صفحات ثقافيةعلي جازو

كيف يتعزَّى الشّعراء..؟

null
علي جازو
الشِّعرُ مفاجئٌ ودائمٌ وخانقٌ ومحاصِرٌ وصامتٌ كالموت! الموتُ ثابت مثل الحياة، والشاعرُ يفاجئ وهو يموت ويختنق وهو يحيا . يحيا وهو يموت من جديد صارخاً كما لو أنه ولد للتوّ في صمتٍ أبديّ . في الشِّعْرِ الخاسرُ يربح، والمتألم يرقُّ. نحن (الأحياء) ورثنا شعره وهو (الميت) أضاء حياتنا المرتبكة والمختنقة، حميماً مشرقاً، وحزيناً صافياً. في هذه المعاصرة المرعبة ـ التي نحن أبناؤها المرضى بالطوائف والتعسف والفقر والحروب ـ كان ثمة صفاء الفكر وبراءة المخيلة وطموح العاطفة التي رفعت الصوتَ إلى النغم، والنغمَ إلى موكب جنازةٍ وحليبِ حنان. رغم “القلة الهائلة” على حد وصف أوكتافيو باث لقراء الشعر وعشاقه، فإن محمود درويش كسبَ القلة والكثرة معاً. هذه إحدى سماته الفريدة. ثمة هذه الكثافة الموسيقية المتموجة، الإصماتُ الشغِفُ لكل كلامٍ ليس صوتَ الغريب والمنفي. عزز درويش من أناقة التعبير وانسجام الفكرة الواضح؛ حيث تبتكرُ اللغة صنْوَ حياتها الخجلة والمؤلفة من العدم والزوال والنفي والغربة، من الخيبة والحنين جناحاً فوق جناح. لطالما أشار درويش في شعره على صفة (الغريب والمنفي)؛ شاعراً وعاشقاً. كان يصرح بالسنوات الأخيرة أن الشعر فن، وهو يحبه، ولا يزال يحبه . الشعر فن يمارسه الشاعر لأنه يحبه لا لشأن آخر. عمل الشاعر مزيج من البراءة والخطورة كما رأى هايدغر عمل الشاعر من خلال قصائد هولدرلن. حب الشعر بريء وخطر في آن. بريءٌ لأنه لاهٍ وخطيرٌ لأنه تأسيس للنفس بالكلمة وحسب. ذلك أن اللغة هي أعلى وأقوى ملكات الإنسان، والشاعر يتعامل مع الأعلى والأقوى والأصعب بحبٍّ ـ هو علامة إخلاص ـ فقط. هو حبٌ آلفَ التاريخ مع تطلع الفن نحو التجاوز والرقي، هو فنٌ زاوج الأمل مع العمل والحياة مع الموت وخرج من مزج الجميع بشعرٍ بلغ حداً راقياً من الصفاء والعمق والقرابة الأليفة مع الحياة. لطالما تمنى درويش لو أنه حذف الكثير من شعره أو كان بمقدوره أن يكتبه لا على الوجه الذي كان . الشاعر رغم الحب لا يرضى، بل يظل في بحث حار وشائك عن الصفاء المتواري خلف الظلال المتلاشية. الشاعر ـ ابنُ الظلال ـ غريبٌ غير راض، بريء وخطِرٌ. خفف محمود درويش على مهل وبتأنٍّ صارم من سطوة الحماسة الصوتية على الشعر العربي، وأناره من الداخل ـ بامتلاكه ثروة إيقاعية باذخة وثقافة منفتحة على آداب العالم ـ بإشراقاتٍ كلاسيكية جديدة. الشاعر أيضاً ابنُ الهجنة المتفتحة والمتأثرة والقلقة، لا النقاءِ المحلي المنغلق، وهو قادر بذلك على درْسِ اللغة وإخصابها بالأليف والمختلف في الآن. ربما لوحده استطاع محمود درويش أن يمزج بنجاح باهر بين أضواء الشاعر النجم وصعوبة العمل الفني على معتمات اللغة الشعرية. لم يرضخ بسهولة لجاذبيته الجماهيرية. لم يتنازل قط عن الشرط الجمالي الذي هو ربما الأمل الوحيد والأقرب والأصعب لكل شاعر. هنا تبرز صعوبة عمل الشاعر، كما أشار نيتشه يوماً إلى حاجة الشاعر مختاراً العزلةَ طلباً للمعرفة القاسية. كان رهانُهُ الفني والجمالي والإنساني هو كل حياته. يندر حقاً أن نحظى بشاعر معاصر يقدم شعرَهُ على نجوميته وأستاذيته العامة. يندر من يقدس الفن والشعر، وينأى بهما عن الاستهلاك العمومي والتعود السهل. لكن حقاً كيف يتعزى الشعراء كما تساءل نيتشه في مكان آخر؟: (من لا ينظم الشعر ، أراهنُ، أراهن أنه بذلك سيموت!). رحل بعيداً عن أرضه، غير أن أرض الشاعر غريبة كقلبه، داخلية ومتحولة وحية. إنها في الداخل المسافر، لا الخارج الثابت هماً وطنياً صار من الخطر الوثوق به على الدوام. أرض الشاعر فيه مثل (ديانته)، وفي شعره هي الأكثر خصوبة وثراء وتألماً. كان من التحرر الجميل غير المألوف أن يرى درويش الشعر تجريباً دائماً في المعرفة المتسائلة والتوق الشاسع. يجدر بالشاعر، أي شاعر، الانتماء، إلى شمس العالم، وإلى الحصاة المحلية معاً، فالزمن، كما رأى قدماء حكماء الصين: الزمنُ حصانٌ والكونُ إصبع. خلال السنوات الأخيرة استطاع درويش أن ينسى، بل أن يوسع أفقه الوطني إلى تخوم إنسانية رحبة، استطاع أن ينسى، أن يصل إلى فن النسيان الضروري، وبدل أن يشهد الناس على ما هم عليه صار أكثر مناجاة وغنائية وبساطة، صار يُغْني غناءه مراجعاً ومدققاً وناخلاً شعره السابق. لم يكن الرفض قطعياً، قدر ما كان توسلاً حرجاً وضارياً صوب قصيدة البياض الملغزة والمتطلبة. حقاً نادر من هو قادر على نسيان نفسه. لكن محمود درويش تجاوز شخصيته المنجزة والمكتملة من قبل الغير على الأخص. أكمل درويش رقته الناعمة بنسيانه القوي لنفسه في فنه. كان ثمة مسافة طويلة متعرجة على جغرافية لغوية وأمكنة ودول وثقافات عريقة وحاضرة. كان معاصراً نائياً، حاملاً (حلمَ الغريب) ومحولاً إياه صوب الغرق في السماء بتعبير مستعار من الشاعر والروائي اسماعيل كاداريه. كان نائياً حائراً بحزن عن حاضره الدموي والعنيف. الشاعر ليس صنيع المسافة المولودة اعتباطاً فحسب، بل هو كاسرُها وموسِّعُها ومولِّدُها. يكسرُ الشاعرُ المسافةَ ـ كما يكسر الجمالُ الصمتَ ويشحنه من جوهرٍ عصيّ وحميم. في الكسْرِ ـ الجرْحِ ينبثقُ كلامُه كلهُ ويتلألأ كما لو أن المسافةَ ـ الجرحَ هي اللغة المنزاحة والتخيل الصلب، الروح المخرَسَةُ والقبر الناطق. اللغة العربية ومعها ثقافتها محظوظة ومكرّمة بشاعر من طراز الراحل الكبير، لأنه من صلبها وثرائها أبدع خالقاً ما يرفعها ويجمعها ويخالفها في آن. الشعر إنسان خطر وبريء، لكننا مع الشاعر لم نذق من الخطورة سوى جمالها ومن الجمال سوى ضرورته المزهرة، ومن الإنسانية غير احد تجلياتها الأكثر سخاءً وحسرة وتأسياً. الضرورة مثل زهرة تتفتح وتشع لكنها في تفتحها المتواضع الرفيع تخجل وتتأسى، وفي اكتمالها تصمت وتنحني وتذبل. اكتملت رحلة الشاعر، اكتملت مع صمته الأخير كتاباً يدفع الكلام ـ هشاً وبلا انتماء ـ إلى طاقته القصوى والألم إلى غنائه السحيق: (هشاشتنا لؤلؤ الخاسرين/ وأمثالنا لا يزورون حاضرهم أبداً/ لا يريدون أن يبلغوا بلداً/ في الطريق إلى الريح، حيث ولدنا على دفعتين: أنا وجمالكِ..). استجاب محمود درويش لموسيقية اللغة، بلا نظام جاف، ولم يكبح منها غير لغوها الخطابي. احتفظ بالنبرة المجنحة، وآثرَ الفكرة التي ترشح رقة شفافة وعمقاً حانياً. وسَّعَ من مدى الصوت النفسي لأوزان الشعر العريقة بما كان يظهر أحياناً على أنه نثر خالص. كان إزرا باوند كذلك ينصح الشاعر أن يكتب بدقة النثر. الشاعر حر وعليه ألا يتعود على حريته زمناً طويلاً، فهي مثل أية عادة تهترئ أو تتحجر. الحرية في الشعر انبثاقٌ صوتيٌّ كما هو الكلام في أصله المتشعب. لقد كان محمود درويش من أكثر القراء نقداً وإصغاء لشعره. الشاعر ناقدٌ صامتٌ، وما شعره سوى تأويل جديد لصمته المراقب لقصائده نفسها. الموتُ فرصة أيضاً نحو فضاء المجهول الذي هو أرض الشعر القديمة الجديدة. المصيبةُ ـ الموتُ فرصة أخيرة وكاملة وحاسمة ودائمة، وهاهو (قَدَرُ) محمود درويش يمنحنا فرصتنا الأخيرة الطويلة لجعل الشِّعر ـ شِعْرَهُ ـ أيقونتنا في الألفية الثالثة المجنونة، المبدوءة بحرب عبثية وظالمة كما هي حال الأرض والسماء المحروثة بالنار والظلام في غزة المحطمة بلا إنسانية عدوها وفقدانه الرأفة، والمنكوبة من قبل بطيش زعمائها وتعندهم الجائر اللذين حولا البطولة إلى رعونة وانتحار جماعي، والمبدأ إلى عمى مطبق. إنه ـ الضيف والغريب، ميتاً وحياً في آن ـ أحد أعمق وأرق أصوات الإنسانية، حتى ولو مزَّقتِ الإنسانيةُ قلبَها الضعيف.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى