الأزمة المالية العالميةعمر قدّور

نحن والأزمة الاقتصادية العالمية

عمر قدور
تطرح الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة مجموعة من الأسئلة على النظام الاقتصاديّ العالميّ السائد خلال العقود الثلاثة الماضية، كما تطرح مجموعة من الأسئلة والتحديات على اقتصاديات الأطراف، ومنها اقتصاديات المنطقة العربية. وفي حين يبدو استخلاص النتائج النهائية مبكراً إلا أنّ المؤشرات الحالية تشي بطبيعة التوجّهات، خاصّة على صعيد الاقتصاديات العربية التي تتجاوب مع المتغيرات الحالية بتثاقل ينسجم مع محدودية دورها العالميّ من ناحية، وتتّجه إلى تكريس موقعها الهامشيّ مستقبلاً من ناحية أخرى.
تراوحت ردود الأفعال الرسمية العربية بدايةً بين الصّمت والتقليل من حجم الآثار المحتملة على اقتصادياتها جرّاء الأزمة العالمية، إلى أن بدأت الآثار بالظهور تباعاً وسريعاً على أسواق المال العربية. حتى إن أخذنا ردود الأفعال على سبيل تهدئة المخاوف، أسوة بتصريحات بعض زعماء العالم، إلا أنّ القيادات العربية لم تبادر إلى إجراءات احترازية سريعة، ومن المفارقات أنّ زعماء دول النفط عقدوا اجتماعاً متأخّراً وأعلنوا عن معدّل نموّ جيّد ستشهده دولهم خلال السنوات المقبلة، دون أن يعرف أحد المعطيات التي تسند تفاؤلهم!.
من الخطأ اختصار تبعات الأزمة بالانخفاض في أسواق الأسهم في بعض الدول العربية، خاصة النفطية منها، إذ لا تتوافر أرقام دقيقة عن الخسائر التي تكبّدتها المحافظ الاستثمارية الحكومية لهذه الدول في البورصات العالمية، وهنا ينبغي التدقيق في مسيرة الوفر الذي حقّقه الارتفاع الهائل في أسعار النفط خلال الفترة الماضية، والمقدار الذي تم استثماره في الدول المعنية مقارنة بما ذهب إلى الاستثمار في الأسهم العالمية، ولأنّ المعلومات المتاحة قليلة في هذا الشأن لا يسعنا سوى الاستئناس بالتطوّر الاقتصاديّ في تلك الدّول؛ حيث تدلّ الأرقام المعلنة على تزايد في الإنفاق الحكوميّ يذهب معظمه إلى قطاعات غير إنتاجية، فيما كان التسلّح في رأس قائمة الإنفاق المتزايد لبعض الدول. ترجّح المؤشرات السابقة فرضيةَ أن تكون الدول النفطية العربية قد خسرت، عبر محافظها الاستثمارية الخارجية، الكثير مما كسبته خلال القفزة الاستثنائية في أسعار النفط؛ أي أنّ قدرة اقتصاديات هذه الدول على استيعاب المكاسب بقيت محدودة قياساً إلى مرونتها في تلقّي الخسائر والآثار السلبية عموماً.
تشجّع المعطيات السابقة على القول إنّ الدول النفطية فقدت بسبب أزمة المضاربات العقارية ما كسبته في فورة المضاربات النفطية، فالارتفاع الحادّ في أسعار النفط لم يكن اقتصادياً، بل مالياً، ولم يكن للدول المنتجة التأثير الأكبر فيه بقدر ما ذهب التأثير إلى المضاربين. العامل الحاسم في هذا هو غياب رؤية استثمارية تستوعب الثروة الطارئة، وباستثناء الإنفاق الاستهلاكيّ تعود الثروة إلى منابعها، أي إلى أسواق المصدر. من المفيد في هذا السياق استرجاع ما يُعرف بالفائدة الحدّيّة لرأس المال؛ فالسيولة المادية تكون مفيدة إلى حدّ ما، يتقرّر بحجم النشاط الاقتصاديّ الحقيقيّ، إلى أن تتراجع المنفعة أو تنعدم كلّياً، وهذا هو حال فائض السيولة الذي لا يجد مطارح استثمار في الاقتصاديات العربية، كما أنه حال الرأسمال الماليّ العالميّ الذي اتّجه إلى المضاربة كوسيلة لتحقيق أرباح يصعب تحصيلها في النشاط الاقتصادي المعتاد، إلى أن بات أقرب إلى الرأسمال الافتراضيّ الذي يتضخم مستقلاً عن الواقع. على الصعيد النفطي أيضاً بدأت بوادر الانخفاض الحادّ في الأسعار، وستقف الدول النفطية أمام السؤال المتجدد؛ فانخفاض أسعار النفط قد يساعد الاقتصاديات المتقدمة على تجاوز الركود ويخفّف من الآثار السلبية على الاقتصاديات الآسيوية النامية، مما يعني من ناحية أخرى انخفاض عائدات الدول المنتجة، أو على أقلّ تقدير تضحيتها برصيد أكبر من احتياطياتها مقابل الريع نفسه. وإذا صحّت التوقعات المتشائمة حول انخفاض سعر البرميل إلى عشرة دولارات فهذا يتطلب مضاعفة الإنتاج ثلاث مرات للحصول على العائدات السائدة قبل الفورة الأخيرة، أي حدّ الثلاثين دولاراً الذي استهدفته منظمة الأوبك قبل الفوضى السياسية والاقتصادية التي ألمّت بالعالم.
قد تكون الدول العربية غير النفطية أقلّ تضرّراً على الصعيد المباشر، لكن اعتماد اقتصاديات هذه الدول على التحويلات المالية من الخارج، أو على قطاع السياحة سواء البينية منها أو الأجنبية، سيضعها في مواجهة شحّ الموارد، إذ من المتوقّع أن تنخفض التحويلات المالية من بلدان الاغتراب، ومع الانتكاسة التي أصابت الطبقة الوسطى الغربية سيتأثر القطاع السياحيّ في البلدان العربيّة الذي يعتمد في جلّه على السائحين من تلك الطبقة، ومن المعلوم أنّ سياحة الأثرياء تتّجه إلى أنحاء أخرى من العالم. لقد تعرض المستهلك “المتوسط” الغربيّ لانتكاستين هما الخسارة الثقيلة في صناديق التقاعد، وأزمة بطاقات الائتمان التي لم تتّضح أبعادها بعد، وستلحق هاتان الانتكاستان أضراراً بالغة بالعادات الاستهلاكية له، مما سيعمّق الأزمة في القريب العاجل، ومهما بدا هذا المستهلك بعيداً إلا أنه هو معيار الوضع الاقتصاديّ العام، يدلّ على ذلك حجم وطبيعة التبادل التجاري بين الاقتصاديات المتقدّمة ذاتها.
إذا شئنا البلاغة لشبّهنا ما يحدث بكرة الثلج المتدحرجة، لكنّ المأمول أن نغادر البلاغة العربية التي انتعش بعضها مع الأزمة الحالية، خاصّة الأصوات التي ارتفعت متشفّية بالغرب، ومتجاهلة الحجم الكبير من تشابك المصالح معه. بصرف النظر عن لا أخلاقية خطاب التشفّي فهو يركز على الخلاف السياسيّ، أو تضارب المصالح، ويشيح عن التشابكات الواقعية التي لا فكاك منها، فالعولمة أضحت أمراً واقعاً، وهي ليست مرتبطة بإرادة سياسية عارضة أو بإدارة أمريكية معينة. الرهان لن يكون على فكّ الارتباط مع النظام الاقتصاديّ العالميّ، وقد تمّ اختبار النتائج سابقاً في تجربة أنور خوجا البائسة في ألبانيا أو في التجربة المستمرّة لكوريا الشمالية؛ التحدّي الحقيقيّ هو الانخراط المدروس في الحركة التاريخية للعولمة، والمساهمة في تصحيح مساراتها وأخطائها، أما الإسراع إلى نعي النظام الرأسماليّ فلا يعبّر إلا عن رغبات أيديولوجية تنتعش مع الأزمة. لا يفرّق دعاتنا الذين يبشّرون بنهاية الرأسمالية بين الرأسمالية كنمط إنتاج وأنماط توزيع الثروة، ويغفلون التعددية التي ميّزت الفكر الرأسماليّ منذ بدايته، ومنها تباين الاجتهادات حول دور الدولة ومدى تدخلها في النشاط الاقتصادي؛ أي متى وكيف، وصولاً إلى واجب الدولة في التخفيف من حدة التناقضات الطبقية عبر تقديم الخدمات الضرورية للفئات الأكثر فقراً، أو حتى ما سُمّي بدولة الرفاه الاجتماعيّ.
لا بديل في المدى المنظور عن الرأسمالية كنمط إنتاج، وهذا لا يتنافى مع القول إنّ الحرية المطلقة للأسواق أوصلت العالم إلى مأزق حادّ، لذا ستبقى الاقتصاديات العربية في مواجهة استحقاق الرسملة، وعلى العكس مما يحدث في العالم لا تعاني الاقتصاديات العربية من غياب الدولة بقدر ما هي محكومة بتدخلٍ، يصل حدّ الاحتكار، من قبل الأخيرة. قد لا تعاني المجتمعات العربية مأزقاً كبيراً على مستوى الاقتصاد الجزئيّ لأنه ضعيف أصلاً، أما قوّة الاقتصاد الكلّيّ فهي غير كافية ما لم توظّف الحكومات هذه القوّة في إيجاد مطارح استثمار حقيقية وآمنة، وهذا بدوره يتطلب الحدّ من الفساد والاستبداد اللذين يتحكمان في السياسة الاقتصادية للدول العربية.
إنتاج الثروة بدلاً من استنزاف الموجود منها؛ هذا هو المثال الذي تقدّمه الاقتصاديات الناهضة في شرق آسيا، وهذه هي النقلة المطلوبة من الاقتصاديات العربية كي تغادر موقعها في التعيّش على فترات الانتعاش العالمية، وإن كان من عبرة آنية تُستخلص من الأزمة الحالية فهي هشاشة الانتعاش عندما لا يقوم على أسس اقتصادية راسخة، وما يرافق الانتعاش من ترف مبالغ فيه ينقلب لاحقاً على أصحابه “كما في قروض بطاقات الائتمان”. أيضاً ثمّة ما يمكن استخلاصه من أزمة الرهون العقارية؛ فأغلب الاقتصاديات العربية جرّبت التضخّم في القطاع العقاريّ، ومن ثمّ انهيار الاستثمارات فيه، ومن المعلوم أنّ الاستثمار في العقارات هو أكثر النشاطات بلادة، وأقلّها عائداً، إن لم يقترن بالمضاربات، وهذا ما يحدث على نحو دوريّ في بعض البلدان العربية بسبب غياب سياسات استثمارية جيدة.
نحن والأزمة الاقتصادية العالمية؛ ستبيّن الآثار المديدة، خلال سنوات الركود المنتظرة، موقعَنا. كما ستحدّد الاستراتيجيات المحلّية، أو غيابها، الموقع المستقبليّ في الدورة المقبلة من الاقتصاد العالميّ. يُقال إنّ التاريخ يسير عبر الآلام والآمال، فهل يصحّ ذلك عربياً أيضاً؟ أم إنّ المقولة ستبقى مبتورة؟
موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى