صفحات مختارة

ما بعد الكولونيالية، انقضاء الحداثة أم إعادة تموضعها؟! قراءة في كتاب “موقع الثقافة”

محمد حلمي عبد الوهاب
أن تقرأ هومي بابا يعني أن تعيش تلك الحالة من الغرابة المقلقة، وأن تتأرجح دوما على الحدود الفاصلة ما بين الثقافات والعوالم والهويات، أو أن تلقي بنفسك، بوعي أو بدونه، في الممرّ الفاصل الواصل في آن بين مختلف الحضارات، أو أن تستمتع باستكناه ما لا يُدرك وما لا يُقال وما لا يقبلُ الترجمةَ بحال من الأحوال. أخيرا، وليس آخرا، أن تتورّط في استكشاف تلك الفضاءات الواقعة خارج نطاق السّلطة، كلّ سلطة، وأن تمضي بعيدا حيث تأخذك عوالم توني موريسون، وإدوارد سعيد، وفرانز فانون، وجاك لاكان، وجوليا كريستيفا، وجاك دريدا وآخرين!!
ويُعدّ هومي بابا، أستاذ الأدب الإنجليزيّ والفنّ بجامعة شيكاغو، واحدا من بين أبرز عشرين مفكّرا في حقبتنا الراهنة. وهو ينزع في أغلب كتاباته إلى مسح تلك الألفة التي تغلّّف المفاهيم والمصطلحات التي نتقاذفها اليوم من قبيل: التعدّدية الثقافية، التنوّع الثقافيّ، تعدّد الهويّات…إلخ حتى لا يعود بمقدورنا استخدامها بنوع من الرضا والبداهة ودونما تفكير.
وفي الواقع، يدفع بابا قرّاءه، رغما عنهم، في مسالك ودروب ومجاهيل ما كانوا ليعرفوها من دونه، فاتحا أمامهم حقولا جديدة للبحث والدراسة والتنقيب. شأنه في ذلك شأن نظيريه الآخرين فيما يُدعى بـ “الثالوث المقدس” لنظرية ما بعد الكولونيالية: إدوارد سعيد، وغاياتري سبيفاك، وهومي بابا. إذ يمثل ثلاثتهم “تركيبة علمية قد تكون أفضل المتاح على وجه الأرض!” على حدّ تعبير سامية محرز في تقديمها لترجمة مقالة سبيفاك “دراسات التابع، تفكيك التأريخ”( 1).
ففي المنظور ما بعد الكولونياليّ، الأقلّويّ، يتمّ إعادة كتابة تاريخ الحداثة من جديد. وبحسب بابا، فإنّ تواريخ الكولونيالية بما تضمّنته من عناصر: الاستبعاد، والاستغلال، والتمييز الجنسيّ، والاضطهاد، والتراتب الطبقيّ…إلخ، لا تتكلّم عن شعوب أو طبقات أو مناطق بعينها مرتبطة ارتباطا وثيقا بهذه التواريخ؛ وإنما تتحدّث بالدرجة الأولى عن التباينات الاجتماعية المشكِّلة للحداثة، بمعنىً آخر إنها تتكلّم عن “يوميّ” الحداثة!! وتبعا لذلك، فإنّ المنظور ما بعد الكولونياليّ يساعدنا على التفكير في تلكم الطرائق التي تُفضَحُ من خلالها التراتبات الاجتماعية وتفاوضاتها ضمن الحداثة.
إلا أنه رغم ذلك الاستخدام الفضفاض لمصطلح “ما بعد الكولونيالية” في وصف تشكيلة هائلة من الممارسات الثقافية والاقتصادية والسياسية، وعلى نحوٍ يُهدّد بأن يفقد هذا المصطلح معناه الفعّال(2 )؛  فإنّ ما يبقى مشتركا بين الدراسات ما بعد الكولونيالية هو ذلك الاهتمام الجادّ، ليس بانقضاء الحداثة وإنما بإعادة تحديد موقعها. أي أن ما يبقى مشتركا هو ما تحاوله الحوافُّ في زمن ما بعد الحداثة من إعادة تحديد اللبّ، وما تتجرأ عليه الهوامش من إعادة تشكيل المركز في مراجعةٍ لا تنظر إلى “اللاغرب” على أنه مجرد آخر لـ “الغرب”، أو موقع يجري تعريف تاريخه وهويته في تكوين حداثة صاغها مسار “الغرب” وعقله، أي دون أن تسلك هذه المراجعة سبيل الأصولية الثقافية أو القومية أو الدينية التي تصوغ صورةً لثقافتها أو أمتها أو ديانتها بوصفها مصدرا أصيلاً للهوية النقية التي لم يلوّثها الغرب الحديث والمعاصر( 3).
وفي كتابه “موقع الثقافة”، ترجمة ثائر أديب، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2006، يُساجل هومي بابا بمعنى ما ضدّ القول بأن الخطاب ما بعد الكولونيالي يُعد شكلا من أشكال “ما بعد الحداثة”. وفي هذا السياق يتساءل بابا عن ماهية الحداثة بالنسبة لأولئك الذين هم جزء من أدواتها وحكمها، لكنهم لأسباب تتعلق بالعِرق أو الجنس أو الموقع الاقتصادي الاجتماعي تمّ إقصاؤهم عن معايير عقلانيتها أو وصفتها الخاصة بالتقدم فراحوا يعيشون “بخلاف الحداثة” إنّما ليس خارجها؟! بمعنى آخر، إن سؤاله يتعلق، بالدرجة الأولى، بأشكال الهوية والفاعلية التي تبزغ من أكدار الحداثة ومنغِّصاتها وضروب قلقها الوجودي؟!
يعترف بابا في كتابه إذن بأنّ نظرية ما بعد الكولونيالية لا يمكنها تفادي بُنى المعرفة الغربية، وإنْ سلّطت نقدها على عماياتها وضروب انغلاقها. ذلك أن “موقع الثقافة” اليوم لم يعُد واقعا في أسر لبابٍ نقيٍّ من التراث، وإنما على حوافِّ التماس ما بين الحضارات حيث تنطلق “بينيّة” و”هجنة” و”هويات” جديدة فاعلة.
وقد انشغل بابا في أغلب كتاباته بذلك الإهمالِ الذي نال “التجاذب” الذي يتسم به “موقع الثقافة” والهوية، والذي لا يقتصر على الممارسة الأوربية للتحليل الثقافيّ وإنما تعدّاها إلى الطرف الآخر الذي يُفْتَرَضُ به العكس تماما. وقد أثار كتابه الذي نعرض له هنا زوبعةً من التعليقات ما بين مديح وذمٍّ، ولكنه بإثارته لهذه النقاشات أكّد أهميته وجدارته بالتعاطي معه رفضا أو قبولا.
فقد كرّس هومي بابا جهوده الأخيرة بصفة خاصة لاستكشاف “الموقع الثقافي” البيني مُدافعا عن موقع نظريّ يفلت من أسر ورهن ثنائيات: الشرق والغرب، الذات والآخر، السيد والعبد، الداخل والخارج…إلخ. موقع يتغلّب على الأُسس المتعيّنة ويكشِفُ، في الوقت ذاته، عن فضاء جديد من الترجمة لا تكون فيه الهويات منسوبةً إلى سمات ثقافية متعيّنة مسبقاً أو غير قابلة للاختزال أو قائمة خارج التاريخ. وبحسبه، فإنّ ثنائية السيد والعبد/المستعمِر والمستعمَر لا يمكن النظر إليها على أنها تجسّد كيانين منفصلين يحدّد كل منهما ذاته على نحو مستقل. بل على العكس تماما، إنّ ثمة تواجها وتبادلا متواصلين تُؤدَّي فيهما الهوية الثقافية أداءً، في زمن الحاضر، وضمن فضاء “حدّيّ” بمثابة موقع هجين يترك لـ “الاختلاف الثقافي” أن يُبرزَ ويُنْتِجَ معارفَ ومعانيَ جديدة ويُمَكِّنَ من بناء موضوع سياسيّ جديد يُغّربُ توقّعاتنا السياسية المعهودة، ويُغيّر الأشكال المألوفة لمعرفتنا السابقة والراهنة بلحظة السياسة.
وبهذا المعنى، فإنّ كتابه هذا يهدف إلى إعادة مَوْقَعَةِ من يحلّل الإنتاج الثقافيّ، فاتحاً فضاءً وزمنا جديدا للنطق النقديّ، حيث يعيدُ “الاختلافُ الثقافيّ” الإفصاحَ عن محصّلة المعرفة من منظور موقع الأقلية الدالّ الذي يقاوم إضفاءَ الطابع الكلّيانيّ دون أن يكون محليا أو خصوصيا، والذي يمكّن منه إنتاج أشدّ أشكال الثقافةِ استنطاقا ومُساءلةً، وإعادة تقويمِ كاملِ الحداثة وما بعد الحداثة وما فيهما من عَماياتٍ حيال بُنى القوة المتوضّعة ضمن آلياتهما في الهيمنة.
وتبعا لذلك، راح بابا يطرح أسئلته العميقة حول كفاية القوالب الخاصة بـ “التسامح” و”المدنية” وقدرتها على سرد تواريخ عدم التسامح واللامدنية، ممّا تعرض ويتعرّض له آخرو المتروبول الغربي من مستعمَرين، وزنوج، ونساء، وأطفال، وعمّال…، مثلما راح يشدُّ القوالبَ الليبرالية والأصولية والراديكالية إلى الحدّ الذي تتّضح عنده نقاطها الرمادية التي تشفّ عن مركزيتها الإثنية وبلاغاتها الإرادوية، وإلى الحدّ الذي تنمُّ فيه أيضا على “الآخر” الذي يبدو ضمن عَماياتها كما العرَضُ المرضيّ الدالّ.
ليس عمل بابا في كتابه إذاً مجرّد استكشاف لأوضاع البلدان الكولونيالية وما بعد الكولونيالية، وإنما جلاءٌ لديناميات السلطة والإخضاع والمقاومة. وهو بذلك ينطوي على فكرة العمومية المفاهيمية أي “النظرية” في نفس اللحظة التي نسمع فيها من كلّ حدب وصوبٍ أنَّ “النظرية قد ماتت”. وبكلمة واحدة، إن ما يراه بابا هو أنّ أنظمة المعنى، والخطاب، والحكم… تعمل في، وعبر، العلاقات الاجتماعية المتجاذبة التي يخلفها فعل الانشطار الاجتماعيّ والخطابيّ، بحيث أننا كذوات لتلك الأنظمة نكون واقعين في شراك هذه السيرورات الإشكالية من تعيين الهوية والتي تمثل الشروط الأولية التي يتكوَّن فيها مخيالنا الاجتماعيّ، مستعمرِين كنا أو مستعمَرين، مضطهِدين أم مضطَهدين، أقليةً أو أكثرية.
وليس هذا الانشطار مجرّد مأزق أو شرك، إذ لا يقع على الطرفين في النقطة ذاتها كما أن سيرورته المتفارقة لدى كلّ منهما تتيح للمستعمَر أو المضطهَد إمكانيةَ بناء إستراتيجية أو فاعلية تفكّك صوت السلطة عند نقطة الانشطار. وبذا تُخْلَق إمكانيةُ الاستنارة والتدبّر والمقاومة، بل وإمكانية الهدم أيضا، من العيش عند التقاطع والتجاذب، وربّما من الجهد الذي يجب أن يبذله المستعمَر والمضطهَد كيما يعيش هناك ويُعْنَى بشيئين متناقضين في الوقت ذاته دون التعالي على هذا التناقض أو كبته.
ذلك أنّ إقامة المستعمَر أو المضطهَد في التناقض تُتيح له أن يستخدم هذي السيرورة في بناء فاعلية اجتماعية تتم من خلال التدخل في لغة السلطة وكشف انشطارها فضلا عن إعادة إنتاج تلك اللغة مرة أخرى على نحوٍ يطيح بحسابات المتمكّنين ويتيح لغير المتمكّنين أن يتعرفوا الاستراتيجيات التي يُضْطَهَدون من خلالها وأن يوظفوا تلك المعرفة في بناء مقاومة. وبحسب بابا، فإن الاختلافات الطفيفة والانزياحات البسيطة غالبا ما تكون العناصر الأشدّ أهمية في سيرورة الهدم والتغيير.
وللدلالة على ما سبق يورد بابا في كتابه مثالين أولهما هو الذي يقوم عليه الفصل السادس المعنون “دواليل أُخِذَت على أنّها أعاجيب: أسئلة التجاذب والسلطة تحت شجرة خارج دلهي، مايو 1817”. أما المثال الثاني، فهو ذلك الفضاء الجديد والإضافيّ الذي فتحته في إنجلترا تلك الجماعات النسوية، كحركة النساء المناهضات للأصولية والأخوات السوداوات الجنوبيات، إبان أزمة سلمان رشدي.
ففي المثال الأول، حدث أن حاول بعض الهنود ممن اعتنقوا المسيحية في أوائل القرن التاسع عشر حثّ الفلاحين الهندوس على التحول إلى المسيحية. وكان ذلك يثير حوارات بين الطرفين قد يسهُل تفسيرها على أنها تمثل ضربا من التبادل بين مسيحية استعمارية قوية وبين تقليد ديني محليّ أو أصليّ يقاوم هذا التحوّل. غير أن اللافت للنظر في سيرورة هذا التناقض الحواريّ، أو الحوار التناقضيّ، هو أن الطريقة التي خاض بها الفلاحون الهندوس هذه العلاقة الكولونيالية تمثّلت بمواصلة إنتاج خطابات إضافية (بالمعنى الديريديّ، نسبة إلى جاك دريدا، لكلمة الإضافة) تعد بمثابة موقع للتفاوض والمقاومة إذ كانوا يقولون مثلا: “يسعدنا التحول إلى المسيحية إذا ما أقنعتمونا بأن كلمات الإله المسيحيّ لا تصدر من أفواه أشخاص يأكلون اللحم!! كلمات إلهكم جميلة لكن كهنتكم ليسوا نباتيين، ونحن لا نصدق أن أحدا يأكل اللحم يمكن أن ينقل كلمة الله!!”.
وبالطبع، فإنّ منطق التقابل والتضادّ بين المسيحية والهندوسية، أو حوار السيد والعبد، لا ينطوي على ما يقتضي بناء هذا الموقع المتفارق والمتناقض. بمعنى آخر، لا ينطوي على الدال القائم على التفاوض والذي يمكن أن نسمّيه هنا “الإنجيل النباتيّ” الذي يبدو بمثابة مطالبة بقراءة جديدة لذلك النصّ المقدّس الذي يقول: “كل ما يدخل الإنسان من خارج لا يقدر أن ينجسه. لأنه لا يدخل إلى قلبه بل إلى الجوف…”.(4 )  فهذا النص الآمن والقّار عقيديا، يبدو وكأنه يأخذ معنى مغايرا الآن وتُعاد ترجمته في نطقه الكولونيالي ليكشف عن موقعٍ آخر لمفاوضة السلطة ومقاومتها، سواء رمزيا أم اجتماعيا.
أما فيما يتعلق بالمثال الثاني، فيذكر بابا أنه ساد تصوران نتيجة الاستقطاب الحادّ الذي حدث إبان أزمة رشدي فيما يتعلق بمسائل النصّ والنصيّة وهما: هل نحاول قراءة القرآن الكريم عبر استراتيجيات الرواية ما بعد الحداثية وسردها وقيمها الأخلاقية؟ أم نحاول أن نقرا الرواية ما بعد الحداثية تبعا لمعطيات التأويل والتوجه النصيّ القرآنيّ؟!. والملفت للنظر هو أن ردّ تلك الجماعات النسوية جاء خارج هذا الاستقطاب الحادّ بكل ما للكلمة من معنى، حيث احتللن فضاءً آخر، وطرحن منه سلسلة كاملة من القضايا المتعلقة بتربيتهن وتعليمهن وسياسات الأسرة والمنزل والبغاء…إلخ، كما ربطن بين سياسات الدين في إيرلندا الشمالية والطريقة التي تم بها تحويل الاختلاف الدينيّ في قضية رشدي إلى عامل وَاسِمٍ للاختلاف الإثنيّ والثقافيّ.
ورغم أنه لا رابط مباشر لتلك القضايا مع أزمة الرواية، إلا أنها كانت بمثابة الإضافة الديريدية إليها. فبدلا من أخذ قضية رشدي أخذاً مباشرا وجعلها بمثابة مشروعهن الخاص والتنطّح لحلها، قامت هذه الجماعات النسوية بفتح هذا الموقع السياسيّ المُنتج إلى جانب قضية رشدي، وبذا أعدن تصريف هذا الحدث وترجمته باتجاه السياسات المتعلقة بالجماعات والمؤسسات العامة، وباتجاه ما تمارسه الدولة من إضفاء الطابع العنصريّ على الاختلاف الدينيّ.
الهوامش:
(1 ) نشرت في “ألف” مجلة البلاغة المقارنة، العدد 18، 1998، ص 122-156.
(2 ) راجع في هذا الخصوص: جيمس صيداوي: جغرافيا ما بعد الاستعمار، بحث استطلاعي، ترجمة: أسعد حليم، مجلة الثقافة العالمية، العدد 108، أكتوبر 2001، ص 52-77.
(3 ) لمزيد من التفاصيل حول هذه المسألة أنظر: تيموثي ميتشل: مدرسة دراسات التابع ومسألة الحداثة، ترجمة: بشير السباعي، ألف مجلة البلاغة المقارنة، العدد 18، 1998، ص 100-121.
(4 ) إنجيل مرقس 7: 18-23.
موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى