير أنني أخجل من أن تقود العرب في القرن الحادي والعشرين سلطات كمثل هذه السلطات التي تقودهم اليوم.
– 5 –
لم تعد الولايات المتحدة مركز العالم: هذا ما يقوله بعض المفكرين والمحللين في الغرب. ويتابع بعضهم فيقول إن أوروبا آخذة في منافستها على هذا المركز. الصين، هي كذلك، آخذةٌ في هذه المنافسة.
وهذا دليل على أن الحداثة، وإن كان الغرب مصدرها، تخطته، وأصبحت كونية. وهي كونية أجبرت مُبدعي الحداثة، وبخاصة التقنية، على إعادة النظر في أفكارهم وأعمالهم، في رؤاهم وخططهم، وعلى إعادة النظر في خرائط العالم الجغرافية – السياسية.
والسؤال هو: بماذا يفكّر أهل السلطة العرب؟ وما شغلهم الشاغل؟ وماذا يُخططون؟ وهل يحكمون أرضاً لا بشر فيها، أم يحكمون بشراً لا أرض لهم؟ وما مكانهم بين أهل السلطة في العالم؟
– 6 –
قِفا، خَليليّ!
لا في «سقط اللِّوى»، ولا في «الدخول» أو «حَوْمل»!
قِفا!
غزة – فلسطين، غوانتانامو، أبو غريب، القنابل – عناقيد عناقيد، الفقر، البطالة، القتل، الإرهاب، السجون، تماسيح التقنية، غيلان الآلة، عسكر الإبادات وليس في الفضاء غير الذرّة.
أميركا، متى ستُصغين الى أنين العالم؟
وأنتم، أيها الخلاّقون في كل مكانٍ، قفوا واصرخوا:
كلاّ،
لن تذوّبنا الآلة الأميركية مَرَقاً في مطابخ القصر، ولن نترك للزمن أن يكون في قبضة رَمْلٍ أعمى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى