قضية فلسطين

خواطر مرافقة ليوميات الحرب

راسم المدهون
أكتب ولا أعرف إن كانت المساعي الجارية لإيقاف المذبحة الدائرة في غزة نجحت أو ستنجح.
المؤشرات الرّاهنة لا تدعوني كثيرا إلى التفاؤل، ذلك يعني المزيد من الشهداء في صفوف المدنيين، والمزيد من التدمير الممنهج للبيوت والمؤسسات ومرافق الحياة العامة في قطاع صغير بذل الغالي والنفيس من أجل إقامة بنية تعين مواطنيه على تحصيل الحد الأدنى من شروط الحياة الإنسانية.
الصورة تبدو بالغة القتامة يحيطها السواد من كل الاتجاهات: الوضع الميداني في طول القطاع الصغير وعرضه تحتلّه مشاهد التدمير الهائل وغير المسبوق، وما يعنيه من سقوط الضحايا، وأزمة المستشفيات القليلة، وأيضا المساحة الجغرافية الضيّقة والتي لا تسمح للناس العاديين بالعثور على منطقة شبه آمنة وسط الجحيم الذي يطال كل الأماكن ويجعلها تصطبغ بلون الموت.
فوق ذلك كله يتضح أكثر من أي وقت سابق أثر الانقسام الفلسطيني وخطورته على اللحظة الراهنة كما على المستقبل بأيامه وتطوراته القادمة: هنا نتذكر حرب لبنان الأخيرة صيف العام 2006. في تلك الحرب كان الخلاف مستعرا بين المقاومة اللبنانية وحكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وأمكن للطرفين معا، المقاوم والرّسمي أن يحقّقا تناغما بين دوريهما، كان له فضل إنجاز قرار وقف النار وإيقاف آلة التدمير الإسرائيلية، وهو نجاح دفع السيد حسن نصر الله وقتها إلى إطلاق إسم “حكومة المقاومة” على حكومة الرئيس السنيورة، في دلالة واضحة على الدور البارز الذي لعبته تلك الحكومة في شخص رئيسها في المحافل الدولية والعربية من أجل حشد الدعم للبنان، وتأييد جهود إنهاء الحرب أولا، ثم من أجل توفير أموال دعم عملية إعادة إعمار ما دمّرته الحرب. نتذكّر ذلك ونرى غياب هذا التناغم عن الساحة الفلسطينية في مواجهة العدوان الرّاهن، وهو غياب وصل حدّ الانقسام السياسي والجغرافي، ويساهم يوميا في تعطيل القدرة الفلسطينية على توحيد الخطاب الوطني والتحدث للعالم الخارجي بلغة واحدة بسيطة ومفهومة، وقادرة على استقطاب الدعم والتأييد الدوليين وبالذات لهدف إنهاء الحرب، وإنقاذ المواطنين الفلسطينيين من حملة الإبادة الجماعية التي ينفذها بحقهم قادة إسرائيليون يفضلون ملء صناديق الإقتراع في انتخاباتهم القادمة بالدم الفلسطيني، الذي يرونه كفيلا بإيصالهم إلى سدّة رئاسة الحكومة.
كان يمكن رغم الصعوبات الكبرى، ورغم النوايا الإسرائيلية الفاشية أن ينجح خطاب فلسطيني موحد، بسيط ومفهوم وواقعي، في إحراج الولايات المتحدة الأمريكية ودفعها لإبداء اهتمام جدّي بما يجري، وصولا إلى الضغط على حلفائها الإسرائيليين. لكن الأمر مضى على العكس من ذلك تماما، حيث وفّر الإنقسام، وغياب ذلك الموقف الموحد والعقلاني المزيد من الذرائع للمعتدين كي يواصلوا حربهم المجنونة على الشعب الأعزل.
صورة الفلسطينيين وهم يعيشون الحرب في ظل الإنقسام بدت خصوصا في الأسبوعين الأولين مهلهلة، خصوصا وأن حركة حماس واجهت العدوان بحملة إعلامية كثيفة من الاتهامات للسلطة بأنها ضالعة في العدوان، وهي اتهامات ساهمت في التقليل من التعاطف وفتحت الباب لانتقال الخلافات الفلسطينية الفلسطينية إلى الجمهور العربي الواسع، ما انعكس في انقسام مماثل يتغذى من انقسام الفلسطينيين ويغذيه.
اليوم والنار تلتهم اليابس واليابس في غزة، يبدو العقل أكثر من ضرورة. إنه حتمية لا يستقيم “التاريخ” دونها، والعقل الذي نعنيه هو بالتأكيد الواقعي، الذي يقبل النزول من العصبوية الحزبية والأيديولوجية الضيقة كي يرى حجم الخراب الذي حلّ بالشعب والقضية على حد سواء.
الظروف الرّاهنة تفترض العودة السريعة إلى اللقاء والتضامن الوطني، والشراكة الفاعلة في المؤسسات الوطنية، كما في القرار والمصير. أقول ذلك ولا أشعر بالتفاؤل إزاءه بسبب ما نرى وما نسمع، والأهم بسبب فشل الحالة الفلسطينية في اختبار تجاوز الخلاف والعودة على أسس الحوار والوحدة، وهو مؤشر نرى ضرورة التوقف عنده لرؤية آفاق المرحلة الصعبة القادمة، بكل ما تعنيه من صعوبات جديدة.

[
بعد أن يهدأ صوت تدمير قطاع غزة ينبغي أن نتوقف أمام السؤال القديم.. السؤال الذي فرض نفسه غداة الخروج الإسرائيلي من غزة: ماذا نريد من القطاع؟
من جديد يتوجب على القوى السياسية الفلسطينية تحديد ما تريده من ذلك الشريط الساحلي الضيق والمكتظ بالسكان، هل تريده “هانوي” التحرير كما يحلم البعض، أم تذهب إلى الفكرة الأخرى، تطوير الحياة هناك، ورفع أشكال التطور والتنمية وتأسيس لحياة مدنية متقدمة يمكنها تحويل القطاع الجائع والمحاصر إلى وسيلة إيضاح على قدرة الشعب الفلسطيني على أن يكون جزءاً حيوياً من عالم اليوم ويستحق الاستقلال والدولة ؟
السنوات القليلة التي أعقبت خروج القوات الإسرائيلية والمستوطنين من غزة، كانت فرصة حقيقية لاستكمال مشروع الاستقلال الفلسطيني من خلال عمل كل ما من شأنه رفع المعاناة عن فلسطينيي غزة، وتطوير ذلك القطاع الفقير وإرساء حياة سياسية حديثة وديمقراطية تنتظم كل قواه السياسية وتزجها في الفعل الفلسطيني العام الساعي لمحاصرة المخططات الإسرائيلية والقادر على استقطاب أوسع تأييد عالمي لفكرة وهدف تحقيق الاستقلال الفلسطيني.
من يعود بذاكرته اليوم إلى مسلسل الأحداث التي شهدها قطاع غزة يرى كيف سارت الأمور في الاتجاه المعاكس وصولا إلى تعميم فكرة المقاومة من غزة بالذات، وهي مقاومة اصطدمت منذ البداية بحقيقة أن غزة منطقة منبتّة تماما ونهائيا عن أي بعد جغرافي استراتيجي يمكن أن يشكل لها الحد الأدنى من الحماية والدعم اللوجستي فباتت عارية وحيدة في مواجهة آلة الموت والتدمير الإسرائيلية الحديثة، أي أن مقاومة غزة كانت ولا تزال بلا حليف حقيقي من أي نوع أو على أي مستوى فاعل ومؤثر يمكنه نصرتها وتخفيف آلام شعبها وحمايته من البطش الإسرائيلي.
نقول ذلك ونحن نرى من حولنا حالة التمزق والتشرذم العربية، وانهيار النظام العربي وضياع مؤسسة الجامعة وحيرة دولها في البحث عن وسيلة لإثبات وجودها، خصوصا في القضية الأبرز فلسطين والتي ظلت على مدار عقود عنوان النظام العربي الواحد وسبب وجوده واستمراره.
هي حالة لا بد أن تفرض على الفلسطينيين جميعا قراءة هذا الواقع، واستخلاص دروسه، والخروج بما يمكنه التخفيف من آثاره السلبية على الشعب والقضية كي لا تذهب دماء الشهداء هدرا، وكي يمكن للجميع استشراف أفق سياسي أكثر إيجابية وفاعلية.

[
لم تأخذ مسألة مكانها في ضجيج الإنفجارات مثلما فعلت مسألة “فتح المعابر”، حتى طغت على الكثير من الموضوعات ذات الصلة بالمذبحة الدائرة في غزة.
ما تطالب به حركة حماس هو فتح المعابر وإنهاء الحصار، وهو مطلب حق بالطبع، ولكنه يأتي مشروطا بطلب واحد محدد هو أن تقف حماس على المعبر.
قادة الحركة يعتبرون ذلك حقهم دون الانتباه إلى حقيقة أن وقوفهم على المعبر في ظل انفصال غزة عن السلطة الوطنية الفلسطينية يعني بالضبط الإقرار النهائي بوجود غزة ككيان مستقل.
الحديث بات اليوم عن الشراكة الحمساوية في إدارة المعبر، وهو حديث مقبول، ولكن في سياق الشراكة الكاملة في كل مؤسسات السلطة وليس في المعبر وحده.
أعتقد أن وجود حالة فلسطينية موحدة وسليمة وتقوم على المشاركة بين كافة القوى السياسية كفيل بحل معضلة الاختلاف على المعبر ومن يدير المعبر، وإلا سيظل الخلاف سببا في العودة إلى المربع الأول: استمرار رهن كل الحالة الفلسطينية من أجل “إجبار” العالم على الإعتراف بحكومة حماس المقالة.
قضية فلسطين لا يجوز بكل المقاييس أن تتحول إلى قضية معبر.
ولأنها قضية تحرر وطني واستقلال، لا بد من العودة مجددا إلى طاولة الحوار فهناك بالذات يمكن الوصول إلى التفاهم الوطني الشامل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى