صفحات ثقافية

وصية الصحافي سردشت عثمان: علينا ان نقول الحقيقة

null
هيفاء زنكنة
ما الذي كان يفكر فيه الصحافي الشاب سردشت عثمان وهو يكتب مقالة بعنوان ‘أنا أعشق ابنة مسعود البارزاني’، اي ابنة رئيس اقليم كردستان ؟ هل اراد جلب الانتباه الى كتاباته العامة ام كان معنيا فعلا باعلان حبه باسلوب جديد مستبدلا القصيدة (اعلان الحب وفق التقاليد القبلية القديمة)، بمقالة ؟
هل اراد وهو المبتدأ، في مجال الصحافة، ان يستقطب الاهتمام الاعلامي في عصر باتت فيه اجهزة الاعلام مطبخا لاعادة تسخين الوجبات البائتة واجترار المخزون؟ أم، لعله، قد اختار التعبير، بطريقة جديدة تجمع ما بين الصحافة والأدب، للتعبير عن هموم الناس الحقيقية وخيبة املهم في حزبين سياسيين حاكمين صار الفساد المالي والأداري صنوا لاسميهما؟
تشير متابعة مقالات سردشت الى ان الافتراض الاخير هو الأرجح، وانه استخدم العنوان عن ابنة البارزاني بشكل مجازي لأضاءة جوانب حياتية، صارت بحكم الرقابة الصحافية المحكمة وملاحقة الصحافيين المستقلين فضلا عن احكام سيطرة القوات الأمنية، لايتم التطرق اليها الا نادرا.
ولنتفحص ملابسات الأغتيال الذي سارعت الجهات الرسمية في الأقليم الى ‘ادانته’ وكما يتم عادة في بقية ارجاء العراق، الى تشكيل لجنة ‘للتحقيق’ لمعرفة الجناة، وجاء فعل الادانة وتشكيل اللجنة سريعا نتيجة تصاعد الغضب الشعبي واستنكار الصحافيين المحليين والمنظمات الحقوقية العالمية.
لقد اختطف سردشت عثمان (23 عاما)، في 4 أيار/مايو من امام كلية اللغات، التي كان طالبا في السنة النهائية فيها، بجامعة صلاح الدين، باربيل، عاصمة اقليم كردستان. وعثر على جثته في مدينة الموصل بعد يومين. وحسب مرصد الحريات الصحافية، ان جثته وجدت وعليها اثار ضرب وهي مصابة بأطلاقات نارية في منطقة الرأس. وان المختطفين ‘المجهولين’ قد نفذوا العملية بينما كان سردشت وسط العشرات من طلبة الجامعة المتوجهين الى الدوام، وان المختطفين ‘ضربوه ومن ثم اخذوه قسرا الى سيارة بيضاء’. ويبقى السؤال الملح الذي يطرحه اهل سردشت وعموم الناس والصحافيين الذين يخشون على حياتهم هو ‘كيف نفذوا الجريمة واخرجوا الضحية الى خارج العاصمة اربيل وسط كل نقاط التفتيش والترتيبات الامنية؟’. والمعروف ان حكومة الاقليم تفتخر بأمنها واستقرارها بالاضافة الى كونها ‘النموذج الديمقراطي’ للعراق كله. فما الذي كتبه سردشت ليشكل خطرا على أمن واستقرار الاقليم ويخدش سمعة ‘النموذج الديمقراطي’؟ ما الذي ارتكبه لتتم تصفيته بهذه الطريقة السريعة والبشعة؟
لم يكن سردشت صحافيا بارزا او اعلاميا مشهورا، مما يجعل أسباب تصفيته محصورة اما حسب قاعدة ‘اضرب الصغير لترعب الكبير’ أو ان اضطهاد الصحافيين واخراس الاصوات، الناقدة، المستقلة، قضية تمر بلا مساءلة وعقاب مما يكرس الآلية ويجعلها اداة يتم اللجوء اليها بسهولة.
وتشير ملابسات اغتيال سردشت من جهة وقضية حرية الرأي في الاقليم الى ان الاحتمالين واردان. كان سردشت يكتب في صحيفة (ئاشتينامة)، وهي صحيفة نصف شهرية، باللغة الكردية، تصدرها ‘الحركة الديمقراطية لشعب كردستان’ التي تأسست عام 2000. كما اعيدت طباعة بعض كتاباته في مواقع على الانترنت وصحف اخرى.
فما الذي ميز مقالاته الثلاث التي يقول البعض بانها التي سببت قتله؟ من الواضح عند قراءة مقالته ‘انا اعشق بنت مسعود البرزاني’، (نشرت في 13/12/2009 في موقع ‘كوردستانبوست’ وترجمت الآن الى العربية والانكليزية وبالامكان قراءتها على شبكة الانترنت) انه انما استخدم الاشارة الى ابنة ‘الرئيس’ لكي يبين ما يمر به ابناء الشعب، يوميا، من مآس، بينما يلتحف قادة ومسؤولو الحزبين الكرديين بالمال ويستشري الفساد في صفوفهم مثل العث ليزيد من فقر الفقراء وغنى الاغنياء. وقد زاوج سردشت، في اسلوبه، مابين حلم المواطن وقصور امكانياته، وهو يخاطب ابنة ‘الرئيس’ قائلا: ‘سيكون شهر عسلنا في باريس، ونزور قصر عمنا لبضعة ايام في امريكا. سانقل بيتي من حينا الفقير في مدينة اربيل الى مصيف (سري رش) حيث تحرسني ليلا كلاب امريكا البوليسية وحراس اسرائيليون. والدي الذي هو من (بيشمركة) ايلول القدامى، والذي يرفض الحزب الديمقراطي الكردستاني الى اليوم تقديم خدمات التقاعد له بسبب انه ليس ضمن صفوف الحزب في الوقت الحالي، ساجعله وزيرا للبيشمركة.
اخي الذي تخرج من الكلية، وهو الآن عاطل عن العمل ويريد الذهاب الى الخارج كلاجئ، ساعيّنه كمسؤول لحرسي الخاص. امّا اختي التي مازالت تستحي ان تذهب الى السوق عليها ان تسوق افخر السيارات مثل بنات العشيرة البرزانية. وأمي التي تعاني امراض القلب والسكر وضغط الدم ولا تملك المال للعلاج خارج الوطن، ساجلب لها طبيبين ايطاليين خاصين بها في البيت. وسافتح لاعمامي دور ضيافة واعيّن ابناء عمومتي واخوالي نقباء وعمداء الوية في الجيش.’ وتبين المقالة، ايضا، مخاوف سردشت من القتل، فيقول: ‘دع عنك هذا الامر فهذه عائلة الملا (يعني عائلة ملا مصطفى البرزاني والد مسعود) ما ان قالوا انتهى امرك حتى صار قتلك حتمياً’. ويشير في احدى الفقرات الى ‘الخونة الذين قاموا بعمليات الانفال’ قائلا بأن ‘ مسعود البرزاني يحب جدا امثال هؤلاء’. أما نيجيرفان البرزاني فان اسمه ورد مرتبطا بفساد المنظمات ‘الخيرية’. ويبدو ان احدهم قد كتب ردا على مقالة سردشت مطالبا بنشر اسمه الحقيقي وصورته، فأجابه سردشت بمقالة عنوانها ‘الرئيس ليس إلها ولا ابنته’، نشرت في ذات الموقع في 2/1/2010، واصل فيها كشف بعض نواحي فساد ادارة الأقليم، قائلا: ‘هنا بلدٌ لا يسمح لك ان تسأل كم هو مرتب الرئيس الشهري؟ لا يسمح لك ان تسأل الرئيس لماذا اعطيت كل هذه المناصب الحكومية والعسكرية لابنائك واحفادك واقاربك؟
من اين اتى احفادك بكل هذه الثروة؟ اذا استطاع احد ان يطرح هذه الاسئلة فانه قد اخترق حدود الامن القومي وعرّض نفسه لرحمة بنادقهم واقلامهم’.
ويبدو انه تلقى تهديدات باشرة دفعته الى كتابة مقال قصير، نشر في موقع ‘كوردستانبوست’ في 21/1/2010، بعنوان ‘اول أجراس قتلي دقت’ ذكر فيه بانه أخبر عميد كليته بتهديدات القتل طالبا الحماية غير ان العميد أخبره بان هذا شأن رجال الشرطة. فاتصل بالعميد عبدالخالق مدير البوليس في اربيل، الذي أخبره بان أربيل آمنة ولن تحدث فيها مشاكل، فيتساءل سردشت: ‘كيف اشعر بالامان على حياتي واحد اصدقائي تعرض قبل ايام للضرب والاهانة بسبب عدة مقالات نشرها قبل فترة، واجبر على اثرها ترك هذه المدينة؟’. وجاء في المقال/الوصية الأخيرة: ‘وعندما في الايام القليلة الماضية قيل لي انه لم يبق لي في الحياة الا القليل، وكما قالوا ان فرصة تنفسي الهواء اصبحت معدومة. لكنني لا ابالي بالموت او التعذيب. سأنتظر حتفي وموعد اللقاء الاخير مع قتلتي…
فليحدث ما يحدث، لانني لن اترك هذه المدينة وساجلس في انتظار موتي. انا اعلم ان هذا هو اول اجراس الموت، وسيكون في النهاية جرس الموت لشباب هذا الوطن. ولكنني هذه المرة لن اشتكي ولن ابلغ السلطات المسؤولة. انها خطوة خطوتها بنفسي وانا بنفسي اتحمل وزرها. لذلك فمنذ الآن فصاعداً افكر ان الكلمات التي اكتبها هي آخر كلمات حياتي. لهذا ساحاول ان اكون صادقا في اقوالي بقدر صدق السيد المسيح. وانا سعيد ان لدي دائما ما اقوله وان هناك دوما اناسا لا يسمعون. ولكننا كلما تهامسنا بدأ القلق يساورهم. الى ان نبقى احياء علينا ان نقول الحق. واينما انتهت حياتي فليضع اصدقائي نقطة السطر، وليبدأوا هم بسطر جديد’.
ان سردشت عثمان واحد من العديد من صحافيي الاقليم الذين تعرضوا للتهديد بالقتل أو تم الاعتداء عليهم او اقتيدوا الى المحاكم او قتلوا أو اجبروا على مغادرة الاقليم بعد ترويعهم. وهو وضع ابعد مايكون عن ادعاءات سلطة الاقليم او المتحدثين باسمي الحزبين الحاكمين بأن حرية الصحافة مصانة وان الصحافيين يتمتعون بحرية التعبير. ويجدر الذكر بان تهديدات وملاحقة الاتحاد الوطني بقيادة الطالباني لا تقل عن الحزب الديمقراطي بقيادة البرزاني، ولايزال تهديد هالو ابراهيم احمد (شقيق زوجة الطالباني) ماثلا في الأذهان، حين كتب الى الصحافي ناباز كوران في 28-2-2008 قائلا ‘ساقتلك ياكوران حتى لو بقي يوم واحد من عمري’.
حدث ذلك حين كتب كوران مقالة نشرت في صحيفة ‘هولاتي’، المستقلة، انتقد فيها قلة الكهرباء في الشمال. وجاء في المقال انه لاحظ ان قبر ابراهيم احمد الذي يمثل مزارا على اطراف السليمانية لا تنقطع عنه الكهرباء على مدار اليوم.
ان مزيج الفساد المالي والاداري والمحسوبية والمنسوبية واحتكار السلطة بين حزبين يحكمان عبر احكام قبضة اجهزة المخابرات والشرطة على اعناق الناس، قد وصل حدا لم يعد بامكان ابناء الشعب السكوت عليه، لذلك ترتفع اصوات الاحتجاج بقوة على ممارسات السلطة وانضمت المنظمات الحقوقية الى التظاهرة على اغتيال الصحافي سردشت. ان اسكات اصوات الصحافيين والكتاب المستقلين خطوة تشير بوضوح الى ازدياد ضعف النظام وما يترتب على ذلك من قسوة، كما تشير، في الوقت نفسه، الى انه لم يعد بالامكان تغطية قمع قيادة الحزبين والمطالبة بالسكوت على فسادهما وانعدام المحاسبة بذريعة التخويف من ‘العدو الخارجي’.

‘ كاتبة من العراق
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى