قضية فلسطينمحمد سيد رصاص

الزعامة المصريّة وتدهور الشرق العربي

محمّد سيّد رصاص*
عبّرت معركة حطين (5 تموز 1187 م) عن استيقاظ مؤقت للهلال الخصيب في وجه الاختراق الغربي. رغم ذلك، فإنّ هذه الصحوة المؤقّتة لم تكن قادرة على أكثر من الحفاظ على الذات أمام ذاك الطوفان الغربي الذي مثّله الصليبيّون (1098 ـــــ 1303 م)، حيث عجزت عن إيقاف الشرق العربي، من جديد، على قدميه، وسرعان ما عاد إلى سياق تدهوره الذي عبّر عن أبعاده سقوط بغداد عام 1258 م على أيدي المغول، وما عناه من فقدان الهلال الخصيب لدوره المركزي في المنطقة، وانتقال ذلك إلى مصر، زمن المماليك.
صحيح أن دحر الصليبيين كان مهمة عبّرت عن بقاء بعض المناعة الذاتية في الجسم الشرقي، إلا أن الشرق لم يعد قادراً على مواجهة بوادر ومفاعيل الاستيقاظ الأوروبي الذي كانت الحروب الصليبية أحد تجلّياته غير الناجحة، بعكس عمليات استئصال الوجود العربي في البر الأوروبي التي بدأت مع سقوط طليطلة (1085 م) لتنتهي بسقوط غرناطة عام 1492 م، ما أنهى السيطرة العربية على الأندلس التي بدأت عام 711 م.
إن سرعة عودة مركز الثقل السياسي والفكري إلى القاهرة مع المماليك (1250 ـــــ 1517 م) ـــــ بعد قضاء صلاح الدين الأيوبي (الآتي من الشام) على الدولة الفاطمية (المنافسة للعباسيين) في عام 1170 ـــــ قد ترافق مع ركون الشرق العربي واستسلامه إلى تدهوره، الذي تزامن بدء تدهوره في القرن التاسع الميلادي بالزمن العباسي مع بداية استيقاظ مصري عبر الدولة الطولونية، ثم بداية دخول أرض النيل في منافسة بلاد الرافدين كمركز للمنطقة مع الإخشيديّين ثم الفاطميين، ما كان أرضية موضوعية لبداية الاختراق الغربي لشرق المتوسط مع الصليبيين.
لقد رأينا ذلك بعد سقوط بابل عام 539 ق. م. على يد الفرس، وبدء ظهور السيطرة اليونانية والرومانية، وما رافق هذه السيطرة من بروز الإسكندرية كعاصمة فكرية للشرق الخاضع لأثينا وروما. ولم يستطع تجاوز ذلك سوى الإسلام الذي لولا امتلاكه، بعد اليرموك والقادسية، للهلال الخصيب، ما كان من الممكن أن يدخل مسرح الفعل التاريخي العالمي، وذلك في تكرار لدورة تاريخية لمَّا كان نهوض الهلال الخصيب، كما في زمن الأكاديين والبابليين والكلدانيين، مرادفاً لنهوض الشرق الأوسط بكامله، فيما كان العكس في فترات تدهوره التي كانت تنتج من سقوط الهلال الخصيب أمام الاختراق الخارجي، كما حصل بعد سقوط بابل بيد قورش الفارسي، أو بعد سقوطه بيد الإسكندر المقدوني بعد هزيمته للفرس عام 331 ق. م. وما تبع ذلك من سيطرة يونانية ورومانية، بعد سقوط سوريا بيدهم عام 64 ق. م، ثم بيزنطية ـــــ ساسانية على كامل المشرق.
كانت زعامة أرض النيل للشرق العربي في زمن المماليك مترافقة مع وتيرة متسارعة في عملية تدهوره، حتى انتهى هذا كله مع سقوط الهلال الخصيب وأرض النيل بيد العثمانيين، بعد قليل من انتصار الأخيرين على الصفويين في معركة جالديران (1514)، التي كانت نتيجتها محدِّدة لمن سيستولي منهما على تلك «الثمرة التي أينعت وحان قطافها». في المقابل، فإن التدهور في قوة العثمانيين كان مترافقاً مع استيقاظ للقوة المصرية، كما حصل في عهد محمد علي باشا (1805ـــــ1849)، ومتزامناً مع بداية الغزو الغربي الاستعماري للمنطقة، ما جعل مصر قبلة الشرق العربي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، في السياسة أولاً، ثم في الثقافة والأدب والفن، فيما ظلت مصر ـــــ إذا استثنينا سيد قطب ـــــ فقيرة في توليد الأفكار السياسية العربية المولِّدة للتيارات السياسية الكبرى التي نبعت من بلاد الشام (رشيد رضا أستاذ حسن البنا، ساطع الحصري، ميشال عفلق، أنطون سعادة).
في يوم 5 حزيران من عام 1967، وصلت الزعامة المصرية للشرق العربي إلى حالة دراماتيكية من الفشل في موضوع إسرائيل، فيما كانت قد وصلت إلى حالة مماثلة في يوم 28 أيلول 1961بموضوع الوحدة العربية، وربما ـــــ ويمكن التأكيد ـــــ أدى هذا إلى ذاك، فيما قادت هاتان المحطتان إلى بداية تحكّم وإعادة سيطرة الغرب ـــــ عبر زعامته الأميركية ـــــ بأجندات معظم المشرق العربي، بدءاً بمصر منذ توقيع اتفاقيات كامب دايفيد التي حجَّمت الدور المصري، لا في آسيا العربية فقط، بل أيضاً في مشاكل السودان (الجنوب ودارفور) حيث تجري مياه النيل التي تحمل شريان الحياة لمصر، إلى أن وصلت الأمور إلى ذروة دراماتيكية مع عودة الغرب إلى ممارسة الاحتلال، كما جرى من قبل واشنطن تجاه بغداد التي سقطت في يوم 9 نيسان 2003، وهو أمر ما كان يمكن أن يتم لو كان الشرق العربي ناجحاً في موضوعي الوحدة العربية وإسرائيل. أما حان الوقت لكي يطرح العرب هذا السؤال، وخاصة مع وصول مصر وقيادتها السياسية إلى مستوى من التدهور غير المسبوق في الأداء و«اللادور»، كما في الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة: «لماذا ترتبط الزعامة المصرية للشرق العربي مع تدهوره وسقوطه؟».

* كاتب سوري

عدد السبت ١٧ كانون الثاني ٢٠٠٩
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى