صفحات مختارةياسين الحاج صالح

عــن »المجتمــع المكشــوف«، وكيــف يتحــرر؟

ياسين الحاج صالح
إن من حيث مرجعياتهما الحديثة وغير المعروفة عندنا، أو من حيث انحيازاتهما الفكرية والسياسية للمحرومين والضعفاء، تشكل مقالتا الصديقين عبد الحي السيد (المجتمع وحالة الاستثناء، السفير الثقافي، ٢٠٠٨٩٢٩) وعمر عزيز (حالة الاستثناء، القانون، والتوق إلى الحياة، السفير الثقافي، ٢٢٠٨١٢١٢) مساهمتين متفردتين في الكتابة السياسية، في سوريا وفي إطار عربي أوسع.
مستفيدا من الفيلسوف الإيطالي جيورجيو أغامبن، يوظف عبد الحي مفهوم »الحياة العزلاء« التي تفرضها »حالة الاستثناء« في بلداننا على رعاياها، فتردهم إلى »كائنات بلا كيان«، »كائنات مستباحة«، »يمكن التخلص منها أو التصرف بها من دون أن يعني ذلك ارتكابا لأية جريمة أو حتى تقديما لأي قربان«. غير أن المجتمع المبدد على هذا النحو لا يستكين لأحوال الاستثناء ونظمها، بل يحاول أفراده »أن يلملموا ما تبقى لهم من كيان ليصنعوا فضاءاتهم البديلة، ويستعيدوا فيها بعضا من المعنى لوجودهم«. إنهم يطورون مقاومات متنوعة، »تمنع مشروع الاستثناء أن يكتمل«. ويرصد عبد الحي ضروبا من المقامات هذه مثل اللامبالاة بالسياسة وانتهاك القانون الرسمي واستخدام المؤسسات الرسمية لصنع وإقرار فضاءات اجتماعية البديلة »تلتئم فيها رواية بديلة للهوية والجود والمستقبل«. على أنه يلاحظ أن الفضاءات تلك قد تتشكل على أرضية دينية وتقليدية أحيانا، ويحصل أن »لا تتضمن بالضرورة تحريرا للمبادرة الفردية، بقدر ما يكتنفها إعادة إنتاج لحكام صغار، ونظم سيطرة على مستويات دنيا ومحلية«.
متفقا مع عمر عزيز، تبدو لي مشكوكا فيها نسبة »الحياة العزلاء« إلى »حالة الاسثتناء«، المفهوم الذي يحمل تضمينات قانونية يصعب فصله عنها (الأمر الذي لم يحاوله عبد الحي على كل حال). مستندا إلى فوكو، رأى عمر أن »العنف المنظم هو القوة المؤسسة للقانون«، ومستندا إلى كارل شميت رأى أن الاستثناء لا يقيم خارج القانون بل هو ينبثق منه ويتأسس عليه، ما يعني أن الخروج من حالة الاستثناء ممتنع دون الخروج على القانون ذاته نحو ما يسميها عمر »فضاءات محبة ومختلفة وفرحة ومنفتحة«، يتجسد فيها »التوق إلى الحياة« الذي يراه أوليا وسابقا لكل سلطة، وليس »دفاعا عن الحياة« ولا هو »رد فعل لممارسات السلطة« الاستثنائية التي انتهكتها كما يبدو أن عبد الحي يرى.
فكيف نصف الأوضاع التي نعيش في ظلها »حياة عزلاء«؟ يبدو عمر أقرب إلى اعتبار الدولة، بما هي كذلك، عنوانا لهذه الأوضاع، وإن ألمح في موقع من مقالته إلى »هيمنة رأس المال«. وكما قد نتوقع، يسوقه هذا التصور إلى التقليل من شأن الفوارق بين »دول القانون ودول الاستثناء«، فيردها (الفوارق) إلى »مكنات استبدادية« يوظفها رأس المال (في حالة »دولة القانون«)، مقابل »سلطات استبدادية بدأ رأس المال بالتموقع في أجهزتها القيادية« (في حالة »دولة الاستثناء«).
أميل من جهتى إلى الاعتقاد بأننا نعيش »حياة عزلاء« يمكن تشكيلها وحبسها وقصها وتقطيعها وطيها وقصفها وبترها و»كيُّ وعيها« (موشيه يعالون، رئيس الأركان الإسرائيلي أيام التنكيل بجنين عام ٢٠٠٢) وحرقها وحذفها بفعل ضعف الحمايات الثقافية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية التي تقيد السلطة، وتمكّن المجتمع من السيطرة على شروط حياته والتحكم بها. ضعف الحمايات هذه أمر يتجاوز القانون إلى بنى وتطور دولنا ومجتمعاتنا الحديثة. تبدو دولنا أشبه ما تكون بسلطات محض أو مطلقة، مضادة لفكرة القانون بالذات، ولا تنضبط بقاعدة أيا تكن. وربما يتصل ذلك بواقع أن مجتمعاتنا نواجه عددا كبيرا من التناقضات غير المحلولة والتي لا يبدو أن أحدا قادرا على حلها: تناقضات بين الداخل والخارج، بين الماضي والحاضر، بين الدين والدولة، بين الأرض والسماء، بين المكونات الاجتماعية للدولة، بين الدولة ومحيطها القريب… إلخ. قد يبدو هذا توصيفا تاريخيا عموميا لا يتعارض، حتى لو صح، مع الممارسات التي يوحدها مفهوم »الحياة العزلاء«. لكن الغرض هو القول إن »الحياة العزلاء« و»حالة الاستثناء«، في تعبير عبد الحي، مندرجتان معا في وضع من الانكشاف التاريخي، أو فقدان التحكم بشروط الحياة والسيطرة على المصير، وانفلات الشروط هذه من قدرة الأيدي والمدارك على الإمساك بها واستيعابها عقليا. وتتفرع حال الانكشاف هذه إلى انكشافات متعددة اجتماعية (تفكك أطر الاجتماع التقليدية والتناثر الاجتماعي) واقتصادية (الفقر وتدني الدخل وانهيار قيمة العمل) وسياسية (منع الدفاع عن النفس والانتظامات المستقلة) وعقلية (تشوش المدارك وإبهام العالم وفقدان القدرة على التوجه فيه)، وأمنية (انتهاك حتى المجال الخاص وفقدان الأفراد والجماعات الحماية والحصانة…) ووجودية (تخلي الله عنا…). يمكن أن نستخدم حال الاستثناء لوصف هذا الواقع إن شئنا، لكن للإشارة إلى وعورة هذا الواقع وفظاعته الإنسانية وشذوذه التاريخي، لا بالتقابل مع »حالة سواء« تعرف بلغة قانونية.
والشرط هذا الذي قد يكون انتقاليا يقترن عندنا اليوم بالطغيان والتعسف، على نحو ما كان اقترن في أوربا بالحكم المطلق بين القرنين السادس عشر والثامن عشر. فتخلخل الهياكل والضوابط التقليدية، الاجتماعية والقيمية، هو فرصة سانحة لـ»تغول« السلطة وخروجها على كل قياس. ومن جهة أخرى ربما يكون التضخم السريع للسلطة ضربا من التعويض عن القصور في تكون ضوابط جديدة، قانونية واجتماعية وأخلاقية.
ويلتمس كل منا سبل التدثر من هذه الانكشافات أو مواجهتها أو تحويلها بما أتيح له من عتاد مادي وفكري وسياسي. المقاومات التي رصدها عبد الحي جهود في هذا الاتجاه. لكنها مقاومات قطاعية، مفتتة، معزولة هي ذاتها، لا تقاوم الانكشاف العام أو »حالة الاستثناء« بما هي شرط تاريخي بلا ضوابط، بل تواجه الانتهاكات المباشرة لفضائها الخاص، ولا يتطلع المشاركون المحتملون فيها إلى ما يتجاوز »توسعة فضاءات حياتهم وإمكانياتهم لذهنية والجسدية والنفسية«، وكذلك »توسعة رقعة حركتهم« حسب عمر عزيز. وقد تحصل »التوسعة« هذه على حساب فضاءات مهمشة أخرى، وليس بالضرورة على حساب القيمين على النظام، كيفما وصفناه وفسرناه.
ما هو المثال الذي يصبو إليه هؤلاء المقاومون؟ إنهم جميعا يتطلعون إلى حياة مرتاحة، مرفهة، إلى سكن لائق (في حي منظم ومخدّم) وتعليم جيد وعمل مجز وفضاء اجتماعي »محب وفرح«. مقاوماتهم تستمد حوافزها من مثال الحياة هذا لا من غيره، على نحو ما يبدو أن عمر يعتقد. لكنهم يجدون أنفسهم خارج المجتمع المنظم (٤٠٪ من الاقتصاد السوري مثلا قطاع غير منظم، يشتغل فيه ٤٢٪ من قوة العمل، أي ما قد يعيل أزيد من ٨ ملايين من ٢٠ مليونا من السكان)، فيطورون فضاءاتهم البديلة بما يوافق الإمكانات المتاحة لا بما يوافق التطلعات المشروعة. ولذلك أجد ملتبسا قول عبد الحي إن »الأحياء غير الرسمية »السكن العشوائي أو مناطق المخالفات« ليست سوى جزء من نظام عمراني بديل«. فسكانها لم يختاروها، ولكانوا يفضلون العيش في »أنظمة العمران الرسمية« لو تسنت لهم الفرصة. ليست بديلا ألا لأنه لا بديل أمامهم غيرها. ما قد يكون بديلا إيجابيا في نظرهم ليس إلا العمران الرسمي والمنظم. أما قوله إن »أنظمة العمران الرسمية« لا تبدو لعين سكان العشوائيات »أقل عشوائية من سكنهم غير المنظم« فيبدو لي إسقاطا لوعي خارجي على جمهور يسعى ما استطاع إلى الخروج من حالة الهامشية المفروضة عليه.
إن ما يحرك جمهور المحرومين هو نازع الإمساك بحياتهم وعدم تركها تفلت من أيديهم… هذا هو الانكشاف الذي لا يطاق، والذي تمثل أوضاعا كالسجن نموذجا أقصى له (التعذيب هو الانكشاف المطلق)، لكن تقاربه أوضاع الفقر الطغيان والاحتلال (ليس تعذيب غزة الجاري على يد الإسرائيليين غير حالة انكشاف مطلق، تحاكي تماما وضع معتقل تحت التعذيب. أليست غزة معسكر اعتقال مفتوح أصلا؟).
يعاش الانكشاف ويشعر به كفضيحة تطعن الإنسان في شرفه، أي صميم حياته. ولعل في الدعاء الشعبي الدارج بالستر (»استرنا يا رب!« أو »استرها يا رب معانا!«..) ما يشير إلى ضرب من »الرهاب« العربي الراسخ، رهاب الانكشاف والفضيحة.
التقديس
وقد يكون أحد مصادر الالتباس في تحليل عبد الحي ازدواج مفهوم المقاومة لديه. فهو يستخدم المفهوم بمعنى معياري موجب مرة حين يتكلم على فضاءات بديلة، وبمعنى وصفي محايد مرة أخرى حين يتكلم على احتمال »إنتاج حكام صغار، ونظم سيطرة على مستويات دنيا ومحلية« (كان نقد كهذا وجه لمفهوم المقاومة عند ميشيل فوكو، وإن لم تخني الذاكرة فإن الناقد هو ريتشارد رورتي). وهذا ما منعه أن يرى أن أصناف المقاومات التي ذكر، وأنا أضيف إليها الرشوة والعدوانية حيال المرافق العامة والإضراب الفعلي الدائم عن العمل من قبل العمال والموظفين عند »الدولة«، وكذلك الطائفية والعشائرية… تتعايش مع نظام السلطة القائم وتفترضه وتشاركه عملية تدمير الفضاء الاجتماعي العام وقتل ما يحتمل أن يكون فيه من محبة وفرح. إن العشائر والطوائف فضاءات اجتماعية حميمية، مختلفة، وقد تكون محبة، لكنها ليست فرحة، ولا بالخصوص محررة، فضلا عن كونها متعادية فيما بينها. وقد يمكن النظر إليها كتشكلات مقاومة لحالة الانكشاف الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والعقلي. لكنها مقاومة بالانكفاء على ذوات جمعية ناجزة، لا بالانفتاح على الآخرين والعمل معا من أجل »توسعة« الحياة وخلق فضاءات مشتركة مفتوحة.
إن ما يتشكل في مواجهة النظام السالب للإنسانية هو بنى ولائية قد تكون إنسانية جدا، لكنها طاردة للحرية واستقلال الأفراد. يصون الناس إنسانيتهم بالتخلي عن حريتهم، لأنهم يعلمون بالتجربة أن من شأن الدفاع عن حريتهم حتى النهاية أن يوقعهم في أوضاع تهدر إنسانيتهم، أو حتى حياتهم. لكن ما نتوق إليه هو الحرية والإنسانية معا، وقد تقتضي المقاومات والتوق إلى الحياة صراعا وحشيا، ربما يوسع مساحة حرية عدد أكبر من الناس لكن ليس دون أثمان باهظة.
من جهة أخرى يشتبه المرء في سوريا التي تعرض في آن نظام سلطة مطلقة يدير عددا كبيرا من التناقضات غير المحلولة، ومثالا لحالة انكشاف عام قاسية، يشتبه بأن »السلطات العمومية« لا تجد غضاضة في ضروب المقاومات التي تكلم عليها عبد الحي، و»الفضاءات البديلة« المخالفة التي تثمرها تلك المقاومات، وذلك لكونها وسيلة تحكم احتياطية بالمجتمع، يمكن استحضارها عند اللزوم. واللزوم جاهز دوما إذا وضع مجتمع الفضاءات المخالفة هذه نفسه في معارضة النظام، أو شكل ملجأ لخارجين عليه، أو حين يجني النافذون مكاسب كبرى من »الإجراءات التنظيمية«. وهذه الاستراتيجية الأخيرة آخذة بالتوسع حاليا مع »تحرير الاقتصاد«، ومرشحة لمزيد من التوسع في المستقبل.
ما أريد قوله هو أن تحليلات الصديقين تضفي شيئا من الرومنسية على فضاءات ليست حرة كما تبدو ولا اختيارية، رومنسية قد يكون أصلها ما يقارب تقديس »المقاومة« (عبد الحي) أو تقديس »التوق إلى الحياة« (عمر).
هناك شيء غائب من أجل أن تغدو الفضاءات هذه منفتحة وحرة، شغل ثقافي وروحي، وسياسي بالمعنى الجوهري للكلمة، أي ترقية اجتماعية الإنسان وبناء الضمير العام أو نشر »الفضيلة العامة«؛ شغل يبدو أنه يغيب عن مقاربة عبد الحي، وأكثر عن مقاربة عمر التي تبدو معادية للدولة، تمنح ثقة مطلقة لـ»توق إلى الحياة« يبدو إما غامضا أو مفضيا إلى تنافس لن يفوز بمحصلته إلا الأقوياء، دون وجود ما يحمي الضعفاء من ضوابط وقواعد عامة أظهر عمر ازدراء صريحا لها. أليس توق طغاتنا وزبائنهم إلى الحياة هو ما يميت مجتمعاتنا؟ وألا يسحق توق الإسرائيليين إلى الحياة توق الفلسطينيين، والفلسطينيين أنفسهم؟
قد يكون أصل المشكل أن الصديقين ينقلان مفهومين، »المقاومة« و»التوق إلى الحياة«، من إطار اجتماعي سياسي ثقافي تتوفر فيه نواظم وضوابط تعدل الفعل المحرر للمفهومين، أو بالأحرى فيه من كثافة الضوابط (»السلطة الانضباطية« بتعبير فوكو) ما يمنح للمقاومات والتوق إلى الحياة مفعولا محررا وموسعا. الأمر ليس كذلك عندنا. ثمة ضعف مفرط في الضوابط والقواعد والمؤسسات، ما من شأنه أن يجعل أصنافا من المقاومات والتوق إلى الحياة حليفا لانكشافاتنا المتنوعة ولعراء حياتنا.
كان أغامبن بلور مفهوم »الحياة العزلاء« في سياق التفكير بمعسكرات الموت النازية. والحال إن هناك فارقا أساسيا بين الطغيان النازي والطغيان المعاصر لدينا. طغيان النازي هو، إن صح التعبير، طغيان فرط التنظيم والعقلنة، »السلطة الانضباطية« في تجليها الأقصى. كان وكلاء النازية يجرون تجارب على البشر (يضعونهم في درجات حرارة متدنية جدا ثم يغيرونها؛ يحقنونهم بمواد كيميائية…) ويسجلون النتائج، كما لو كانت التجارب تجرى على خنازير أو فئران. طغياننا طغيان نقص التنظيم والعشوائية التامة والتعسف والفوضى والقوة الخام. السلطة لدينا اليوم ليست انضباطية بل اعتباطية، وليست قانونية بل عرفية. »الاستثناء« ليس شيئا يطرأ عليها، بل هو جوهرها و»دستورها«.
هذا الفارق يضع التعليم والقواعد والمؤسسات والمعرفة والحواجز الأخلاقية والجمالية، جملة ما يسميه فرويد »عمل الثقافة«… في موضع حليف الحرية لا خصمها، خلافا لأوربا حيث يجري الكلام كثيرا على العقلانية الأداتية والقمعية (مدرسة فرانكفورت) وحيث ينتقد فكر التنوير ويدان (مجمل تيار ما بعد الحداثة). فوكو وأغامبن ليسا بعيدين عن هذه المناخات الفكرية.
عمل الثقافة عندنا محدود، ويكاد يكون غير مؤثر. لماذا؟
لعل هذا ما يتعين تقليب النظر فيه مليا. نضيف فقط أن »عمل الثقافة« ليس عملا ثقافيا، ولا عمل مثقفين فحسب. نضيف أيضا إننا نشعر أن توحيد القواعد والحرية يقتضي شغلا على الدين. نفكر بـ»ألوهة دستورية« مثلا.

(كاتب سوري)
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى