صفحات العالمما يحدث في لبنان

الحكم في لبنان بين مطرقة دمشق وسندان المعارضة

فوزي زيدان
تبدو المعارضة اللبنانية منذ انتهاء حرب تموز (يوليو) 2006 كأنها تسعى إلى الاستيلاء على مقاليد السلطة، واستعملت لهذه الغاية أساليب عدة، منها: الاعتصام في وسط بيروت ومحاصرة السرايا الحكومية لسنة ونصف السنة من أجل إسقاط الحكومة السابقة برئاسة فؤاد السنيورة التي تشكلت إثر فوز «قوى 14 آذار» في الانتخابات النيابية التي أجريت عام 2005، وتعطيل انتخاب رئيس للجمهورية لستة أشهر، واجتياح بيروت في أيار (مايو) 2008 تحت شعار «حماية السلاح بالسلاح» بذريعة قراري الحكومة بإقالة رئيس جهاز أمن المطار وإزالة شبكة الاتصالات غير الشرعية التي نشرها «حزب الله» في مجمل المناطق اللبنانية. وتعود موافقة الحكومة على هذين القرارين الحساسين إلى تهديد النائب وليد جنبلاط بسحب وزراء «اللقاء الديموقراطي» في حال تخلفها عن ذلك، ما يجعلها في حكم المستقيلة نتيجة افتقادها النصاب القانوني.
وأدى اجتياح بيروت إلى «اتفاق الدوحة» الذي أطاح بالنظام الديموقراطي الحقيقي القائم في لبنان، واعتمد بدلاً منه النظام «الديموقراطي التوافقي» بذريعة المحافظة على العيش المشترك والوحدة الوطنية، بحيث لا تتم الموافقة على أي موضوع حساس ومهم إلا بالتوافق وليس بأصوات الأكثرية مهما بلغت، ما دام لبنان يعيش في ظل نظام طائفي. ما أدى إلى تغيير المعادلة السياسية المعتمدة من تولي الأكثرية الحكم وممارسة المعارضة الرقابة والمحاسبة، إلى معادلة تفرض تشكيل حكومة ائتلافية تحظى فيها المعارضة بالثلث المعطل وحق النقض.
وتابعت المعارضة الضغط على قوى الأكثرية لإضعافها وتيئيس جمهورها وإبعاده عنها، مستفيدة من التراخي العربي والدولي في دعم الأكثرية نتيجة التطورات الإقليمية، والعودة السورية الفاعلة إلى الساحة اللبنانية بعد توقف الضغوط الدولية عليها. وقايضت دمشق الدول الغربية بعدم التدخل في الانتخابات النيابية اللبنانية الأخيرة لتوقعها فوز حلفائها فيها وإقامة علاقات ديبلوماسية مع لبنان، لقاء الانفتاح عليها والتواصل معها.
ولم تيأس المعارضة، بإيحاء من دمشق، من فشلها في الحصول على الأكثرية النيابية في الانتخابات، نتيجة صمود جمهور «ثورة الأرز» وتصويته لمشروع «العبور إلى الدولة»، فواصلت خطتها في تفكيك «قوى 14 آذار»، محققة نجاحاً كبيراً في دق إسفين كبير في تركيبتها بخروج أحد أقطابها الكبار النائب وليد جنبلاط منها، بعد استدارة كبيرة ومتدرجة بدأت في أعقاب اجتياح أيار 2008، وأصبح اليوم في خياراته السياسية لا سيما في ما يتعلق بـ «حزب الله» ودمشق متلازماً مع خيارات المعارضة. والأسئلة كثيرة حول أسباب انعطافة وليد جنبلاط وأهدافها، منها: التحول الدولي والعربي تجاه دمشق من المقاطعة إلى الانفتاح والتعاون، إمساك دمشق بأوراق إقليمية مهمة تجعلها قبلة أنظار القوى الإقليمية والدولية المتصارعة على رقعة المصالح في المنطقة، انعدام التوازن العسكري بين «حزب الله» و «الحزب التقدمي الاشتراكي»، حماية الطائفة الدرزية من فتنة شيعية – درزية، الخوف على حياته وحياة نجله تيمور وبالتالي على مستقبل البيت الجنبلاطي. في المقابل، يتعجب الكثيرون من عدم تحمل وليد جنبلاط المشهود له بالصلابة الضغوط، ورضوخه للشروط التي فرضت عليه مقابل استقباله في دمشق، ويتساءلون ما إذا كانت الأسباب التي جعلته يتنازل عن عنفوانه وكرامته تستحق هذا التنازل، ويتحسرون على النهاية المؤلمة لمسيرته السياسية الحافلة بالإنجازات الكبيرة.
ولم ينجُ رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري من سهام دمشق، على رغم تعاليه على جروحه الشخصية وقيامه بزيارتها، حيث ما زالت الصحف السورية تغمز من قناته، والمعارضة اللبنانية تشل أعمال حكومته. وعادت دمشق إلى استعمال الطريقة نفسها التي كانت تستعملها مع والده: إما الرضوخ والاستسلام لمشيئتها وإما الفشل والدوران في حلقة مفرغة والتعرض إلى المكائد والألسن السليطة. ويعود استياء دمشق من الحريري إلى اعتراضها على إعطاء الرئيس فؤاد السنيورة دوراً سياسياً بارزاً وترؤسه «كتلة المستقبل النيابية»، واستمرار الدعم للأمانة العامة لـ «قوى 14 آذار»، والتحالف الوثيق مع رئيس حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع، والاستعانة بالخبرات والتقنيات الأجنبية لضبط الحدود اللبنانية – السورية، والإبقاء على بعض المحيطين به ممن تعتبرهم أعداء لها.

وتسعى دمشق إلى زعزعة القاعدة الشعبية للحريري، من خلال تجميع أنصارها في بيروت والمناطق السنية تحت لافتة العروبة والعداء لإسرائيل، في محاولة اتهام للحريري بالانعزالية لتبنيه شعار «لبنان أولاً». واستغلت دمشق حملة إحدى وسائل الإعلام القريبة منها على مفتي الجمهورية اللبنانية، في موضوع مالي حساس يحقق فيه المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى وينال من صدقية المفتي ونزاهته، لتصفية حساباتها مع مقام دار الإفتاء لمساندته «ثورة الأرز» التي أنهت وجودها العسكري في لبنان.
وتتمادى المعارضة في حملتها السياسية على الحريري والسنيورة من خلال هجومها على مدير عام قوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي القريب منهما، بذريعة توقيعه اتفاقية أمنية مع الولايات المتحدة خلافاً للأصول وتمس بالسيادة الوطنية، بينما تشير المعلومات الرسمية إلى أنه اتفاق عادي موقع من الحكومة اللبنانية بقبول هبة أميركية بقيمة خمسين مليون دولار لتدريب قوى الأمن الداخلي وتجهيزها.
وتعدت الحملة السياسية الحريري إلى رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال سليمان، بدعوة الوزير السابق وئام وهاب الوثيق الصلة بدمشق سليمان إلى الاستقالة، بذريعة فشله في إدارة الدولة نتيجة تمسكه بالدور الحيادي، بينما تشير المعطيات إلى أن أهداف الحملة تعود إلى استياء دمشق من تشكيله هيئة الحوار الوطني وتوقيت دعوتها إلى الاجتماع عقب القمة السورية – الإيرانية للبحث في الاستراتيجية الدفاعية التي تعني في الدرجة الأولى «حزب الله» وسلاحه. وكان سليمان تعرض إلى حملة قاسية مماثلة بعد زيارته واشنطن، وما زالت الانتقادات توجه إليه وإلى الحريري لدى قيامهما بزيارات خارجية من أجل طلب الحماية للبنان.
مما تقدم، نستنتج أن دمشق تسعى إلى الإمساك مجدداً بلبنان والانتقام من الذين تعتقد أنهم أساؤوا إليها وكانوا السبب في خروج قواتها منه، وإلى تطويع أركان الحكم والمؤسّسات وتقييد حركتهم وفرض شروط ومعطيات جديدة عليهم، خصوصاً بعد أن باتت تحظى بهامش حركة واسع في لبنان، نتيجة انشغال الإدارة الأميركية ببعض القضايا الداخلية وحاجتها إلى تعاون دمشق في الملفات الإقليمية الشائكة. وكان الأحرى بدمشق مبادلة الانفتاح اللبناني الرسمي عليها بتنفيذ وعودها للمسؤولين اللبنانيين بحصر التعامل بين البلدين بالمؤسّسات وترسيم الحدود والمساعدة على إنهاء الوجود الفلسطيني المسلح خارج المخيمات وإنهاء قضية المفقودين والمعتقلين اللبنانيين في سجونها، ومساعدة الحكومة على تنفيذ برامجها الإصلاحية والاقتصادية والاجتماعية من خلال الطلب من حلفائها التعاون وعدم وضع العصي في الدواليب.

* كاتب لبناني
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى