سمر يزبكصفحات الناس

الأخ الأكبر

null

سمر يزبك

تذكرنا الانتخابات الأميركية بما كتبه نعوم تشومسكي حول الديموقراطية الأميركية التي يحددها التلفزيون، فهو الذي يقرر المرشح المناسب، وليس لدى المواطن فسحة من الوقت ليسأل جاره، إن كان ما يقوله هذا الجار صحيحاً أم لا!

ويبدو أن التلفزيون لا يقرر ما يجب أن نفعله في السياسة فقط، بل إنه يقرر نيابة عنا، في كل لحظة، ابتداء من النموذج المقبول في الجمال الأنثوي والرجالي، وانتهاء بتسريحات الشعر، والطريقة التي نتكلم بها، والمنتجات التي يجب أن نستهلكها لأنها الأفضل.

كل مشاهد بطل شاشة، من دون أن يدري. صارت الشاشات تحكم حياتنا، نحاكي طريقتها، إن لم يكن في أولويات الشراء، ففي التذوق، والمقبول والمرفوض ابتداء من الطعام وحتى الروائح، وطريقة المشي في الشارع، وشكل الوقفة في الشقة، وعلاقة أفراد الأسرة ببعضهم بعضاً، وطريقة إبداء ملاحظات الإعجاب أو الدهشة، وطريقة احتضان الأب العائد لطفله، أو ابتسامته الشرعية المتحفظة لزوجته.

بعيداً من المجاز، قلب التلفزيون العالم رأساً على عقب، وثمة إحساس بأن هناك كاميرا مخفية في زاوية ما تراقبنا، وينبغي أن نكون في الوضع الأفضل.

العالم الواقعي لم يعد كما كان منذ أن وجد الإنسان. لم يعد انتقال الثقافة والسلوك مرهوناً بتلاقي الطبقات في البلد الواحد، أو بالتلاقح الثقافي من خلال السفر أو القراءة، بحيث يقلد الإنسان الواقعي إنساناً واقعياً آخر. الآن أصبحت مرجعية الجميع في العالم الافتراضي في الشاشة السعيدة!

التلفزيون صار سيد المكان في أنحاء العالم، ونحن أبطال أفلام مخرجها يقيم هناك، في الشاشة التلفزيونية، ولابد من أن نتقيد بتعليماته التي تحددها منظومة محكمة الإتقان، مشروطة بقيود لانهائية الاحتمالات والأهداف.

ولا يمكن الحديث عما يقوم به التلفزيون من إعادة صوغ لموروث جمعي هائل في الذهن البشري من دون التطرق إلى لعبة المتعة والفضول التي يقوم عليها، ويخاطب بها مشاهديه، ليس فقط في عملية الإنتاج الدرامي أو الأخبار السياسية، أو حتى البرامج الترفيهية. إنها السهولة، سهولة التعامل مع ذلك العالم الذي يكون مستعداً في كل لحظة للتحول بين يديك، كما تريد أنت، أو كما تعتقد أنك تريد، تحركه كيفما تشاء وتنتقل بين أمواجه المختلفة، وأنت مدرك أنك سيده.

وهذه هي أحد ألعاب الوهم، أو الوعي المقلوب للعلاقة بين المشاهد والشاشة، ففي الوقت الذي تراه مطيعاً لأوامرك من خلال العصا السحرية «الريموت كونترول»، يقوم هو ومن وراء الظهر بتشكيلك!

يصنع التلفزيون وجودك، ولو نظرت في المرآة كل صباح وأنت خارج من بيتك، قد لا تكتشف أنك تسرح شعرك على صدى تسريحة في الشاشة أحببتها ذات مرة قبل أن تتراكم فوقها صور جديدة، كما قد لا تنتبه إلى أنك تدندن الأغاني التي يبثها دون غيرها، وتستعذب ألحاناً كنت تستغربها، وربما تشتري ثياباً بطريقته، أو تكره بطريقة انفعالاته، وتكره أن تقرأ الروايات التي يقدمها بشخصياتها الحية، فتستعذب حضورها، وتستسهل قدومها إليك، من دون الحاجة لتشغيل خيالك على صفحات كتاب.التلفزيون صار الأخ الأكبر، يصنع لنا ما نريد، ويقرر عنا، من دون أن يقهرنا، فهو يعلمنا كيف نحب ابتكاراته الجديدة، حتى تلك التي لم تكن تناسب ميولنا ونوازعنا. هو إذاً يمتلكنا، لكنه يوحي إلينا بأننا نحن الذين نملكه، فهو في النهاية جهاز وجد لرفاهية الإنسان، والخيارات كلها مفتوحة أمام المشاهد، لاختيار ما يشاء، لكن هذه الحرية الافتراضية ليست إلا نوعاً جديداً من الوهم، فكل ما يختاره المرء ينتهي بتنميطه و «تشييئه»، على رغم وهم الحرية الذي يجعله مثل الفارس المسحور دون كيشوت، يحارب قوى غامضة بعصا سحرية اسمها الريموت كونترول

الحياة – 27/03/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى