صفحات ثقافية

العالم الافتراضي والمعرفة البديلة

null

فخري صالح

يمر فعل الكتابة، وكذلك فعل القراءة وهو الأهم في نظري لأنه لا كتابة دون قراءة، بحال من التحول والتغير والتطور، والتخفف من عادات راسخة عتيقة كنا نظن في يوم من الأيام أنها باقية أبد الدهر. لكنها اليوم تتلاشى، ويستدعي المتمسكون بها الابتسامات أو السخرية الخفيفة الضاحكة.
كنا نظن أن الورقة والقلم ضروريان للكتابة، وأنهما جزء من وحي الإبداع نفسه، فجاءت الآلة الكاتبة فهزمت هذا اليقين. وكنا نظن أن فعل الكتابة لا يتم بمواجهة شاشة بيضاء، تشبه الورقة ولكنها أكثر لمعانا ومطاوعة من الورقة البيضاء، وتحتمل المحو والإضافة دون تمزيق المساحة الورقية التي سودنا وجهها بالكلمات؛ فجاء الحاسوب ومكن الكتاب من التخفف من عبء النسخ والعودة إلى البداية مرة بعد مرة بعد مرة.

لكن الأهم في نظري هو ما فعله الحاسوب والشبكة العنكبوتية (الإنترنت) بعالم القراءة. لقد كان التطور كوبرنيكيا، جعل القراءة أمرا ميسرا دون عناء حمل الكتاب من مكان إلى مكان، وتوسيخ اليدين بالصفحات المطبوعة للصحف. بدأ الأمر بتسجيل الكتب على أشرطة لسماعها في السيارة التي ترتحل لساعات أو دقائق معدودة، لكن شاشة الحاسوب، التي يمكن أن تقرأ المسجل على الأشرطة، أصبحت قادرة بعد تطور الشبكة العنكبوتية الهائل على وضع العالم بين أيدينا. بضغطة زر على الشاشة تحضر الكتب والصحف والمجلات والأفلام السينمائية والأعمال المسرحية والأغاني، وكل شيء تقريبا. بضغطة زر يتحول جهاز الحاسوب إلى هاتف يصل الناس بعضهم ببعض، وإلى جهاز فاكس وآلة تسجيل كذلك.

كل هذا أصبح مألوفا. لكن المهم هو النتائج التي يؤدي إليها حيث تتعرض عملية القراءة، والتعلم، لنوع من التعميم المستمر لكل من يملك حاسوبا وحسابا في الإنترنت، وهو أمر صار ميسرا أكثر فأكثر لعدد كبير من الناس. وعلى الرغم من المشكلات التي يولدها هذا النوع من المعرفة، التي تبدو أحيانا لحظية سطحية عابرة، وناقصة في معظم الأحيان، لأن منتجي المعرفة العلمية والأكاديمية والأدبية يشترطون الاشتراك ودفع المال لكي يسمحوا باستعمال ما في بنوك معلوماتهم، إلا أن ثمة مصادر معرفة بديلة يمكن أن تطفو على سطح الشاشات البيضاء في حال الطلب. ثمة أناس يهمهم أن يعمموا هذه المعرفة البديلة، ويكسروا الاحتكار المضروب على أنواع عديدة من المعرفة من قبل المجتمعات الرأسمالية المعاصرة. ولذلك لا حاجة لامتلاك كلمات سر، أو التمتع باشتراك في الصحف والمجلات، أو دفع مبلغ من المال للدخول إلى المكتبة الإلكترونية لتلك المؤسسة التعليمية أو الصحافية أو البحثية. إذا كنت تريد أن تعرف فبإمكانك غرف ما تريد بلا أي مقابل. وقد كانت هذه فكرة إنشاء الشبكة العنكبوتية التي نظّر لها الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار الذي رحل عنا في أواخر التسعينيات، في كتابه “الشرط ما بعد الحداثي”، عندما دعته حكومة كيبيك الكندية ليكتب رؤيته النظرية لمفهوم تعميم المعرفة من خلال الشبكة العنكبوتية، وهي كانت لا تزال تخطو خطواتها الأولى.

ما يهمنا هنا هو مفهوم المعرفة البديلة، والإعلام البديل، والعالم السابح على الشاشات بلا حاجة إلى احتكار المعرفة، أو تزييفها، أو النظر إلى الإبداعات بوصفها سلعا قابلة للبيع والشراء والربح والخسارة. إن الشبكة العنكبوتية، التي صنعها الأمريكان لتساعدهم في عمليات الاتصال وتخزين المعلومات العسكرية، تحتضن في داخلها نقيضها وتصبح قناة اتصال للغاضبين على الرأسمالية المعاصرة التي تتاجر بكل شيء، وتضع سعرا خصوصا للمعرفة والعلم. لكن هل لدينا إعلام بديل، معرفة بديلة، باللغة العربية؟ نعم لدينا، لكن المتحمسين لهذا العمل الدؤوب، والراغبين في التضحية بجزء من وقتهم، ليسوا بتلك الكثرة التي نجدها في العالم، وخصوصا في الصقع الغربي من القارة.

الشيء الآخر الذي أريد التحدث عنه، ويدل على التحول الهائل في علاقة الكتاب بقرائهم، ما فعلته الكاتبة الكندية الشهيرة مارغريت أتوود، الحاصلة على جائزة بوكر البريطانية والمرشحة الدائمة على قائمة نوبل للآداب، في معرض لندن للكتاب قبل أكثر من عام. إنه عمل يضع الكتابة وعلاقة الكاتب بقرائه، ومفهوم توقيع الكتب، على حافة تغير عميق. لقد ابتكرت مارغريت أتوود طريقة مذهلة في توقيع الكتاب عن بعد؛ فهي إذ سألت المختصين وتقنيي الكمبيوتر والإنترنت عن إمكانية توقيع الكتب عن بعد تلقت جوابا غامضا يشير إلى إمكانية حدوث ذلك، لكن مع ضرورة ابتكار عدد من الوسائط تجعل الأمر ممكنا. والمدهش في الأمر أن عددا من التقنيين والمشتغلين بالكمبيوتر، ممن استعانت بهم الكاتبة الكندية العجوز، استطاعوا أن يجعلوا من فكرة أتوود النابهة حقيقة واقعة، فصنعوا مخدة إلكترونية قادرة على تحويل الحبر إلى ذبذبات تنتقل عبر الشاشة إلى شاشة أخرى موجودة في أقاصي الأرض ومربوطة بجهاز كمبيوتر موصول بقلم حبر يشبه القلم الذي بين يدي مارغريت أتوود ليخط في الوقت نفسه ما يخطه قلم أتوود.

إنه عالم يتغير بسرعة هائلة. ليست الأسلحة، وأدوات الدمار هي التي تتطور وحدها، بل طرائق الكتابة، وأشكال بثها، وطرق التواصل بين الكتاب وقرائهم.

كاتب من الاردن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى