برهان غليونصفحات سورية

القمم العربية: العجز وسطوة الأمزجة

null


د.برهان غليون

عندما يحين موعد انعقاد قمة إقليمية، في أي منطقة من مناطق العالم، ينكب المحللون عادة على تحليل مواقف الدول من مختلف المسائل المطروحة على جدول أعمالها، ونقاط الخلاف والاتفاق بين أعضائها،

ونوعية التسويات التي يمكن أن تحصل فيها لتجاوز الخلافات والخروج بحلول ترضي الجميع إلى هذا الحد أو ذاك. وباستثناء حالات نادرة يتجاوز فيها تضارب المصالح الحد الذي يسمح بتسوية، تكون النتائج قريبة إلى حد كبير من توقعات المحللين، لأن مواقف الدول من القضايا المطروحة على بساط البحث تكون معروفة مسبقاً بالنسبة لجميع الأعضاء. بالمقابل، تكاد الانشغالات الرئيسية التي تسبق انعقاد أية قمة عربية تقتصر على معرفة من سيحضر ومن سيقاطع، وهل ستعقد القمة أم ستؤجل، وإذا عقدت هل ستنجح أم ستفشل! ويتجسد النجاح عادة في حضور جميع الرؤساء أو أكثرهم وعدم المقاطعة أو الاكتفاء بتمثيل من مستوى أدنى. وبالكاد يعرف الرأي العام شيئاً عن جدول أعمال القمة واتجاهاتها. فليس لذلك قيمة كبيرة، لأن غاية اللقاءات هي التعبير عن وحدة الصف العربي في مواجهة الضغوط أو الاعتداءات الأجنبية التي لا تتغير، لا تحقيق جدول أعمال يتعلق ببناء المجتمعات العربية نفسها، داخلياً وعلى مستوى المجموعة كلها. وحتى عندما تؤخذ القرارات فهي نادراً ما تثير اهتمام المراقبين، ذلك أن الجميع أصبح يدرك أن معظمها يتخذ لحفظ ماء الوجه أمام الرأي العام، ولا يشعر أي طرف من الموقعين عليها بأنها ملزمة، وهي حسب اللوائح التنظيمية للمنظمة بالفعل غير ملزمة إلا لمن يريد تطبيقها.

كان هذا هو الوضع قبل إقرار الطابع الدوري الثابت لمؤتمرات القمة العربية، ولا يزال بعده. وفي معظم الأحيان تتحقق التوقعات تماماً، فلا تنعقد المؤتمرات إلا بشق الأنفس وبعد تسويات شكلية مضنية ليس لها أي علاقة مباشرة بالقضايا المطروحة وإنما بمعالجة إشكالات بروتوكولية وتسوية حساسيات شخصية وتقديم ترضيات مسبقة تتعلق مباشرة بالموافقة على حضور القمة المعنية.

يعتقد الكثير من المحللين، كما هو الحال بالنسبة للرأي العام العربي، أن هذه الوضعية الطريفة لمؤتمرات القمة ناجمة عن تباعد سياسات الأقطار العربية عن بعضها البعض، إن لم نقل تناقضها وتعارضها في مسائل عديدة وواسعة تبدأ باختلاف أمزجة رؤساء الدول وتنافرها، وهم أصحاب الأمر والنهي فيها، وتنتهي بتباين المواقف الاستراتيجية المتعلقة بالأمن الوطني والإقليمي، مروراً بالاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المرتبطة هي نفسها بطبيعة النظم السياسية، ووشائج القربى التي تجمع بينها وتجمعها مع الدول غير العربية، في الإقليم وخارجه.

والواقع أن الخلاف في وجهات النظر بين الدول، في مثل هذه المسائل جميعاً، ليس سمة عربية، وإنما هو الأمر الطبيعي الذي يسم جميع المنظمات الإقليمية في العالم، نظراً لتفاوت مصالح أطرافها الاقتصادية والسياسية والأمنية واختلاف رؤيتها لأهداف اتحادها وتكتلها. ومع ذلك، أمكن لمنظمات إقليمية عديدة أن تطور عملها وتقطع مراحل طويلة في اندماجها الاقتصادي والسياسي، بينما بقيت الجامعة العربية عاجزة عن تحقيق أي إنجاز من هذا النوع، رغم أنها هي أول منظمة إقليمية نشأت في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. فعلى سبيل المثال، لم تمنع الحساسيات القومية والأمزجة الشخصية المتباينة والمصالح المتعددة والمتفاوتة دول أوروبا، وفي مقدمها فرنسا وألمانيا المعروفتان بعدائهما الشديد منذ الحرب العالمية الأولى، وهما قطبا الرحى في التنظيم الإقليمي الأوروبي، من قيام الاتحاد الأوروبي. وانقسام أعضاء هذا الاتحاد نفسه بين المتحمسين للسير وراء واشنطن وتبني سياساتها الدولية والإقليمية من جهة، والمدافعين عن “أوْرَبة” مستقلة وريثة للنزعة الديغولية من جهة ثانية، لم يوقفا تقدم هذا الاتحاد على مسارات عديدة رئيسية؛ اقتصادية وتقنية وعلمية واجتماعية وسياسية وثقافية. وربما كان نجاح العملة الأوروبية التي أصبحت أقوى عملة في العالم في سنوات معدودة البرهان الساطع على ذلك.

ما الذي يفسر هذا العجز المزمن للجامعة العربية ومؤتمرات القمة العربية معاً عن التقدم وتحقيق أي إنجاز، وعن تحويل اجتماعات القادة العرب من مناسبات لاستعراض الأمزجة وتأكيد القطيعة بشكل أكبر، إلى فرص لتذليل الخلافات وتحقيق اتفاقات جدية من شأن تنفيذها أن يجعل من العالم العربي منطقة تعاون وتكامل وبالتالي ازدهار وتنمية استثنائية في العالم كله؟!

بعكس نظرائهم في المناطق الأخرى، لا يأتي القادة العرب إلى مؤتمرات القمة ليحققوا أهدافاً ترتبط بمستقبل شعوبهم ومصالحها، ولكن ليبرئ كل واحد منهم ذمته إزاء المآسي التي تجري في البلاد العربية بسبب غياب التعاون والتفاهم والعمل المشترك، أي ليبرر، أمام الرأي العام العربي الذي ينزع إلى التضامن وتحركه مشاعر عميقة بوحدة الهوية والمصالح، تهربه من المسؤولية الجماعية! وقليل منهم من يأتي بمشاريع تتعلق بمصير مجتمعاتهم، ومن أتى منهم بما يشبه ذلك فطلباً للمعونة ولتحقيق إنجازات خاصة أو ذاتية. وأشك في أن أكثرهم لا يعتقدون بإمكانية قيام مشروع عمل عربي جماعي مفيد لهم وللجميع. فهم ميالون بسبب نقص ثقتهم بأنفسهم وأخوتهم معاً، إلى قصر الشراكة على الدول والشركات الأجنبية التي توفر لهم الخبرة والدعم والتغطية الأمنية. أما المؤتمرات العربية فهي تهدف إلى إظهار الوحدة الشكلية وتحقيق المصالحات الوقتية للظهور بمظهر الحرص على الدفاع عن المصالح العربية المشتركة أمام جمهور عربي غاضب واتهامي وفاقد للثقة. ولذلك قليلاً ما يتجاوز عمل القمة تسوية النزاعات الشخصية، ونادراً ما تجد الوقت لمناقشة النزاعات الحقيقية التي تفرق بين الدول العربية، وأقل من ذلك للاتفاق على مشاريع واقتراحات تتوخى مصالح الشعوب العربية وتكامل مسيرتها. وبقدر ما تشكل المؤتمرات ساحة للمناورة بالنسبة للزعماء، تتحول أيضاً إلى مناسبة لاستعراض أمزجتهم وقدراتهم الخطابية، وتأكيد المصالح الخاصة بأنظمتهم القائمة، والتباري في الخروج من القمة بأقل ما يمكن من الالتزامات الجماعية. وباستثناء المسؤولين الذين تتعرض أقطارهم لأزمات أو تهديدات خارجية، لا يرى معظم المشاركين في حضور القمة مناسبة لتطوير سياسات وتحقيق أهداف إيجابية، بقدر ما ينظرون إليها كواجب، بل كامتحان لا مهرب منه. وهو ما عمق خيبة الجمهور فيها وأفقده الثقة في أي قرار يصدر عنها.

لا يمكن لمؤتمرات القمة العربية أن تتحول، كبقية المؤتمرات الإقليمية، إلى أطر جدية للعمل الايجابي والخلاق، ما لم يكن الدافع إلى حضورها إحساس المشاركين بالمسؤولية تجاه شعوبهم وحرصهم على العمل على تحسين شروط حياتها الإنسانية. ولا إحساس بمثل هذه المسؤولية عند نظم تفتقر في أغلبها إلى الشرعية ولا تملك سياسة وطنية، بل همها الوحيد الدفاع عن امتيازات أصحابها والحفاظ على سلطتهم الاستثنائية. وإذا كان من غير الممكن لها أن تنتج سياسة وطنية، فمن باب أولى أن لا تنتج سياسة عربية جماعية. ولهذا ليس من المستغرب أن لا تحقق مؤتمرات القمة العربية على تعاقبها أي تقدم ملموس في أي ميدان، بل ولا أن تنجح حتى في الحد من تدهور العلاقات العربية. ففي غياب هذه السياسة الوطنية ينبغي الكشف عن مفتاح عجز المسيرة التكاملية العربية، لكن ليس في مثالية الحركة القومية، كما يعتقد بعضنا اليوم.

د.برهان غليون: الاتحاد الاماراتية 26/3/2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى